الســبـر التاريخي و أصل القرآن

192

لا نعرف كتابا سماوياً أو توجهاً دينياً دعا للتفكر في تاريخ و أحوال الأمم مثل ما دعا إليه الإسلام في قرآنه المنـزل . وهذا ينسجم مع طبيعة الخطاب القرآني الذي لا تفتأ آياته تذكرنا بتحريك العقل “أولم يتفكروا …” ” قل سيروا في الأرض فانظروا …” وبالتأكيد في كثيرٍ من السياقات بأن ما يُقرِّهُ القرآن – حتى في الإيمانيات – إنما له شواهده العقلية “أفلا يعقلون….” “لآيات لقوم يعقلون…”. وفضلاً عن ذلك فإن هذا التأكيد ينسجم مع المنظومة الفكرية الإسلامية التي جعلت العقل مناط التكليف وصرَّحت بأن القناعة العقلية أصل قبول الإسلام ، فلا يحتاج الدخول في الإسلام إلى تصديقٍ وتوثيق رسمي أو غير رسمي من الجماعة المسلمة (المركز الإسلامي مثلا) ، بل هو انصياعٌ ذاتي في يتمثلُ في مجرد تصديق العقل و تسليم القلب .

ولقد كان هذا التوجه للخطاب العقلي واضحاً في تاريخنا الإسلامي حيث نمت وتطورت علوم العقيدة والفقه بكل فروعها وتطبيقاتها مُظهِرةً بوضوح أن العقل يتدخل في فهم الدين سواء كان في أسسه العقدية أو في تطبيقاته الشرعية . فالإسلام يرى نفسه أنه نزل على قوم “يتفكرون” ، حتى أن القرآن شبَّه حامل العلم من غير فقهٍ له كـ”الحمار يحمل أسفارا..” وجعل هذا صفةً دالّةً على الضلال “بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين” . ومن المعلوم أنه لا يوجد في الإسلام أو في اللغة العربية مفهوم “إيمانٍ أعمى” كالذي نشاهده في اللغات الأوروبية . وبناءً على هذا التوجه العقلي فإن الإسلام لم يتهرب من تمحيص مقولاته بالعقل و بالعلم ، بل إن هذا هو ما تحدى به القرآن غير المؤمنين به .

ولقد تحدّى القرآن على وجه التحديد أولئك الذين يقولون أن القرآن كلام بشر بأن يأتوا بالأدلة ، وكان منطق القرآن في هذا التحدي هو الخطاب العقلي والمحاورة الذهنية . فلم يأمر القرآن مثلاً بقتل أولئك الذين يفترون عليه ، بل قال مجادلاً بالحجة الباهرة “لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين” . وطلب من المنكرين أن يحلّوا هذا اللغز العقلي “وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون”.

أحببت أن أقدم بما سبق ليكون مدخلاً لمناقشة ما نشرته المجلة المرموقة The Atlantic Monthly في عددها الصادر في شهر (كانون الثاني / يناير) من هذه السنة الميلادية تحت عنوان “What is the Koran ” لتطرح أن باحثين من مختلف التوجهات العلمية و الدينية يقترحون نظرياتٍ جديدة عن القرآن و تاريخ الإسلام داعين إلى إعادة تأويل الإسلام تأويلاً عصرياً . وفي هذه القضية بالذات فقد كان المفتاح إلى هذا الطرح هو التنقيب عن الآثار .

والقصة باختصار تقول أنه أثناء العمل على تجديد الجامع الكبير في صنعاء عام 1972 وجد العمال مدفناً لأوراقٍ من القرآن الكريم جمعوها في عشرين كيس ووضعوها على درج المئذنة إلى أن تنبه إليها القاضي إسماعيل الأكوع الذي كان حينها رئيس المؤسسة اليمنية للآثار . وبعد فترة طُلِبَ إلى جامعة سارلاند في ألمانيا أن تقوم بدراسة وتدقيق تلك الأوراق . و قامت الجامعة بتنظيف وتمليس ومعالجة الـ 15000 ورقة التي عُثرَ عليها ، ثم بدأ الخبير الألماني Puin يقرأ فيها ليجد أن تاريخ هذه الصحف يعود إلى القرنين الهجريين الأول والثاني حسب تقديره ، لا سيما أنها مكتوبة بالخط الحجازي النادر .

والمهم في المسألة هو أن هذا الخبير ومساعديه وجدوا حتى الآن (وهم ليسوا إلا في بداية العمل) اختلافاً بين ما هو مكتوب في هذه الأوراق المصحفية وبين القرآن كما يعرفه المسلمون اليوم وكما عرفوه منذ أُنزل على الرسول الكريم . والنتيجة حسب رأيهم أنهم حصلوا أخيراً على برهانٍ بأن القرآن الموجود بين يدي المسلمين ليس بالضرورة هو القرآن الصحيح ، وإنما هو مجرد وثيقةٍ تاريخية مثل أي وثيقةٍ أخرى تخللها – حسب زعمهم – التغيير و التحريف و الزيادة و النقصان .

ويأتي الآن السؤال الهام :كيف نفهم هذه المعضلة؟ هل يكون ذلك عبر التأكيد بأن الخبراء الذين يصلون إلى نتائج تناقض المسلمات الإسلامية مغرضون؟ ولكن إذا كانوا كذلك فكيف يأتون بالأدلة “العلمية” والأمور المحسوسة التي تدعم دعاواهم؟ أم هل نتطرفُ ونحكم بأن علم الآثار بذاتهِ – إذا كان يؤدي إلى مثل هذه النتائج – فإنه يكون عندها تزويراً محرماً و تلاعباً مذموما؟ والحقيقة أن أياً من هذه الأسئلة لا يمكن أن تساعد في حل هذه المعضلة . ولا سبيل لنا إلا بوضع القضية في إطارٍ أكبر يهدف إلى تفحُّص المنظور العام والمنطلقات الأساسية التي تحتضن هذه الدراسات ، الأمر الذي سيُمكِّنُنا من فهم مثل هذه النتائج التي خلصت إليها .

والحقيقة أن المشكل لا يكمن في علم الآثار وقراءة المستخرجات الأثرية ، كما أنه لا يكمن في شخصية الخبراء ذاتهم وما يمكن أن يظنّه البعض عداءً سياسياً للإسلام متأصّلاً فيهم بقدر ما يكمن في طريقة تفكيرهم ، أو على الأصح في الإطار العام الذي ينظم تفكيرهم ، هذا الإطار الذي يتحكم في كيفية جمع متناثر المعلومات وضمّها إلى بعضها في نظريةٍ محددةٍ أو تفسيرٍ مُتّسق .

فرغم أن المنطق العلماني ( العلمي و الأدبي و الثقافي العام) يرتكز على مسلمة الرؤية المادية البحتة لهذا الكون بكل ظواهره ، إلا أنه اصطدم مبكراً بملاحظة الدين كظاهرة غير مادية رافقت الوجود البشري دوماً. ولتفسير هذا الشذوذ عن رؤيتهم تنبأ أساطين عصر التنوير بأن الدين ظاهرةٌ خرافية ترافقت مع الجهل الإنساني وأنها ستذوب إلى عالم الفناء بعد أن سطعت شمس العلم التجريبي والثورة الصناعية . ومن جهة أخرى فإنهم سعوا لتفسير هذه الظاهرة تفسيراً مادياً بحتاً .

إن جذر المشكلة يكمن في وجهة المذاهب اللغوية والأدبية في تأويل النصوص و الوثائق الدينية ، وإن علينا أن نفهم خريطة ذلك العقل العلماني حتى نحل مثل هذه المعضلات . فهذا العقل يبتدأ من مسلمات لا يناقشها و لا يسمح لأحد بالمساس بها ، و كل من يشك فيها يُطردُ من دائرة “ذوي الفهم” ويُعد متحيزاً متعصباً لدينه الذي أحبه في صغره أو الذي نشأ عليه في شبابه كانتماء قومي . يبتدأ الفرض العلماني من مسلّمة أن العالم من حولنا إنما هو مادةٌ فحسب ، وكل تظاهرٍ غير مادي يجب البحث عن خلفياتٍ مادية وراءه . و تبدأ الفَرَضية المادية بأنه ليس هناك إلهٌ خالق وأنه ليس هناك أي شيء موحى ، ولذا يجب تفسير كل ما يُسمّى بأنه كتابٌ سماوي بتأويلات لغوية تُعيدهُ إلى الأقاصيص والحكم المتواجدة في المجتمع آنذاك . واستطراداً فإن الدين ليس إلا تبلوراً للخرافات ضمن ظرفٍ اجتماعي خاص .

إنه بدون فهم هذه المسلمات العلمانية الكبرى يعجز علينا فهم مواقفهم المختلفة وأفكارهم الجزئية . ومجرد عرض هذه المسلمات يشير إلى أنه لا مجال للأخذ و العطاء في أفكارهم لأن الخلل عميقٌ وأساسيٌ وليس خللاً طارئاً ، وكذلك فإن المسألة ليست مجرد خلافٍ جزئي لا يحتاج إلا إلى مجرد تهذيب إسلامي .

و الجدير ذكره أن المقال لا يقتصر على مجرد ذكر هذا المصحف اليمني (كما يسمونه) و إنما هو حشدٌ لمقولات كثيرة قديمة و حديثة تُشكِّكُ في قضية جمع القرآن أو تؤوله على طريقتها ، بما فيها المقولة المعروفة باسم Hagarism والمطبوعة عام 1977 من قبل Crone و Cook والتي تدّعي بأن القرآن ظهر في القرن الهجري الأول وأن مكة لم يكن لها تلك الأهمية والمركزية بل كان مركز الفعل في شمال غرب الجزيرة العربية (أقرب إلى أرض الروم ، ولا عجب) و أن الهجرة لم تحدث . وهناك مقولة Morozov من أن الإسلام لم يكن يختلف كثيراً عن اليهودية إلى أيام الصليبيين! أو قراءة Wansbrough الإنجيلية للإسلام . وبالطبع فالمقال يورد ذكر الـ”متفهمين” العرب أمثال نصر أبو زيد ومحمد أركون وحتى نجيب محفوظ ، كما أنه يُقحم – لسببٍ ما – ذكر قصة فرج فودة .

و أحب هنا الاستطراد والإشارة إلى حجم المسؤولية المُلقاة على عاتق من يتعاملون مع هذه العلوم الاجتماعية و الإنسانية و التاريخية والأدبية المذكورة . وقد تصدّت لهذه المهمة جهودٌ طيبة في السنوات الماضية ، وتُعرف بأسماء متعددة مثل إسلامية المعرفة أو الوجهة الإسلامية للمعرفة أو المنظور الإسلامي للمعارف (والتي – بالمناسبة – يُسيء البعض فهمها و يحسبها ارتكاساً لنجاح العلم الغربي وأنها مجرد محاولة لإلباس العلم جبةً وعمامة) .

وربما كان من المناسب في هذا المقام تحليل موقف التفكير الإسلامي من الظروف المادية و علاقتها بالدين و التدين . فهل هناك تناقضٌ بين طلاقة الإرادة الإلهية والحق المُطلق الكامن في القرآن وبين الظروف والمسببات الاجتماعية؟ لقد أراد الله سبحانه أن يكون الإسلام خاتم الرسالات ، فبعثه في أرضٍ متميزة لا هي منعزلةٌ تماماً و لا هي أرض تغمرها موجات الهجرات البشرية . فلو كانت أرضاً معزولة بالتمام لربما انتهى الإسلام في جيل ، ولو كانت أرضاً عامرة بالكلية لربما تفتت الإسلام معها . ولو بعثه في أرض ذات سلطان مستقر وقوة عسكرية منظمة ودواوين إحصائية لربما غلبت تلك الأوضاع الدين العالمي ، ولكان مصيره مثل مصير المسيحية الأصلية التي ابتلعتها الإمبراطورية الرومانية . لكنّ قدَرَ الله هيأ لرسالة الإسلام أرضاً تحجّ إليها القبائل بحيث يحصل الاتصال المبدئي ثم يتطور بالتدرج وبقدرٍ معلوم ريثما تقوى شوكة المسلمين . ومن أجل هذا دفع التوجيه القرآني المسلمين نحو بلورة القاعدة الانطلاقية في الجزيرة قبل التفكير في أي امتداد خارجي . و بعث الله تعالى الإسلام بِلُغةٍ في قمة أوجها و لكن دون أن يكون هناك آثار واسعةٍ لما قبل هذه القمة . ورغم إعجاز القرآن الواضح في جميع الأحوال ، فإن افتقاد مثل هذا التراث بشكلٍ متراكمٍ ومكتوب ، ربما يكون قد ساعد من يتلقَّونه على التعامل معه وفهمه بصفاءٍ ونقاء لا تشوبه الشوائب الأدبية والفنية الخارجية ، أكثر مما لو كان مثل ذلك التراث موجوداً .

و هنا نجد من الضرورة بمكان الإيضاح أننا حين نقول أن الله أراد حفظ القرآن الكريم فإن ذلك لا يعني أنه حفظه بغير جهود البشر . بل إن ذلك تحقق بهممٍ المسلمين العالية ، سواء كان بجمع أبي بكر للصحف وعرضها على الحفظة في شكل من مجلس تدقيقٍ جماعي ، أو في الاجتهاد العثماني الجريء في حضور كبار الصحابة من أنه لم يعد هناك حاجةٌ للأحرف السبعة كلها ، والذي كانت نتيجتهُ الاقتصار على حرفٍ واحد وإصدار النسخ المختومة الموثقة توطئةً للانتشار العالمي للإسلام . وحين واجه المسلمون الظرف العالمي الذي كان من معالمه تواجد اللغات العديدة قاموا بتنقيط القرآن واللغة ، ثم تنامت بعد ذلك ثقافةٌ وفنونٌ تعتني بتخطيط القرآن وتزيينه مما يؤكد ويزيد في إبعاد إمكانية تحريفه . وفي العصر الراهن حُفِظَ القرآن بالشرائط السمعية كما حفظ حديثاً إلكترونياً في أجهزة الحاسب الآلي (الكمبيوتر) . وفوق كل ذلك و أهم منه تواترُ الحَفَظَة من يوم التنـزيل إلى الآن ، بل وإن طريقة تلاوة القرآن قد حُفظت بقواعد التجويد[1]. ومن كل هذا يتبين لكل ذي عقلٍ كيف أن حفظ القرآن الكريم لم يأت بغير السنن الجارية ومساهمة العقل البشري .

وعودةً إلى الصحف المتناثرة التي وُجدت في اليمن ، نجد أن هناك تفسيراتٍ كثيرة منطقيةٍ ممكنة ، يستطيع أن يقبلها كل من يدرك آلية حفظ القرآن التي تحدثنا عنها . وعلى سبيل المثال فإن من الممكن القول بأن المسلمين أنفسهم وجدوا أخطاء في كتابة هذه المخطوطات، الأمر الذي دفعهم – انسجاماً مع اهتمامهم بحفظ القرآن – إلى أن يحفروا لها و يدفنوها . لاسيما وأن الصحف (كما تقول المجلة) تُظهرُ كتابةً ممحيةً خلفها مما يُرجّحُ هذا التأويل . ولكن الانطلاق من الخلفية الفلسفية التي تحدثنا عنها في المنهج العلماني – الذي يتعلق بجزئية مادية وينفخ فيها و يريد أن يفسر فيها كل شيء – سيرى على الأغلب في مثل هذا التأويل تعسفاً ، ولن يتمكن من رؤية البديهة التي تنسجم مع طريقة تعامل المسلمين مع كتابهم المنـزل …

وبالمناسبة فإن ما تريد المجلة أن تعزوه للقرآن – من منطلق مساواته بالإنجيل الذي يعملون على دراسته وتحليله انطلاقاً من الفرضيات السالفة الذكر – يشابه إلى حدٍّ بعيد ظروف الحديث الشريف الذي لم يُكتب مباشرةً وقت سماعه – بعكس القرآن – ودخلت فيه المقولات المحلية والحِكَم ، مع الفرق الكبير الحاسم والمُتمثل في تطوير المسلمين لعلوم الحديث والجرح والتعديل الذي فرز الغثّ من السمين وأبقى على نصاعة القول النبوي . ومرةً ثانية كل ذلك عبر جهد المسلمين البشري و ليس بقوى غيبية غير مفهومة .

وتنفع الإشارة إلى أن العاملين في هذا المشروع حريصون على أن لا يثيروا غباراً وعلى أن يعملوا بهدوء (كما يقول المقال) إلى أن يُخرجوا تفسيراتهم إخراجاً منمقاً مقنعاً يصلحُ أن يكون قنبلةً ثقافية ترجُّ أركان العقول المسلمة التي لا تتنبه إلى أن مدخلاً خاطئاً وإطاراً معيناً يُفسد المعلومات الموضوعية داخله ويوجهها باتجاه ثقافي مغاير ويوظفها في صالح مقولاتٍ حضارية معينة . و بالتحديد فإنهم يعزمون على إخراج موسوعة القرآن Encyclopedia of The Quran لتكون مرجعاً ثقافياً عالمياً حول الإسلام والقرآن من زاويتهم الحضارية .

والخطير في مثل هذا المشروع لا يقتصر على أثره بين المسلمين أو على فهم الغرب للإسلام ، وإنما يتمثلُ في قدرته على تشويه صورة الإسلام عند أصحاب الحضارات الأخرى مثل الحضارة الصينية على سبيل المثال . و رغم أنه يوجد بين الإسلام وديانتي الحضارة الغربية التقليدية بعض القواعد المشتركة ( مفهوم أن هناك خالق مثلاً) مقارنةً بالحضارة الصينية ، إلا أن هذه الحضارة تمرُ – من الناحية العملية – بمرحلة توتر بين الذاتية وتقليد الغرب ، الأمر الذي يجعلها مرشحةً للتفكير بالإسلام في لحظة عدم التوازن هذه ، ولاسيما أن تواضع الحضارة الصينية وشعورها بالظلم العالمي إلى جانب السطحية النسبية لطرحها الديني يجعلها مؤهلةً لسماع الخطاب الإسلامي ، فضلاً عن أن فيها كتلةً بشرية مسلمة منسجمة نسبياً . هذا في مقابل التقابل الحضاري بين الإسلام والغرب الذي له جذوره الضاربة في التاريخ ، والذي يجد صداهُ هذه الأيام مع توصيات أمثال Huntington في مقاله “صراع الحضارات” والذي يؤكد فيه على وجوب الحرص على منع تقارب الكتلتين المسلمة والآسيوية الشرقية .

و أختم بالاستشهاد بمقطع في غاية البلاغة للعلامة الفيلسوف Parvez Manzoor الذي يُدرّسُ في جامعات السويد والذي أوردت المجلة مقولته من باب ذكرها لما وصفتهُ بأنه “محاولاتٌ دفاعية عن الإسلام والقرآن” :

“إن المشروع الاستشراقي للدراسات القرآنية – بغض النظر عن خدماته الأخرى – مشروع ولد في الضغينة وترعرع في الحسرة وتغذى بالانتقام . إنه ضغينة القوي على الضعيف ، وحسرة مُدّعي العقلانية على المتهم بالخرافة وانتقام المتمسك بالقديم على اللاإنقياد . وفي هذه الساعة العظيمة من العلو العالمي يُنسق الرجل الغربي قوى الدولة و الكنيسة و الأكاديميا ويشن أقوى اعتداءاته على قلعة إيمان المسلمين ، وتجتمع السمات الظاهرة لعنجهية شخصيته – طيشها العقلاني ، وخيال سيطرتها العالمية مع طائفيتها المتعصبة – في مؤامرة غير مُقدّسة لتُـزيح النص المسلم من موضعه المكين المتين كذروة الأصالة التاريخية و حصانته الخلقية . وإن غاية انتصار الرجل الغربي الذي سعى إليها بمغامرته المشهورة هو العقل المسلم بذاته . من أجل الخلاص من (مشكلة) الإسلام للأبد لا بد من تيئيـس الضمير المسلم وإبعاده عن الوثوق العقلي بالخطاب الديني الموحى إلى النبي . إنه فقط ذاك المسلم الذي تختلط عليه الأصالة التاريخية أو الاستقلال العقدي لتنـزيل القرآن يُمكنه التخلي عن مهمته العالمية ، وبالتالي لا يشكل تحدياً للهيمنة العالمية للغرب . هذا على الأقل ما يظهر بأنه كان التبرير المبطن ، إن لم يكن الصريح للهجوم الاستشراقي على القرآن”.

[1] وبقيت حفص و ورش من القراءات، ولو توارت القراءات المتعددة واختصت بأهل العلم، وبقي مسلمو اليوم على قراءة واحدة لكان مزيداً من الخير و البركة، والله أعلم.

 

محرم 1420 هـ / 05-1999