العولمة ومستقبل الحضارة الإسلامية

448

عند الحديث عن الحضارة أرى من المناسب أن أستهلّ هذا الحديث بالتعريف. فقد قال الفيلسوف البريطاني – برتراند راسل – مرة بأن الحضارة تولد من خلال السعي للترف والمتعة والذي أنتج الأعمال العظيمة والقصور الفخمة والفنون الجميلة مثل تاج محل وقصر فيرساي وغيرها.

فإذا اقتربنا من العصر الذي نعيش فيه أخذ فيه تعريف الحضارة منحىً اقتصادياً، فآدم سمث هو الذي قال عن الحضارة – وعلى الأقل الحضارة الغربية – إنها تولد عبر السعي للربح. وأقرب منه إلى هذا العصر كارل ماركس رأى الحضارة ومسيرة التاريخ تولد من السعي للاستئثار بفائض الإنتاج. وأرى من زاوية مختلفة أن الحضارة ولدت من خلال السعي للإبداع والتركيب. وقد يكون هذا التركيب المبدع بين الأخلاق والمعرفة أو بين الدين والعلم أو بين إحدى الثقافات وثقافة أخرى، ويبقى المحرك الأساس هو الإبداع التركيبي.

فإذا نظرنا إلى الإسلام رأينا أوج الإبداع في الاستعداد للتركيب والمزج بين الأخلاق والمعرفة وبين الدين والعلم وبين الإسلام والثقافات الأخرى.

فمن ناحية الإعتقاد أصبح الإسلام جامعاً للرسالات الثلاث (اليهودية والنصرانية ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم)، فهناك الكثير عن التوراة والعهد القديم في القرآن، وهناك الاعتراف والتقدير لأنبياء بني إسرائيل، وهناك الكثير عن العهد الجديد والإنجيل من الاعتراف والإيمان بولادة عيسى من غير أب، إلى كثير من معجزاته وآياته. وإلى جانب هذا هناك حياة محمد في مكة والمدينة وجهاده ودعوته. فالإسلام كحضارة بدأ من هذا الجمع والتركيب الإبداعي.

وبين القرنين التاسع والرابع عشر للميلاد أبرزت الحضارة الإسلامية قدرة عالية على التركيب والتأليف العلمي والتكنولوجي، فكما تلقى الإسلام اليهودية والنصرانية بالاعتراف والقبول في إطار الدين، فقد أظهر الإسلام موقفاً منفتحاً على اليونان القديمة في الإطار الدنيوي ليظهر لنا نماذج من أمثال ابن رشد الذي اعتبره كثير من العلماء من أتباع مدرسة أرسطو ومن أوائل المسلمين الذين قالوا بكروية الأرض. وقد كتب ابن سينا شروحاً مطولةً للفلسفة اليونانية وقد اعتبره الكثيرون مجدداً لفلسفة بلوتو في كثير من توجهاته وكان صاحب أهم مؤلف طبي في العصور الوسطى فقد كان كتاب القانون في الطب المرجع الطبي في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر. فالإسلام تعلم من اليونان القديمة وعلّم أوروبا العصور الوسطى.

لقد برزت الحضارة عملية إبداعية وتركيباً ثقافياً منذ تنزل الآيات الأولى من القرآن الكريم والتي أفصحت عن شيء لم يكن في حساب النبي محمد ولا في تصوره. لقد بدأ الوحي بـ (اقرأ) وكانت هذه الكلمة هي ما قدر لتمام الوحي أن يكون (القرآن) أكثر كتاب في تاريخ البشرية يُـقرأ في لغته الأصلية. لقد كان الإنجيل أكثر الكتب قراءة ولكن عبر ترجمات ولكن القرآن يُـقرأ في كل يوم في صورته الأصلية ولغته الأصلية من ملايين المتعبدين عبر الكرة الأرضية. فعندما انتشرت هذه الآيات البسيطة الأولى من الوحي قبل أربعة عشر قرناً تهيأ العالم لتلقي ثقافة جديدة هي ثقافة القراءة في حضارة تعترف وتحترم العلم والمعرفة. لقد اعتقد المسلمون أن كلمات الوحي الأولى هي كلمات تتعلق بالمعرفة وأن الأمر الأول للنبي كان (اقرأ) فارتبطت عبر هذه الآيات الأولى العلوم البيولوجية بالعلوم العقلية، ومنذ إعلان هذه الآيات أن المصدر المطلق للمعرفة هو الله فقد كانت تحذيراً من التكبر والعجب بالمعرفة وتحذيراً من الانتقائية الزائفة التي يمارسها البشر، فصارت المعرفة ملتزمة أخلاقياً وكان الأمر القرآني: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق]. فالله تعالى علّم بالقلم واستعمل القلم لتعليمنا ما لم نعلم. لقد كانت الآيات الأولى حول المعرفة والعلم وتحذيراً من الجهل ورفعاً لشأن المهارة الإنسانية.  ونحن نعلم اليوم أن القوة هي في جانب من يعلم وليست في جانب من يملك – رغماً عن كارل ماركس.

لقد كانت الآيات الأولى من القرآن نبوءة بانتصار المعرفة وبإمكانية سيطرة المهارة. ولقد تردد صدى هذه الدعوة القرآنية عبر العصور لتكون المعرفة هي محور الإبداع والتمازج والتركيب.

العولمة

سيكون العالم الإسلامي في القرن الواحد والعشرين – على الأغلب – واحداً من مواقع الصدام والمواجهة لقوى العولمة بما لها أو عليها من خير وشر. ومن الطبيعي أن يكون لظاهرة العولمة خاسرون ورابحون. وفي المراحل الأولى تندرج إفريقيا وجزء كبير من العالم الإسلامي في زمرة الخاسرين حيث ستبرز الحقائق والوقائع أنهم يدفعون ثمن العولمة. فهناك بعض الجامعات في الولايات المتحدة تمتلك من أجهزة الكمبيوتر أكثر مما تمتلكه دولة مثل بنغلادش أو السنغال.

دعنا نواجه التحدي ولنبدأ بالتعريف: ما هي العولمة. فعلى أحد المستويات تمثل العولمة فعاليات ونشاطات تؤدي إلى الاعتماد المتبادل بين دول العالم وزيادة سرعة التبادل عبر المسافات. ومع بداية الألفية الميلادية الثالثة تأخذ العولمة ثلاثة معانٍ:

البعد المعلوماتي للعولمة

وهي القوى التي تحول نماذج المعلومات حول العالم وتحاول تشكيل ما أطلق عليه (طريق المعلومات السريع) لتتوسع مصادر المعلومات وتدفع بالكمبيوتر والإنترنت لتكون خدمة عالمية. وهنا لا بد من السؤال: هل هذا المعنى للعولمة يهمّـش العالم الإسلامي؟

البعد الاقتصادي للعولمة

وهي القوى التي تحول السوق العالمي وتحاول تشكيل علاقات اعتماد اقتصادي متبادل عبر المسافات البعيدة. وبالطبع فإن دول إفريقيا والعالم الإسلامي ستتأثر ولكن لن تكون في مركز التحول. ومع ذلك فإن من غير الممكن أن لا تكون أجزاءٌ من العالم الإسلامي مركزية في هذا المعنى من العولمة لأنها تنتج البترول والذي يحرك الجانب الاقتصادي من العولمة.

المعنى الشمولي للعولمة

والبعد الثالث هو المعنى الشمولي للعولمة وهي القوى التي تحول الدنيا إلى قرية عالمية وتختصر المسافات وتجانس الثقافات وتزيد في سرعة الانتقال وتقلل من أهمية الحدود السياسية. وبهذا التعريف الشامل تصبح العولمة الطريق للوصول بالدنيا إلى القرية العالمية. ومثل هذه القوى موجودة في العالم الإسلامي وبقية العالم منذ زمن بعيد، فقد تكون كلمة العولمة جديدة ولكن هذا المعنى لها قديم.

وبهذا المعنى الشمولي فإن هناك أربعة عوامل محركة للعولمة: الدين، والتكنولوجيا، والاقتصاد، والدول العظمى (الإمبراطوريات). ولم تعمل هذه العوامل بشكل منفصل عبر التاريخ بل على العكس عملت بشكل يدعم بعضها بعضاً. وكمثال على ذلك بدأت النصرانية بعدها العالمي عندما تحول الإمبراطور الروماني إلى النصرانية عام 313 للميلاد وعندها أصبحت النصرانية الدين السائد في أوروبا والبلاد التي حكمتها أوروبا فيما بعد.

ولم تبدأ عالمية الإسلام بتحول امبراطورية قائمة ولكنها بدأت من اللبنات الأولى التي جمع شتاتها الأمويون والعباسيون من الإمبراطوريات الأخرى الرومانية والقبطية والفارسية ليتم تشكيل حضارة جامعة جديدة.  ورغم أن قوى أتباع الإسلام والنصرانية كانت في حالة صراع أحياناً ولكن حركة امتداد الديانتين قد ساهمت في العولمة بمعناها الشامل. وكانت رحلات الاكتشاف مرحلة جديدة من العولمة. لقد أبحر الرحالة المسلمون إلى الشرق وفاتتهم فرصة الإبحار إلى الغرب، وانطلق الأوروبيون إلى الشرق والغرب معاً وفتح – فاسكو دوغاما – وكولومبوس فصلاً جديداً في تاريخ العولمة وكان الاقتصاد وتوسيع الإمبراطورية المحرك الرئيس وما تبعه بالطبع من الهجرات البشرية.

الإسلام في الطرف المتلقي

انطلاقاً من الاستعداد الفكري والنفسي للانتفاع بالعلم حتى من أرسطو، ومن الاستعداد للنظر في أداء الثقافات المختلفة، يمتلك المرء القدرة على النظر من جديد نظرة غضّة للثقافة الإسلامية ويقيم أداءها ويتحرى تفاعلاتها.

إن الثقافة هي مزيج من الولاء والهوية والشعور بالمسؤولية يمتد خارج إطار الأسرة الصغيرة. فأنا أعيش هويتي كمسلم وانتمائي الإفريقي في ولاء مشترك يتجاوز النسب المباشر.

فبناء الحضارة الجديدة لن يكون حصراً بالسعي نحو الترف واللذة كما قال “راسل” ولن يكون بالسعي لتوزيع الفائض من الإنتاج كما حاول “ماركس” أن يقنعنا ولن تولد الحضارة من السعي نحو الربح كما أخبرنا “آدم سمث”. فهناك أشياء أخرى كثيرة يجمعها ويمزجها التركيب المبدع الخلاق. حتى في العلاقات الأسرية توجد قواعد وأصول في بعض الثقافات لا بد من دمجها في أعراف الحضارة المقبلة. وأميل إلى الاعتقاد بأن هناك أعراف وتقاليد إسلامية وإفريقية ما زالت مراعاةً حتى الآن والتي لا أشك أن الغرب سينتفع بها. وإذا كان هناك من حضارة يمكن بناؤها فإن الحضارات المهددة من الحضارة الغربية عندها من ثقافاتها وقيمها –في مجال الأسرة على الأقل– ما تساهم به لكبح جماح طغيان الانتصار.

05-1424 هـ / 07-2003 م