الدين والسياسة تمييز لا فصل
الكثير من الأسئلة في الفكر العربي والإسلامي بقيت عالقة من غير إجابة، بحكم تركيبها وتعقديها خاصة مع طبيعة واقعنا من جهة، وبحكم غياب أقلام المبدعين والمفكرين ليحلوا لهذه الأسئلة ويقدموا إجابات أصيلة عليها.
ولعل إشكال العلاقة بين الدين والسياسة أحد هذه الإشكالات والأسئلة الصعبة التي لم يُجب عنها ولم يعتنى بها كثيراً، خاصة من قبل التيارات الإسلامية في المشرق العربي، في حين قام إسلاميو المغرب العربي بتقديم إجابات متميّزة، سواء على مستوى المفكرين أو على مستوى الحركات الإسلامية.
ويأتي كتاب الدكتور سعد الدين العثماني المغربي، أحد القيادات الإسلامية في حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية في المغرب، والذي قدم تجربة واعدة في الممارسة السياسية عند الإسلاميين جديرة بالاعتبار من قبل التيارات الإسلامية الأخرى.
*** *** ***
يؤسس العثماني تصوره عن العلاقة بين الدين والسياسة من خلال النظر في أنواع التصرفات النبوية، على اعتبار أن التفريق بين تصرفات النبي تؤسس لنمط خاص من العلاقة بين الدين والسياسة تميز المنظور الإسلامي وتنعكس بالإيجاب على الممارسة السياسية المعاصرة للحركات الإسلامية إذا ما وضعتها في عين الاعتبار.
كما تكمن أهمية هذا الموضوع في تجاوز الخلل الذي يحصل كثيراً، وهو النظر إلى التصرفات النبوية على أنها من نوع واحد وعلى وزن واحد، والظن أنها كلها وحي مقصود بتمثّلاته التاريخية. ويرجع العثماني إلى مجموعة من العلماء والأصوليين في التراث الإسلامي ليبيّن قصور هذه النظرة، وكيف أن هناك عدة أنواع للتصرفات النبوية فصل فيها العلماء وتناولوها، كالدينوري وابن القيم الجوزية، والطاهر ابن عاشور من المعاصرين، وأهم من توسع في هذا الموضوع هو العالم الأصولي القرافي. لكن لم يتم الاعتناء بهذا كثيراً من قبل المسلمين اليوم من مفكرين وعلماء وحركيين.
وتنقسم التصرفات النبوية بالاستفادة من جهود العلماء كالآتي:
وفيما يخص التصرفات النبوية بالإمامة، وهي التي تعنينا في سياق فهم العلاقة بين الديني والسياسي، فإن لها مجموعة سمات أساسية ححددها الأصوليون والعلماء، فهي وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء، فهي غير مقام النبوة، وهي تصرفات جزئية مرتبطة بتدبير الواقع وسياسة المجتمع ضمن مكان وزمان معين، فهي ليست شرعاً عاماً ملزماً للأمة، وموضوع اتباع الأمة هو المنهج الذي بنى عليه الرسول تصرفاته.
كما أنها تصرفات مرتبطة بتحقيق مصالح عامة، وهي مصالح اجتهادية من الرسول، فهو يتصرف بها بوصفه إماماً باجتهادة ورأيه، وهو يمكن أن يصيب ويمكن أن يخطئ، وهو ما يجمع عليه الأصوليون، وهي تأتي منه بغير وحي. والسمة الأخيرة فيها هي أنها مرتبطة بأمور الدنيا لا بأمور الشرع والدين.
أثر ذلك على الفقه السياسي وقضايا الإصلاح
ينبني على هذا التفريق بين أنواع التصرفات النبوية أن الدولة في الإسلام دولة مدنية وليست دينية، “فالإسلام ينزع كل عصمة أو قداسة عن ممارسات الحكام وقراراتهم، كما ينزعها عن الوسائل التي تتوسل بها الدولة لإدارة شؤون الأمة … فهي إذا دولة دنيوية، قراراتها بشرية”.
كما يبين هذا التفريق الفكرة التي يريد العثماني أن يؤسس لها، وهي أن العلاقة بين الدين والسياسة ليست الفصل ولا الوصل، وإنما التمييز، “فالدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وكقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية”.
وهذا التمييز ينبني عليه التفريق بين دور المفتي أو العالم، وبين دور الإمام أو رئيس الدولة، “فالفتيا تعتمد الأدلة الشرعية… أما تصرف الإمام يعتمد المصلحة الراجحة في حق الأمة، أي غير الدليل الشرعي”.
كما تفيد بأن الاختيارات الي كان يقوم بها الرسول في الإمامة غير ملزمة لمجموع الأمة، وهذا ينطبق أيضاً على تجربة الخلفاء الراشدين التي ظل الفكر الإسلامي العاصر حبيساً لها، فموضوع الاقتتداء بتجربتهم يكمن في القيم والدوافع التي تحركهم وبمنهج هذا التفاعل، أما الأشكال المؤسساتية والدستورية، والاجتهادات التشريعية والسياسية فهي نتاج بشري اجتهادي دنيوي مرتبط بالسياق التاريخي وظروفه، وغير ملزمة لجموع الأمة.
وهنا يؤكد العثماني على مسألة ذات صلة بهذا الأمر ومتعلقة بقضايا الإصلاح السياسي، وهي أن الإسلام لم يضع شكلاً محدداً للحكم ولا لمشاركة المواطنين فيه، بل ترك ذلك للإبداع البشري وتطوره، يقتضي هذا الأمر وبالإضافة للنقاط التي عرضناها أعلاه أنه يجعل المسلمين منفتحين باستمرار لتطوير نماذج الحكم، والاستفادة من تجارب الغير خاصة بالنسبة للنظام الديمقراطي، لكن هذه الاستفادة وتطبيقها على واقع المسلمين لا يلغي مشروعية العمل على ملاءمة الديمقراطية مع المبادئ الدينية والحضارية للمسلمين.
كما يعرج على قضية تطبيق الشريعة عند الحركات الإسلامية، وينقد كيف تم اختزال معناها إلى مجرد الحدود والعقوبات الجنائية، فالشريعة هي في الأصل مجموع الدين بكلياته وجزئياته، وعلى من يؤمن في تطبيق الشريعة أن يحاول إقناع الآخرينا بها حتى يبتناه المجتمع بالطرق الديمقراطية بدلاً من فرضها على المجتمع بالسلطة والقهر. كما يؤكد أنه ليس من مهمة الدولة أو أي جهة سياسية التدخل في شؤون اعتقاد الناس وفرض تصورات أو اجتهادات دينية معينة عليهم، فمهمة الدولة هو تدبير الشأن العام في إطار نظام القيم في المجتمع. أما الدعوة والتبشير والتربية فهو من واجب العلماء والهيئات الدعوية والمجتمعية.
ومن الجدير بالذكر أن العثماني يؤسس تفصيله للعلاقة بين الدين والسياسة بتمييز معاني الدين في اللغة والشرع، على اعتبار أن معاني الكلمات في اللغة متعددة وتتحدد بحسب السياق.
فهناك معنيين للدين، الأول عام وهو يشمل مختلف أشكال نشاط المسلم وجميع الأعمال التي يأتيها بما فيها ممارسته الدنيوية والسياسية، فكل ما يأتي به المسلم في حياته هو دين وعبادة بالمعنى العام. وهناك معنى خاص للدين، وهو يعني ما هو عبادي أو تعبدي من الدين، في مقابل ما يعتبر من العادات أو من الدنيا.
وهذا المعنى الخاص من الدين مهم في سياق العلاقة بين الديني والسياسي، كتأسيس لفكرة الاجتهاد البشري ومشروعيتها، كما أن التفريق بين الدين والدنيا بهذا المعنى خاص أمر معروف عند الأصوليين والعلماء، وهو يأتي بتعبيرات مختلفة، كالتفريق بين التعبدي والعادي، أو العبادي والمصلحي، أو بين ما هو مصلحة للآخرة وما هو مصلحة للدنيا، والتراث غني بهذه التفريقات. ومن هنا تأتي فكرته حول كون العلاقة بين الديني والسياسة تمييز بين مجالين لا فصل.
حول تجربة حزب العدالة والتنمية
وقد انعكس فكر سعد الدين العثماني على حزب العدالة والتنمية المغربي، إذ عملوا على الفصل بين الدعوي والسياسي عن طريق فصل حزب العدالة والتنمية عن حركة التوحيد والإصلاح، وتأكيد إستقلال الهيئتين عن بعضهما البعض.
كما عمل الحزب على تأسيس خطاب متوازن لا يلغي قضايا الأخلاق والهوية لكن يعطي المزيد من الأهمية لتحديات التنمية والتدبير، فباتت قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي يشكلان أولوية رئيسة في برامج الحزب المتتالية.
وتؤكد أدبيات الحزب وتصريحات قياداته على أنه ليس حركة “دينية” ولا “دعوية”، “بل هو حزب سياسي مدني ذو مرجعية إسلامية، له برنامج سياسي مدني يعمل على تطبيقه وفق القواعد الديمقراطية، ويجيب عن الأسئلة المطروحة سياسياً وليس دينياً. وهو يسعى إلى الإسهام في تدبير الشأن العام من قبل ماطنين مدنيين ذوي خبرة في الشأن العام من قبل مواطنين مدنيين ذوي خبرة في الشأن العام وفق القواعد الديمقراطية، وليس من قبل “رجال دين” أو أئمة أو فقهاء بصفتهم تلك”.
ويؤكد الحزب على مرجعيته الإسلامية، باعتبار أن على السياسة أن تنطلق من ثقافة ومعتقدات المجتمع الذي تمارس فيه، سواء بالاعتماد عليها أو احترامها، وتنعكس آثار هذه المرجعية على دور في بناء ثقافة سياسية ملتزمة، وتعزيز المسؤولية المدنية والأخلاقية، وباعتبارها أرضية صلبة للقيم والتشريع الاخلاقي التي تنبني عليه قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وتأكيد الحزب على كون الإسلام “مرجعية” للحزب وليس “هوية” يأتي لدلالة، وهي أن المرجعية تؤكد مميزاً خاصة للحزب لكن تلغي المشترك مع الآخر، بينما الهوية تعمل على المغايرة مع الآخر والاختلاف معه.
*** *** ***
إن الرؤية التي يقدّمها العثماني فيها أصالة وجدّة، وفيها دروس على المستوى الواقعي للإسلاميين بشكل عام. وإذ لا مراء في أن للمغرب العربي خصوصية من ناحية شرعية الحُكم وفي كيفية استصحابه لثقافة الأمة –خلافاً للدول العربية التي وصفت نفسها يوماً بأنها “تقدمية”، إلا أنه لا يفوت الدارس أن هذه الرؤية تتسّم بفهم متزن للحياة والدين. وأعتقد أن مقولة التمييز بين الدين والسياسة والتي تتسق مع المنظور الإسلامي كما قدمه الكاتب هي الأنسب لتحديد العلاقة بين الديني والسياسي، لكن لا بد من أن نكون على وعي بأن مثل هذه المقاربة قد تبدو للبعض على أنها شكلاً من أشكال العلمانية، وهي ليست بذاك ولا تعدو أن تكون رفضاً لتحكيم منطق العبادات في ساحة العاديات.