المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية
اسم الكتاب: المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية
اسم المؤلف: د. عبد المجيد الصغير
يكثر في قراءة تاريخ الأفكار غياب لدراسة العلاقة بين المعرفي والسياسي، على اعتبار أن المعرفي يمثل تاريخ الفكر، بينما يمثل السياسي تاريخ الواقع المعاش، وعادة ما يتم رد هذه إلى تلك بشكل مجازف؛ كالقول بأن فكرة معينة كان لها تأثير على واقعة سياسية ما أو على نهضة أمة أو تخلفها، من دون الوعي بالإطار السياسي والاجتماعي للأفكار.
ويظهر ذلك بشكل كبير عند قراءة تاريخ الأفكار في التراث الإسلامي، والذي تتحول قراءته إلى مساحة لتفريغ الصراعات الأيديولوجية بين التيارات المختلفة لغرض إثبات مواقفها، وكل هذا في مقابل أن تحصل قراءة للتاريخ تكشف عن بنيته الداخلية وحركته المعاشة في لحظته.
لذلك تأتي قراءة الدكتور عبد المجيد الصغير لجانب من تاريخ الأفكار لتسد ثغرة في هذا المجال، خاصة في ما يتعلق بالجدل بين المعرفي والسياسي؛ ففي كتاب “المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية” يقدم الكاتب تصوراً جديداً للعلاقة بين المعرفة والسياسة من خلال توظيف مقولة “السلطة العلمية” كأداة تحليل، والتي تتجاوز فكرة التأثير المباشر للأفكار في الواقع، بقدر ما تحاول أن تبحث في المكانة الاجتماعية للأفكار وانعكاس ذلك على السياسي ضمن فضاء الصراع بين كل من السلطة العلمية والسلطة السياسية.
وينبني تصوره على عدم وجود فصل بين المعرفي والسياسي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن كل الأفعال يمكن اختزالها بمآلاتها السياسية، بقدر ما يعني أن للنشاط المعرفي انعكاس ما على السياسي بحكم اشتباكه مع الواقع الاجتماعي ودخوله في مساحة التبدير الاجتماعي، واندراجه ضمن الخطابات الموجود على الساحة والتي تمتلك سلطة وتأثيراً على المجتمع.
وفي هذه المراجعة سوف نعرض ونناقش لأهم أفكار هذا الكتاب، حيث نوصي بقراءته، ويُتبع بقراءة كتاب “الدولة المستحيلة” لوائل حلاق، بالإضافة إلى سلسلته عن الفقه الإسلامي وتاريخه، والذي يبين فيها تقاطعات مهمة بين الفقه والسياسة.
العلاقة بين المعرفة والسياسة في التجربة الإسلامية
يتمثل أحد أوجه الصراع بين السلطة السياسية والسلطة المعرفية في الاتجاه نحو تقليص سلطة رجل السياسة مع توسيع أنواع أخرى من السلطة الممثلة للجماعة قيمها، والمعرفة المنبثقة عنها والمتكلمة باسمها.
فهناك علاقة جدلية بين الفكر والواقع الممثل بالأطر المجتمعية، وهو ما يجعل كل إنتاج معرفي “قصدي” الدلالة وذو وظيفة اجتماعية وسياسية بغض النظر أكانت ظاهرة أم مضمرة، وهو ما يجعل العلاقة بين السياسي والمعرفي علاقة ضرورية ومتبادلة.
وبالرغم من عدم امتلاك المفكر أو العالم أو الفيلسوف لزمام القرار، إلا أنه يمتلك القدرة على التحليل والتقويم، ومؤهل للنقد والتأثير والتوجيه، وهو ما يجعل من معرفته “سلطة” مؤثرة، وبالتالي منافسة لسلطة رجل السياسة. هنا تحضر كل من السلطة والشرعية كأدوات تأثير للعالم.
يذكر الكاتب إشارة مهمة في هذا السياق، وهي أن هذا التداخل بين السياسي والمعرفي أدى إلى بروز تفريق عند منظري السياسة الشرعية المسلمين، بين مفهوم السياسة ذاته ومفهوم القيام. فتم تعريف السياسة على أنها “القيام على الشيء بما يصلحه”. وهو ما يتضمن هذا الفصل عن طريق توسيع مفهوم السياسة لتشمل كل أنواع التدبير، وهو ما يجعل منها مجالاً متداخلاً بين التخصصات، “فسواء تعلق الأمر برجل السلطة الفعلية أو بصاحب المعرفة العلمية فكل منهما رجل سياسة يملك سلطة وقدرة على التأثير”.
ومن تجليات ذلك حرص رجل العلم على التماس شرعية وجوده داخل الأمة من خلال العودة للأصول (القرآن والسنة) الذي يؤسس لمفهوم الجماعة، وبحكم امتداد هذه الشرعية في المجال الاجتماعي والسياسي، وُجد صراع بين رجل العلم ورجل السياسة حول الاستئثار بالنص المؤسس؛ فيحتج رجل العلم بالقدرة على تأويله وضبط بيانه وفقهه، بينما يحتج رجل السياسة بحفظه ودفع الأخطار عن أمته.
ينشأ من ذلك تقاطع بين سلطتين في تاريخ الإسلام: “سلطة المعرفة التي تطمح أن تكون سياسية، وسلطة السياسة التي ترغب في امتلاك المعرفة وتوظيفها”.
لذلك يعتبر الكاتب أن الإنتاج المعرفي في تاريخ الإسلام ذو بعد سياسي واجتماعي، هذا الإنتاج الذي تمثل في علميّ أصول الفقه ومقاصد الشريعة. لا يقصد الكاتب حصر هذا الإنتاج ببعده السياسي، وإنما من باب التأكيد على وجود هذه الدلالة بالإضافة إلى الدلالة المعرفية.
بين سلطة القلم وسلطة السيف
اتخذت تجربة “العالِم” مع رجل السياسة، منذ بداية العهد الأموي وحتى عصر التدوين، طابعاً عنيفاً اتسم باضطهاد الفقهاء والعلماء وتعذيبهم والتنكيل بهم، وهو ما فرض على العالم أن يزيد من المسافة بينه وبين رجل السياسة، أدت هذه المسافة إلى اشتغال العالم بالمعرفة والعلم، وهو ما أثمر فئة جديدة ازداد أثرها في الرأي العام، ألا وهم الفقهاء والمحدثون والمفسرون، والذين شكلوا قوة جديدة لها دورها المهم على الصعيد الاجتماعي.
وقد سعت هذه الفئة إلى توسيع نفوذها الاجتماعي وتعزيز استقلالها عن رجل السياسة، عن طريق إقامة المراكز العلمية دون مساعدة الدولة، وعن طريق مساعدات أفراد المجتمع وتمويلهم وتشجيعهم.
وقد كان هناك سعي من قبل السلطان أو الخليفة على الهيمنة على هذه المعرفة والسلطة التي حازها العالم في المجتمع؛ وقد ظهر هذا في طلب الخليفة أبي جعفر المنصور فرض كتاب الموطأ للإمام مالك، وهوما قابله الإمام بالرفض بحكم تعدد الآراء الفقهية بحسب الأمصار، مما يخفي دعوة إلى استقلالية كل مجتمع ومنطقة بتشريعها الخاص المنبثق عن فقهائها المنتمين للمجتمع، وصدّ رجل السياسة عن احتكاره وتحكمه بالعلم والمعرفة المتمثلة بالفقه والشريعة.
ومن مفارقات هذا الأمر، أن السلطان كان ينزع نحو تأطير المعرفة الفقهية والكلامية وتوجيهها، في حين كان همّ الفقيه أو العالم هو الحفاظ على شرعية الاختلاف باعتباره رحمةً للأمة، وضماناً للاجتهاد وحق إبداء الرأي مراعاة لتغير الأزمنة والأمكنة.
ومع وعي العِالم بخطورة السياسي، عمل على إعادة تأصيل المفاهيم التي كان رجل السياسة يوظفها لصالحه؛ فكانت نشأة علم أصول الفقه في هذا السياق ذا دلالة سياسية، خاصة مع جهود الإمام الشافعي الذي ساهم بتكوين “سلطة علمية”، ومع تأطير المفاهيم وتأسيسها علمياً، لتتشكل سلطة علمية يعترف بها صاحب السيف أنه لا يشعر بالذل والتبعية والخضوع إلا حينما يقف ببابها؛ من جهة لكونه يجهل أدواتها ومناهجها بحكم انشغاله بالسلطة، ومن جهة أخرى لكونها تحظى بشرعية اجتماعية وتصون الشريعة وتجددها، الشريعة التي تشكل لباب الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية للمسلمين.
ومن المفيد هنا أن نختم بنقل كلام عن المستشرق الألماني جوزيف شاخت في تعبيره عن الحياة الإسلامية عندما قال: “التشريع الإسلامي يقدم مثالاً لظاهرة فريدة، يقوم فيه العلم القانوني، لا الدولة، بدور المشرع، وتكون فيها مؤلفات العلماء قوة القانون. وكان هذا يعتمد على شرطين هما: أن العلم القانوني كان هو الضامن لاستقرار ذاته واستمراره، وأن سلطة الدولة حلت محلها سلطة أخرى هي سلطة الفقه والفقهاء. وقد تحقق الشرط الأول بفضل مبدأ الإجماع، وقد تحقق الشرط الثاني القول بأن أساس الشريعة الإسلامية هو حكم الله”.