اللغة والتفكير… اللغة والقرآن
النظرة نحو اللغة على أنها وسيلة تعبير وتواصل أو على أنها وسيلة تبادل ونقل للأفكار فقط لم تعد نظرة دقيقة، وخصوصًا مع تطور فلسفة اللغة، فاللغة اليوم هي بيت الأفكار والمفاهيم، منها تخرج المشكلات، ومنها تخرج الحلول، أي إنّ اللغة هي بيت الوجود كما يعبّر”هيدجر”، فنحن ندرك الأشياء والحوادث من خلال اللغة، بل لا يمكن أن نفهم شيئًا أو نعقله إلا من خلال قالب لغوي، لذلك يقول هيجل: “إننا لا نفكر إلا داخل الكلمات… وكلّ رغبة في التفكير دون كلمات محاولة خرقاء لا أصل لها”.
وهنا يأتي تساؤل هام: لماذا نفكر من خلال اللغة؟ والجواب على ذلك يحتاج تفصيلًا، لكن من الممكن أن نختصر فنقول: إنّ اللغة تقوم بشيء اسمه التصنيف، أي إن هذا العالم المعقد الذي نعيشه بمؤسساته الاجتماعية والتكنولوجية من إدراة الدول والبنوك حتى التخلص من النفايات؛ تقوم اللغة بترتيبه وتصنيف أجزائه، والتصنيف هو جمع أشياء متفرقة تحت مسمّى واحد، مثلًا: عندما أقول “بيت ريفي” فإني أستحضر عدّة مفاهيم متفرقة: أن البيت خارج المدينة في هدوء وبعد عن الضجيج، أنه يحوي مزرعة وخراف، أنه بسيط الأثاث، أنه مستقل وليس ضمن عمارة وهكذا، وعندما أقول “بيت مدني” أستحضر أنه داخل المدينة، في الضجيج، وأن أثاثه أفضل من أثاث بيت الريف، وأنه ضمن عمارة.. وهكذا.
وهنا نتساءل أيضًا لماذا تصنِّف اللغة لنا العالم؟ والجواب بسيط لأن العالم معقد وغنيّ وثري بالأشياء، واللغة تختصر علينا الجهد في الإدراك فتجمع لنا العالم تحت تصنيفات ونماذج، لكن هل في هذا التصنيف خطورة أو فيه عرقلة للتفكير الصحيح؟
في الحقيقة تتولّد خطورة كبيرة من هذا التصنيف؛ لسببين اثنين: أنّ اللغة تفرض بتصنيفاتها ونماذجها كثيرًا من الاعتيادية، وتفرض أيضًا كثيرًا من الشرعنة، ويمكن أن نشرح هذين السببين:
- الاعتيادية: بدلًا من أن تكون تسميات اللغة ومفاهيمها افتراضًا مبدئيًا للاحتكاك بالعالم والشروع في فهم ظاهرة ما، بدلا من ذلك تتحول اللغة إلى أنماط جاهزة من التفكير، وتأويلات ساذجة، مثلا لو قُدِّم إلينا رجل على أنه محامٍ أو طبيب أوشيخ أو مهندس، فإننا نستطيع أن نبني بعجالة إطارًا كاملًا عن حياته وأن نتصور مستواه العلمي وأحيانا النفسي وأن نتخيل طريقة التعامل المناسبة معه قبل أن نتعرف عليه بشكل عمليّ حقيقيّ، بمعنى آخر يصبح إدراكنا للشيء عفويًا ومقدّمًا على الإبصار، فاللغة تتيح لنا الإدراك بسرعة وتقدّم لنا مفاهيم جاهزة لكنها تمنعنا من الإبصار بشكل قريب من هذه المفاهيم، لذلك يصبح تعاملنا مع اللغة آليا أيضًا دون تركيز مثل تعاملنا مع إشارة المرور، فنحن لا ندقق في ألوان الإشارة الأحمر والأخضر ولا في شكل الإشارة.
- الشرعنة: اللغة لا تقدّم تصنيفات محايدة للمفاهيم، فلكل مجتمع تصنيفاته اللغوية، التي تعكس نظرته للعالم، ومن يرسّخ هذه التصنيفات ويشرعنها هو التعليم والإعلام والسياسة، ويمكن أن نأخذ على ذلك مثالًا واقعيًا: تقديم أي جهة إعلامية أو سياسية للثورة في أي بلد تحت اسم “حرب أهلية” يجعل من نظرة الأشخاص الذين يثقون بهذه الجهة نظرة غير واقعية ومغلّفة بكثير من المفاهيم المغلوطة، لأنهم يربطون بين الكلمة والمعنى الذي تقود إليه ربطًا آليًا دون محاولة استبصار وتدقيق، لذلك يعيب “جورج أورويل” على الذين يسمحون للغة السياسة والإعلام أن تفكّر عنهم.
وخلاصة القول إنّ اللغة هي من يمدّنا بالمعاني، وبذلك يصبح تفكيرنا معتمدًا على اللغة وتصبح رؤيتنا للعالم من خلال اللغة، وبالتالي لا تصبح اللغة مفتاحًا لفهم العالم بل تصبح قيدًا وإطارًا نتحرك داخله، وقد تفكر عنا اللغة، وقد تخلق أنماطًا جاهزة من التفكير وتحجزنا عن التدقيق في الواقع وتعطينا سذاجة في الفهم والتأويل، وعادة الذي يكسر هذه الاعتيادية وهذه الشرعنة للمفاهيم وهذه الأنماط الجاهزة من التفكير هو الأدب والشعر والنقد، فالأدب استخدام غير مألوف للغة، يجعلنا نستعيد الإحساس بالظواهر ويجعلنا ندرك الأشياء على حقيقتها.
وإذا أتينا إلى لغة القرآن الكريم فإن الله تعالى جعل معجزة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم معجزة لغوية تحتاج إلى العقل والإدراك ولم يجعلها معجزة حسية كمعجزات باقي الأنبياء، وفي جعلها معجزة تقوم على اللغة امتحان خطير للإنسان في مقدرته على فهم لغة القرآن دون الوقوع في أخطاء يجرّه إليها فهمه الاختزالي عن هذه اللغة الشريفة، فالمؤمن بأنّ القرآن كلام الله لا يتّهم لغة القرآن بأنها مضلّلة كلغة السياسية والإعلام، يل يتهم عقله البشري وإدراكه المسيء للغة القرآن، وهذا ليس فقط لأن القرآن الكريم وحي إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن لأنّ القرآن نفسه أمرنا بأمرين:
- أمرنا بتدبّر القرآن وفهم آياته أي تدبّر لغته نفسها وهذا يجنّبنا الآلية والإدراك السريع في الفهم عن لغة القرآن، “أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها”.
- وأمرنا بالوقوف على المعنى من خلال الآيات كلها لا من خلال التفريق والتقسيم، وهذا ما يبعدنا عن الاختزال الذي قد توحيه اللغة، لذلك عاب القرآن على المشركين الذين فرقوا بين آيات القرآن بغية التضليل، قال تعالى “كما أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرآن عِضين * فوربّك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون”.
ويمكن أن نقول إنّ أوّل محاولة جادّة في فلسفة اللغة والدوران حول مشكلة الألفاظ وبيانها كانت مع علماء أصول الفقه، الذين درسوا اللغة القرآنية وقسموا دلالاتها تقسيمات دقيقة، فقسموا مثلًا الألفاظ الوارادة في القرآن إلى واضح الدلالة وهو على عدّة درجات منها الظاهر والنص والمفسّر والمحكم، وإلى غير واضح الدلالة وهو على درجات أيضًا كالخفي والمشكل والمجمل والمتشابه.
ولنقف عند آيتين من القرآن لننظر إلى تأثير اللغة في الفهم، أو إلى تعاملنا نحن مع اللغة القرآنية للوصول إلى المعنى المراد من الله تعالى:
قال تعالى “وكان حقًا علينا نصر المؤمنين”، وقال تعالى “يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة”.
نستشكل من الإدراك العفوي للغة هنا إشكالين خطيرين:
- الإشكال الأول: أنّنا مؤمنون بتعريف الإيمان، فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشرّه، فإذا كنا مؤمنين فلم لا ينصرنا الله؟
- الإشكال الثاني: أننا يجب أن نقاتل كل كافر وأن نغلظ عليه، وتعريف الكافر كل من لم يؤمن بالله تعالى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن هناك من الكفار من لا يؤذينا من لا يقاتلنا، من يحترمنا!
هذان الإشكالان مرتبطان باللغة القرآنية فاللغة هنا قدّمت لي حكمًا مرتبطًا بقالب لغوي بصنفين أو بمفهومين جاهزين، مفهوم الإيمان ومفهوم الكفر، لكنَّ هذين المفهومين لا يكفي تعريفهما بالماهيّة فقط كما يتبادر إلى ذهننا، بل هما بحاجة إلى تدبّر في تفاصيلهما وبحاجة إلى ربط آيات القرآن ببعضها كما سبق وذكرنا.
عند التدبّر نرى أنّ مفهوم الإيمان لا يتمّ إلا بالأخذ بأسباب النصر التي جعلها الله تعالى أساسًا تقوم عليه أحداث الكون “إنا كل شيء خلقناه بقدر” “يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم”، فلا يكفينا التعريف العام للإيمان في فهم المراد من الآية، بل لا بدّ من فهم ما يلتبس صفة الإيمان من أمور واقعية كالأخذ بالأسباب، فلا يمكن أن نقول أنت مؤمن إذن أنت منصور من الله، هذا حجب أوصلنا إليه فهمنا الظاهر للغة القرآنية، وهذا الفهم الاختزالي حجبنا عن رؤية واقع المؤمن وفحص ما يلتبسه من تقصير في تحقيق أسباب النصر.
وعند التدبّر نرى أن مفهوم الكفر الذي يتحدث عنه القرآن هو الكفر الذي يعتدي علينا والكفر الذي يخرجنا من بيوتنا، أما غيره من أهل الكفر فنحن مأمورون بالإحسان إلى أهله وعدم ظلمهم، قال تعالى “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم” فلا يمكن أن نقول إن أي كافر يستحق القتل أو يستحقّ أن نجور عليه، هذا حجب أيضًا تمارسه اللغة فينا عن رؤية الواقع، وإخلال بأمر التدبّر الذي أمره الله، فلا بدّ من النظر في حال الكافر أو الأمة الكافرة، بعيدا عن التصنيفات الجاهزة.
وبذلك نرى أثر اللغة خصوصًا في فهمنا عن الله تعالى وكيفية قراءتنا للقرآن، وأثر اللغة عمومًا في رؤيتنا للأحداث والعالم، وأنه يجب أن يكون السامع أو القارئ أكثر استبصارًا وإدراكًا، بعيدًا عن التعامل بالماهيّة وبعيدًا عن التعامل الآلي اللاواعي.