الدين
اسم الكتاب: الدين (بحوث ممهدة لدراسات الأديان)
اسم المؤلف: محمد عبد الله دراز
الناشر: دار القلم
بلد الناشر: الكويت
عدد الصفحات: 191
هناك قلة من الباحثين والكتَّاب يعرفون عن مدرسة مصطفى عبد الرازق الأزهرية، وهي مدرسة أنتجت العديد من المفكرين والشرعيين البارزين والمنفتحين على الإنتاج الفكري الغربي على نحو نقدي، ولكنها لم تلقَ اهتماماً كبيراً من قبل الباحثين فأصبحت مدرسة مغبونة.
وقد تعرضت هذه المدرسة لقضايا فلسفية ومعرفية دقيقة متعلقة بالدِّين والتراث الإسلامي، والرد المتين والعلمي على الطروحات الاستشراقية، وعبَّر عن هذه المدرسة بشكل أساسي أستاذها الشيخ مصطفى عبد الرازق صاحب الكتاب المهم “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” والذي فنَّد فيه العديد من الطروحات الاستشراقية.
وهناك أيضاً علي سامي النشار صاحب كتاب “نشأة الدين” وسلسلة “نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام”، كما يعد الشيخ محمد دراز من أبرز ممثلي هذه المدرسة، والذي درس لمدة ١٢ سنة في جامعة السوربون واكتشف الثقافة والفكر الغربي عن قرب. ومن أهم إنتاجاتهم الفكرية كتاب “دستور الأخلاق في القرآن” و”النبأ العظيم”، والكتاب عظيم الفائدة والذي يُعد إضافة نوعية في مجال فلسفة الدين هو كتاب “الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان”، وهو موضوع هذا المقال.
*** *** ***
في تحديد معنى الدين:
يبدأ دراز تحديده لمعنى الدين بالعودة إلى المعاجم اللغوية والاشتقاقات التي اشتقت منها كلمة الدين، حيث يرى أن كلمة “الدين” تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثة معان تكاد تكون متلازمة، فهي تؤخذ تارةً من فعل متعدٍّ بنفسه: “دانه يدينه” وتارة من فعل متعدٍّ باللام: “دان له”، وتارة من فعل متعدٍّ بالباء: “دان به”، ولكل منها صورة معنوية خاصة.
ففي حالة “دانه ديناً” يكون المعنى أنه ملكه وحكمه وساسه ودبرَّه وقهره وحاسبه، فيصبح الدين في هذا الاستعمال يدور في معنى المِلك والتصرف وكل ما هو شأن الملوك من السياسة والتدبير، ومن ذلك يأتي قوله تعالى “مالك يوم الدين”.
أما إذا قلنا “دان له” فيكون المعنى أنه أطاعه وخضع له، فالدين هنا هو الخضوع والطاعة، كما في قول “الدين لله” أي إثبات أن الحكم لله والخضوع له، وهو معنى ملازم للأول.
أما إذا قلنا “دان بالشيء” فيكون معناه أنه اتخذه ديناً ومذهباً، أي اعتقده أو اعتاده، فالدين هنا هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظرياً وعملياً وفي عاداته وحياته، وهذا المعنى تابع للمعنيين السابقين كذلك.
كل ذلك يشير إلى أن كلمة “الدين” عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يُعَظِّم أحدهما الآخر ويخضع له “فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعاً وانقياداً، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمراً وسلطاناً، وحكماء وإلزاماً، وإذا نُظِر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة أو المظهر الذي يعبر عنها”.
وهذا ينفي ما ظنه بعض المستشرقين من كون كلمة “الدين” دخيلة على اللغة وأنها معرَّبة عن العبرية أو الفارسية.
ومن ضمن الاستعمالات والاشتقاقات السابقة لكلمة “الدين” يشير دراز بأن ما يعنينا منها هو الاستعمالان الأخيران؛ لأن كلمة الدين في تاريخ الأديان لها معنيان لا غير، الأول يشير إلى الحالة النفسية التي نسميها التدين، والآخر هو الحقيقة الخارجية التي يمكن الوصول إليها عن طريق الآثار الخالدة والروايات المأثورة، وهي جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأمم، اعتقاداً أو عملاً، وهو المعنى الغالب.
في تفريق الخضوع الديني عن الخضوع غير الديني
يحاول دراز أن يقدم تصوراً عن الدين يجعلنا قادرين على معرفة الفوارق والمميزات التي تجعلنا نسمي نوعاً من الخضوع ديناً، ولا نسمي نوعاً آخر بهذا الاسم؛ أي أنه ليس كل خضوع دين بالضرورة، كما يحاول أن يتجاوز كل من التضييق أو التوسيع في تعريف كلمة الدين، والتي إما أن تنزع عنه مكونات أصيلة أو تضيف إليه مكونات غير متصلة جوهرياً بالدِّين.
فيشير إلى أن التحليل الدقيق لنفسية المتدين يكشف عن نوعين من هذه الفوارق والمميزات، الأولى هي في صفات الشيء الذي قدسه المتدين ويخضع له، والثاني في طبيعة هذا الخضوع، ويقدم هنا دراسة لهذا الموضوع.
وبناءً على ذلك يقول دراز بأن أول فرق بين الخضوع الديني والخضوع اللاديني يتمثل في مجموعة الصفات التي يحدد بها المتدين موضوع خضوعه ومناط تقديسه الديني؛ فالمتدين يهدف بتقديسه إلى حقيقة خارجة عن نطاق الأذهان، ويشير إلى ذات مستقلة قائمة بنفسها وليست مجرد عرض من الأعراض، بمعنى أن أول فرق في الدين هو أن الصِّلة مع المقدس عند المتدينين هي قبل كل شيء صلة بين ذات وذات، لا بين ذات وفكرة مجردة كما يحضر عن بعض التعريفات عند مجموعة من الفلاسفة الغربيين.
وهذا التقديس للذات إنما هو تقديس لذات لها صفات معينة، وأهم ما يميزها أنها ليست مما يقع عليه حس المتدين ولا ضمن دائرة مشاهداته، فهي ذاتٌ غيبيةٌ لا تُدرك إلا بالعقل والوجدان، مما يجعل الفاصل الثاني متعلقاً بالإيمان بالغيب أو بما وراء الطبيعة.
وهذا الغيب ليس من جنس الطبيعة المنفعلة، بل هو شيء ذو قوة فعالة مؤثرة، ويتباين في أسلوبه عن الطرائق التي تؤثر بها المادة فيما حولها، فالقوة التي يخضع لها المتدين يفهمها على أنها قوة عاقلة تقصد ما تفعل، وتتصرف بمحض إرادتها ومشيئتها.
وهذه القوة العاقلة المدبرة في نظر المتدين ليست قوة منطوية على نفسها ومنعزلة عنه وعن العالم، بل يرى المتدين أن لها اتصالاً معنوياً به وبالناس.
ومن هنا يصبح الحد الرئيس الذي يفصل بين وجهتي النظر الدينية واللادينية هو العنصر الرباعي: عنصر الذات الغيبية الروحية المتصلة معنوياً بعابديها، وهي قوة علوية سبحانية، قاهرة غير مقهورة، يخضع هو لها ولا تخضع له.
كما يوجد فرق أساسي بين الخضوع الديني والخضوع الطبيعي؛ ففي حين يكون الخضوع الطبيعي خضوعاً قهرياً لقوانين الطبيعة وبطريقة آلية، فإن الخضوع الديني للمتدين هو خضوع شعوري واختياري، فهو حين يخشع لمعبوده ويسجد لعظمته يفعل ذلك عن طواعية لا عن كراهية، لأنه يقوم في ذلك بحركة نفسية من التمجيد والتقديس.
وهذا الخضوع ليس هو ذلك الخضوع الذي يخلق اليأس ويكبت النفس ويحدُّ مجال العمل، “بل هو شعور يرفع عن القلب بما يفتحه أمامه من آفاق الإمكان”.
وبضم جميع ما ذكر، ينتهي دراز إلى تعريف يضم العناصر الرئيسيّة التي قدمها في التحليل، ليكون تعريف الدين هو: “الاعتقاد بوجود ذات – أو ذوات – غيبية- علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشؤون التي تعني الإنسان، اعتقادٌ من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد”.
ومن حيث كون الدين حقيقة خارجة فيكون الدين هو “جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها”.
وبهذه التعريفات يتمايز الدين عما قدمه بعض رواد المدارس الاجتماعية في تعريف الدين كما عند دوركايم وريناك، حيث تتلخص المآخذ على تعريفاتهم في أنهم لم يعتبروا من القدسية الدينية سوى جانبها العملي السلبي المتعلق بتحريم بعض الأشياء والتحذير من القيام بها مثل فكرة “التابو”، وفي أنهم جرَّدوا ماهية الدين من فكرتي “الروحية” و”الألوهية”، وحولوا الدين إلى محض ظاهرة اجتماعية.
الدين ونشأة الإنسان
يعارض دراز من يقول بأن الأديان إنما هي منظومات مستحدثة في تاريخ البشرية، والتي تفضي إلى نتيجة مفادها وجود مجتمعات بلا دين؛ أي أن التاريخ القديم شهد مجتمعات وأمم بلا دين، ولكن دراز يقول عكس ذلك، ويشير إلى الرحلات التي قام بها الباحثون خارج أوروبا واكتشفوا العقائد الدينية المختلفة عند الشعوب والقبائل، والتي تبين من مقارنتها أن فكرة التدين فكرة مشاعة لم تخل منها أمة من الأمم في القديم والحديث.
لا ينكر دراز، بطبيعة الحال، أن تكون هناك عقائد معينة قد استحدثت في عصر ما أو انحرفت عن أصل ديني، ولكنه يقول لا يوجد دليل واحد يثبت أن فكرة التدين في جوهرها قد تأخرت عن نشأة الإنسان، وبالتالي لم يوجد مجتمع بلا دين، ويستدرك على ذلك بالقول بأن “عموم الأديان لجميع الأمم لا يعني عمومها لكل أفرادها”، نظراً لوجود من انصرف إلى شؤون الحياة ونسي الدين وواجباته الدينية.
أصل الدين في الإنسان
يريد دراز أن يصل إلى نتيجة مهمة، وهو يقدمها من خلال التساؤل عن مصدر هذا الشعور الإنساني الذي يمده بالأسباب الروحية وبالاتصال مع العلوي والارتباط بالدِّين، وذلك على الرغم من التغيرات التاريخية وحتى التقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم.
تعود هذه القوة إلى الفطرة الإنسانية، وهي الذاكرة الروحية – على حد تعبير طه عبد الرحمن – التي استودعها الله في الإنسان للتعرف عليه وإدراك الأمور الروحية، وتحفز هذه القوة من خلال قوى النفس الثلاث التي تشكل امتداداً لنزعة التدين:
قوة الفكر: وهي التي تجعل الإنسان متطلعاً للبحث عن الأسباب الأولى، فهي مبدأ العلم والإيمان، ومنطلق البحث عن حلقات الأسباب والغايات، والتي تصل إلى ذاك الشوق الغريزي إلى الأزلي الأبدي، عن طريق البحث عن أصل وجود الأشياء.
قوة الوجدان: من حيث أن الدين ضروري لتكميل قوة الوجدان، بالعواطف النبيلة من الحب والشوق والشكر والحياء والأمل وغيرها في حال لم تجد ضالتها المنشودة في الواقع وفي الناس، أي إذا جفت ينابيعها في هذا العالم المشوب بالنقص، فستجد في الدين مجالاً لا تُدرَك غايته ومنهلاً لا ينفذ معينه.
قوة الإرادة: والدين عنصر أساس لتكميل قوة الإرادة بحكم أنه يمدها بأعظم البواعث والدوافع، ويدفعها بأكبر وسائل المقاومة لعوامل اليأس، عن طريق الإيمان بالحياة الآخرة بشكل أساس.
*** *** ***
خاتمة: في القيمة الاجتماعية للدين
إن الدين من حيث هو وازع أخلاقي متصل بمبدأ علوي يشكل قوة ليس على وجه الأرض ما يكافئها لكفالة احترام القانون وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه.
وذلك لأن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات بأن حركاته وسلوكه ينضبط ويُقاد بشيء متجاوز للسمع والبصر والحس، وهذا المعنى الإنساني هو الفكر والعقيدة، وهو أكثر متانة من سلطة القانون والعقوبة المادية الرادعة، التي ينتظر الفرد فيها فرصة الفرار منها والاطمئنان من كونه يمكن أن يفلت من سلطة القانون.
فالخدمة الجليلة التي يؤديها الدين للمجتمع تتمثل في شيء عظيم سنختم فيه هذا المقال، وهو ما عبَّر عنه دراز في أن الأديان “لها وظيفة إيجابية أعمق أثراً في كيان الجماعة، ذلك أنها تربط بين قلوب معتنقيها برباط من المحبة والتراحم، لا يعدله رباط آخر من الجنس أو اللغة أو الجوار أو المصالح المشتركة”.