بُعد الأمة في الخطاب المقاصدي عند الإمام ابن عاشور

485

أشرنا في مقالٍ سابق في هذه السلسلة من الدراسات حول مقاصد الشريعة إلى الإضافة النوعية التي قدمها الإمام الشيخ الطاهر بن عاشور على ماقدمه الإمام الشاطبي في هذا الباب . وتحدثنا باختصارٍ عن قيام الإمام ابن عاشور بإدخال واعتبار بُعد الأمة – أي البُعد الجماعي – بدلاً من الانحصار في اعتبار المكلف الفرد عند النظر في التشريع . وسنحاول في هذه الحلقة إلقاء بعض الأضواء التفصيلية على هذه المسألة ذات الحساسية البالغة ، وذلك لما يمكن أن ينتج عنها من اختلاف جذري عند التعامل مع مقاصد الشريعة .

إن إضافة بُعدِ الأمة عند ابن عاشور مكَّنهُ من حل أكثر من مشكلة في آنٍ واحد . فمن الأسطر الأولى في مقدمة كتابه يقرر الإمام أن “مصطلحي إذا أطلقتُ لفظ التشريع أني أريدُ به ما هو قانونٌ للأمة ولاأريد به مطلق الشيء المشروع فالمندوب والمكروه ليسا بِمُراديْنِ لي”1 . وبهذا فهو يقررُ أن علم مقاصد الشريعة علمٌ يتناول الموضوعات العامة ذات الصبغة الجماعية ، وأن الأحكام التي يأمل أن يؤسس قواعدها هي أحكامٌ تتناول المجتمع والأمة والجامعة الإسلامية ، ثم إنه يتابع قائلاً : “كما أرى أن أحكام العبادات جديرةٌ بأن تُسمى بالديانة ولها أسرارٌ أخرى تتعلق بسياسة النفس وإصلاح الفرد الذي يلتئم منه المجتمع”2 .

وأحسب أن هذا المدخل الذي أصَّلهُ ابن عاشور رحمه الله قادرٌ على حل مشكلةٍ كبرى في تاريخ الفقه والأصول تتعلق بالمقابلة بين فكرة التعبد وبين معقولية التكليف . وتظهر ملامح هذا الحل عند مقارنة طرح ابن عاشور بما قدَّمهُ الشاطبي في هذا الباب .

فلقد مزج الشاطبي رحمه الله في كتابه “الموافقات” تعريفه للمقاصد الضرورية بين الدنيا والآخرة لأن بُعدَ الأمة لم يكن حاضراً في كتابته . أما ابن عاشور فإنه يقرر بوضوح : “فالشرائع كلها وبخاصةٍ شريعة الإسلام جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل ، أي في حاضر الأمور وعواقبها ، وليس المراد بالأجل أمور الآخرة لأن الشرائع لا تُحددُ للناس سيرهم في الآخرة ، ولكن الآخرة جعلها الله جزاء على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا”1 .

ومن هنا لا نرى غرابةً في أن الشاطبي يكتب للفرد ويُحددُ مقصد الشريعة بأنه إخراج العبد عن داعيةِ هواهُ ليكون عبداً لله ، ويمزج بين الدنيا والآخرة ويتكلم عن التكاليف بأن منها ما هو معقول المعنى – أي أن باستطاعة البشر إدراك المعاني والحِكَمْ الكامنة وراء تكليفهم بها – ومنها ما هو غير معقول المعنى ..

أما ابن عاشور فحيث أنه وضع الأمة كإطارٍ للبحث في المقاصد فقد كان من المناسب تماماً أن يفصل بين الحديث عن المقاصد وبين أحكام الآخرة ، لأن الآخرة هي جزاءٌ للأفراد {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} وكذلك فإنه يكتب عن الأمة ، والجزاء الجماعي للأمة هو في الدنيا ، كما أن المسؤولية عما تتورط فيه الأمة مسؤولية جماعية {واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ومن الصعب إدخال النيات ومقاصد الأفراد في صياغة الأحكام الجماعية . ولذلك فقد وصف ابن عاشور التشريع بأنه قانون الأمة .

وإن من الواضح أنه عندما يكون الحديث عن الأفراد كإطارٍ للمقاصد فإن من الطبيعي أن تتوسع دائرة التعبد وغير معقول المعنى، لأن الفرد مُطالبٌ بالإيمان بالغيب ، ومُطالبٌ بالإيمان بالمُتشَابه من آيات الصفات دون كيف ، ومُطالبٌ بالإحالة إلى التسليم عند الشك ، ومُطالبٌ بمخالفة الهوى ، ومُطالبٌ بإصلاح النية والقصد والتوجه ولو لم يعلم على التفصيل حكمة ما طُولبَ به من عبادات وشعائر ونُسكٍ وأوامر ونواهٍ .

وكلما تجاوز الأمر العباديُّ الفرد وأُعطي بصيغةٍ تمس الأمة والجماعة ضاقت مساحة غير معقول المعنى ، وتوسَّع العلماء في الحديث عن المصالح والحِكَم . ولا تجد من ينكر المعاني والمصالح الكامنة وراء اجتماع المسلمين للصلاة والجمعة والأعياد والزكاة والصدقات وصلة الأرحام وعيادة المرضى والمواساة وغير ذلك من الأمور ..

حتى إذا وصل الأمر إلى ترتيب مصالح المسلمين العامة في الدنيا كان من الطبيعي أن تضيق بل وتنتهي دائرة غير معقول المعنى لأن ذلك ألصقُ بطبيعة التدين الفردي الذي مال ابن عاشور إلى تسمية أحكامه بالديانة تمييزاً لها عن التشريع الذي خصّهُ بمجال الأمة.

ومن هذا الإطار تحدّثَ ابن عاشور عن حاجة الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة بحيث تضيق مساحة القضايا التي لا يعرف علل أحكامها أو حكمة الشارع في تشريعها بقدر ما يتحصّلُ له من الفهم العميق والربط الوثيق بين أوضاع الأمة ومقاصد التشريع .

وبهذا يكون هناك إطارٌ فرديٌ للعقائد والأحكام لا ضير في توسع مساحة التعبدي فيه إيماناً بالغيب وتبتلاً في رحاب الخضوع والعبادة ، وتسليماً بأن المحدود الضعيف لا يمكن أن يحيط بالمطلق الذي وسع كرسيه السماوات والأرض .

وأما إطار الأمة فالأصل فيه أن تضيق مساحة غير معقول المعنى ، لأن أمر الأمة في الدنيا مبنيٌ على المصالح ، والمصالح في الدنيا بطبيعتها معقولة المعنى يتسلطُ عقل الإنسان عليها بالفهم والترجيح والموازنة ، ويسترشد بضوابط الوحي المعقولة في إجراء ذلك الترجيح وتلك الموازنة .

وربما كان من المناسب في هذا المقام عرض بعض القواعد التي تزيد مسألة معقولية التكليف وضوحا وبياناً . فعند حديثه عن معنى البدعة أوضح الإمام الشاطبي في كتابه (الإعتصام) أثناء الحديث عن السنة الفعلية والسنة التَّركية في مقابل البدعة الفعلية والبدعة التركية أن الأصل في هذا أن ما قامت الحاجة إليه في زمن النبوة ولو يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم فالسنة تركه والبدعة فعله ، مضاهاةً للشرع وزيادةً للتقرب من الله تعالى1 .

ومن استقراء الأمثلة التي ساقها الشاطبي يتبين أن العبادات الفردية هي ألصق الأمور بمعاني البدعة ، أما ما كان من الزيادات مما لم تكن الحاجة إليه في زمن النبوة فليس هو من البدع ، وإنما ألحقوه بمعان أخرى من المصالح المرسلة . وذلك مثل توسيع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لمّا كثر المسلمون ، وزيادة الدرجات في المنبر على ثلاث ، وإقامة مآذن المساجد .. وغير ذلك مما اتصل بحال الأمة فلم يقف المسلمون عند المأثور “تعبداً” وإنما أعملوا المعنى المعقول وساروا على ما دلّ عليه .

وكذلك فقد قرر العلماء امتناع القياس في العبادة2 . وهذا هو المقصود عندهم بالتعبدي ، إذ ليس هناك علةٌ أو وصفٌ ظاهرٌ منضبطٌ يُقاسُ عليه في أمور العبادة كأعداد الركعات وهيئات الصلوات والطهارات وكلها إلى معاني التعبد الفردي أقرب وأوثق .

ثم إن كثيراً من العلماء تحدث عن الحكم والمعاني والمقاصد للعبادات والطاعات وما يجب على العبد أن يستحضره عند القيام بما أمره الله منها . وهذا يشير إلى أن “غير معقولية المعنى” عندهم تتعلق بامتناع القياس والتعدية ، لا أنَّ أوامر العبادة ليست مما يُعقل أو أن غير المعقولية تلك هي التي تتناسب مع معنى الخضوع وتعظيم مقام الربوبية . حتى أن الإمام الغزالي بنى كتابه (الإحياء) على بيان هذا النوع من الحكم والمعاني والمقاصد ، ونسج على منواله من تحدث عن التربية والسلوك من المؤلفين والعلماء المصنفين .

كما أن من المتفق عليه أنه ليس هناك في أوامر الشارع ما يصادم بديهيات العقل أو منطق الفطرة . فكل أوامر الشارع بهذا المفهوم معقولة المعنى ، وليس هناك مجالٌ للتوازي أو المقارنة بين المفهوم الإسلامي التعبدي وبين المفهوم اليهودي أو النصراني (المشوّه) والذي يمكن أن يصادم مسلمات العقل وبديهيات الفطرة ، وما خبر التثليث عن القارئ ببعيد .

وأخيراً ، فإننا في حديثنا المتواصل عن مقاصد الشريعة وتوسيع آفاقها وتحرير معانيها لن ندخل في إطار العبادات الفردية ، وإنما سنلتزم بالإطار الذي رسمه الإمام ابن عاشور رحمه الله ، أي إطار الأمة . وفي هذا الإطار تكون كل الأمور معقولة المعنى ، نحاول أن نتعرف على دقائق معانيها في مسارب الواقع ودقائق الفكر ، ونمضي نقلِّبُ النظر في آيات الأنفس والآفاق حتى يتجلى لنا طرفٌ من الحق الذي فُطرت عليه السماوات والأرض ، ونحاول أن تستقيم حياتنا عليه ، فنسلم من الضنك وننعم بالحياة الطيبة التي وعدها الله في الدنيا قبل الآخرة للمؤمنين العاملين .

1 ص 8

2 ص 8

1 ص 10

1 ص 50-60

2 انظر (الاعتصام) للشاطبي : ص 627 ومابعدها .

 

شعبان 1418 هـ / 12-1997 م