بين عربية الثقافة الإسلامية وعالمية الرسالة

135

لايختلف اثنان اليوم على حساسية وضرورة عمليات الاجتهاد والتجديد في مجمل شؤون الأمة . وإذا كان من المألوف التاريخي أن يتصدى لتلك العمليات علماء الشريعة من المجتهدين ، فلقد أصبح من الواضح اليوم ضرورة قيام علماء الاجتماع والنفس والاقتصاد والسياسة بالمشاركة الفعالة في عمليات الاجتهاد المطلوبة تلك ، على الأقل من واقع معرفتهم وخبرتهم العميقة المفترضة في مكونات الواقع ومتغيراته التي هي مناط الاجتهاد.

وحيث أن معرفة اللغة العربية تعتبر تاريخياً من أدوات الاجتهاد حكما ، لكون تلك المعرفة السبيل إلى فهم القرآن الكريم وإدراك مقاصده ، وهو المصدر الأول للتشريع ، فإن التساؤل الذي يُطرح في هذا المجال يتلخص في تحرير كيفية إسهام غير الناطقين بالعربية من أبناء الأمة المتخصصين في شعاب المعرفة المختلفة – ومنهم الأفذاذ النابغون – في عمليات الاجتهاد المذكورة.

من هنا ، تأتي هذه المشاركة في الموضوع ، بغرض فتح باب اليحث والمدارسة فيه، أكثر منها بغرض تبيان الجواب الجامع المانع ، ورغبة منا في التحديد فإننا نطرح هذه المشاركة في شكل مجموعة محددة من النقاط:

  • إن عربية الثقافة الإسلامية أمر لاشك فيه ، فمن أراد أن يتعامل مع مصادر الثقافة الإسلامية وجب عليه أن يتعلم اللسان العربي ويتقنه حتى يعلم مقاصد الشرع باللغة التي اختارها الله سبحانه لبيان رسالته وهديه للناس.الإسلام رسالة عالمية فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول للناس كافة ، “وما أرسلنا من نبي إلا بلسان قومه ليبين لهم” فالبيان لحقائق الإسلام بما يُدخِلُ في الملة ويُخرِجُ عن الكفر ويُدخلُ الجنة ويُباعد عن النار ممكن بأي لغة من لغات العالم تحقيقا لمعنى حجة الله على الناس بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
  • إن الاجتهاد ليس نوعا واحدا ، فالاجتهاد لاستنباط الأحكام والقيم والموازين من القرآن والسنة لابد له من إتقات أدوات الاجتهاد كلها ومنها العربية . أما الاجتهاد لتحقيق المناط فلا يحتاج إلا إلى معرفة الحكم الشرعي أو القيمة التي اعتبرها الشرع كما قررها علماء الشريعة ، ثم الانطلاق إلى الواقع ومعرفته بدقة لتنزيل الحكم الشرعي عليه بدقة أيضا . فهذا بالضبط هو دور عالم الاجتماع فهو المجتهد لتحقيق المناط لمعرفته بالواقع وأبعاده والقوى الفاعلة والمؤثرة فيه والنسيج الاجتماعي ونظم العلاقات والموروثات .. فإذا علم عالم الاجتماع المسلم حكما من الأحكام أو قيمة من القيم فهو المؤهل الوحيد لتنزيل هذا الحكم على واقع يعلمه بتفصيل لايعلمه سواه.
  • وهذا النوع من الاجتهاد – لتحقيق المناط – لاحاجة معه إلى إتقان العربية أو تعلمها أصلا . فكثير من الأوامر المطلقة في الشريعة متروكة لنظر المكلف ومعرفته بواقعه كالعدل والإحسان والشورى … وعالم الاجتماع المسلم في أي بيئة عربية أو غير عربية هو المؤهل بعد تعلم مايصح به الإيمان وما يستقيم به العقل والجوارح من الأحكام والقيم والموازين.. هو المؤهل لاستباط الوسائل للتدين يتلك الأحكام والقيم والموازين في بيئته وليس شرطا أن مارآه محققا للقيم والموازين في بيئته ينطبق أو يحقق مقاصد الشريعة في بيئة أخرى.
  • وبهذا الشكل يمكن أن يزول الالتباس ، بحيث يبقى لعلماء الاجتماع المسلمين دورهم الرائد كمجتهدين – لتحقيق مناط الأحكام ، وليس لاستنباط الأحكام . وبهذا يمكن أن تتحقق – فيما نرى – عالمية الرسالة وعربية الثقافة بتوازن واعتدال.

1996 / 1416