ترف الفقراء!

399

في الفيلم الأمريكي The Walkيحلم الشاب الفرنسي “فيليب” أن يمشي على الحبل بين برجَي مركز التجارة العالمية في أمريكا، وفعلا يرتّب فيليب لتحقيق هذا الحلم بمساعدة أصدقائه، يصور الفيلم لنا ذلك في مشهد درامي يقطع الأنفاس ‑وإن كنا نعلم أنه سيجتاز الحبل في النهاية!‑ لكنه كان ارتفاعاً هائلاً دون أي وسيلة أمان، وكان الفيلم مشحوناً بتأثيرات بصرية قوية حاز لأجلها جائزة خاصة.

وفي الطرف المقابل من هذا العالم يُضيِّع الطفل علي حذاء أخته زهرة في الفيلم الإيراني المؤثر “Children of Heaven“، فقد أرسله أبوه إلى دكان تصليح الأحذية ليصلح حذاء أخته الممزّق، فأضاع علي الحذاء من غير إهمال، لكنه قَدَر الأسرة الفقيرة، وعندما عاد علي للبيت لم يخبر والده بشيء، ولم يكن ذلك خوفاً من أبيه ‑كما أخبرنا علي في الفيلم‑ ولكنه كان يخشى أن يرهق والده الفقير بدين جديد ليشتري حذاء لأخته زهر ة، وأمام هذا الصمت كان لا بدّ لعلي وزهرة من حل مشكلة الذهاب إلى المدرسة، فيقترح علي على أخته الصغيرة التي بدأت بالبكاء لأجل حذائها أن تلبس حذاءه في الصباح لأن وقت مدرستها صباحاً وأن تركض عند الخروج من المدرسة إلى البيت ليلتقيا في نصف الطريق ليلحق علي بوقت مدرسته، وطبعاً بسبب ذلك كان علي يصل متأخرا ويتلقى توبيخا من المدير!الفيلم يحمل كمَّاً هائلاً من تفاصيل الفقر المؤثرة، لكنه إلى جانب هذا كان هناك حلم لعلي أيضاً، وهو أن يفوز بسباق الجري في المدرسة، وفعلاً فعل ذلك بحذائه المهترئ.

الأحلام بنات بيئاتها، أظن ذلك، وما نراه حلماً مترفاً قد يراه غيرنا حقاً طبيعياً؟ أذكر أني عندما شاهدت هذا الفيلم الأمريكي “The Walk” قلت لنفسي هل هذا من ترف الأحلام؟ هل نملك الفرصة فعلاً لمثل هذه الأحلام في مشرقنا المليء بالحروب والفقراء، ربما كان فيلم “Children of Heaven” أكثر تعبيراً عنا وعن أحوالنا وعن أمنياتنا البسيطة في مقابل أحوال العالم الغربي وأمنياته. لكن ربما تكون هذه النتيجة انفعالية لسؤال كبير مثل سؤال الترف وسؤال الفقر وسؤال الأحلام وكيفية إدارتهما، إن ارتباط الأحلام بالمستوى المادي والظرف الاجتماعي والسياسي شيء يصعب فصله، لذلك ربما تكون هناك زوايا أخرى في موضوع الإنفاق والترف والاقتصاد.

لعلّ من أهم الأبحاث التي كتبت في الإنفاق والترف أيام المجتمعات القديمة هو بحث “مارسيل موس” في كتابه “بحث في الهبة” والذي ترجمه المولدي الأحمر، ومارسيل موس هو سسيولوجي فرنسي يُعدّ من أهم السسيولوجيين الجادّين الذين تركوا إرثاً علمياً مهماً. وإذ يصف بدقة وعمق الأبعاد الرمزية في فاعليات تبادل الهدايا، فإنه لا بدّ من التنبيه على أنه ‑مثل خاله العالم السسيولوجي إيميل دوركهايم‑ يعتبر الممارسات الدينية طقوساً بحتة تأخذ معناها من ممارستها بعيداً عن فكرة التمايز عن المادة أو المصدرية المتعالية. فهذا التوجه يرى أنه تنحلّ قداسة المجتمع في الرموز العبادية التي يُسميها (الطوطم) ويصبح لهم مصدراً عاطفياً برغم لاعقلانيته. وفي حين أن علم الاجتماع بشكل عام يعتبر أن الدين خرافة أو وسيلة للسيطرة، فإن توجّه موس/دوركهايم يزيد في أن الدين مفيد برغم خرافته لأنه يساهم في تماسك المجتمع. ولذا تشتهر عبارة دوركهايم في أن المجتمع في حقيقة الأمر إنما يعبد نفسه من خلال الطقوس الدينية.

يتحدث “موس” عن نظام البوتلاش في المجتمعات القديمة وهو نظام اقتصادي يقوم على مبدأ التبادل ومبدأ الهدايا، وقد كان متداولاً بين قبائل الهنود في شمال أمريكا، وله أنواع كثيرة وأحوال عديدة عند الزواج وعند الضيافة وعند الحصول على الزعامة، فهذه المجتمعات برأي موس لم تكن قد وصلت إلى مرحلة العقد الفردي الخالص أو إلى مرحلة السوق والعملة أو إلى مرحلة البيع وتقدير الأشياء بثمن، بل كانت تعيش على مبدأ التبادل والهدايا، لذلك كثيراً ما يكون التبادل وتعاطي الهدايا أشبه بطقوس مقدسة، فمثلاً هناك عناية بالضيوف وتشبيه لهم بأنهم أناس يطفون على الماء وقواربهم تائهة في البحر، وما ينقذهم هو البوتلاش، وهناك عناية بالدعوة لحضور الحفلات وخطورة نسيان أحد دون دعوته أو نسيان دعوة اليتيم والفقير والمشرّد، وهناك إحراق لمراكب الزوار في المناسبات وتقديم مراكب جديدة لهم، كما أن هناك تبادل لزوارق الزوجين كما لو أن هذا سيحولهما إلى شريكين في القلب نفسه. كل هذا يشير برأي موس أن هذه المجتمعات كانت تعيش حياة أقرب للجماعة من حياة الفرد وكانت الأشياء من طعام ولبس ومراكب في خدمة الإنسان وليس العكس، وربما كان نظام الهدايا وإلزامية ردّ الهدايا والتبادل طريقة لبناء نظام اجتماعي يواجه تكديس الثروات ويضع الأقوياء موضع الملزَمين تجاه المجتمع.

لكن إلى جانب هذا كله كان هناك شيء غريب يحصل في هذه المجتمعات القديمة وهو ما يسمى بإفناء الثروة أو قتل الملكية، وكان غالباً ما يحصل ذلك عند التنافس على الزعامة كأن تُحرَق منازل بأكملها أو ترمى قدور الزيت أو الأشياء الثمينة في البحر، ويمكن تأويل ذلك تأويلاً دينياً بالنسبة لتلك القبائل أنه قربة للأرواح بالتخلص من الملكية والفردية، أو تأويلاً اجتماعياً يدل على إظهار القدرة والثراء والمكانة الاجتماعية لزعيم أو وجيه القبيلة.

ومن هذا كله نسأل هل الترف شيء خاص بالمجمتعات الحديثة؟ أو بمجتمعات دون مجتمعات؟ هل يمكن للفقير أن يكون مترفاً؟ أظنّ أن إفناء الثروة وقتل الملكية الذي كانت تفعله تلك القبائل هو نوع من الترف الذي لا يرتبط بنوع خاص من الاقتصاد ولا بحالة من التطور المادي، بل ربما يكون سلوك الترف سلوكاً بشرياً عاماً وقد لا يعبّر عن الهدر دائماً لأنه قد يرتبط بتأويلات دينية أو أسطورية كما في حال تلك القبائل.

لكن هل بقي الترف شيئاً خاصاً بفئة ما كالفئة التي تقف في وجه الدين وتحاربه كما وصفها القرآن؟ أو كالتي تفسد الحضارة وتحوَّل طريقها كما عند ابن خلدون؟

يلتقط “جيل ليبوفتسكي” في كتابه “الترف الخالد من عصر المقدس إلى زمن الماركات” إشارات مهمة في تاريخ الترف، فحتى منتصف القرن التاسع عشر كان عالم الترف يمشي وفق نموذج أرستقراطي، فالحرفيون الذين يصنعون الثياب مثلاً غير معروفين خلافاً للزبائن المشهورين، فالزبون هو السيد والحرفي في الظلّ، لكن مع مجيء عصر الحداثة نرى أن كل شيء قد اختلف، فصارت الألبسة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لا تُصنع وفقاً لزبون معين وقياساته، بل أصبح بعيداً عن أي طلب معين، وظهر مصمم الأزياء شخصية مستقلة وحرة، كان يعمل تحت الأوامر والأذواق، والآن برأي ليبوفيتسكي يعمل وفق ذوقه، فتحول الزبون لمستهلك وتحول الخياط لمشهور.

بقي هناك شريحة من المترفين لكن ولاءَها صار مع الزمن لدار تجارية مُصنِّعة، وهي الماركة وسحرها، وهنا لن تبقى تلك الشريحة وحدها في عالم الترف ستنازعها طبقات أخرى لتشتري من نفس الماركة، ليصبح الترف لأول مرة صناعة تنتج كميات كبيرة من السلع ولتصل إلى شرائح أكثر من المجتمع.

إذا كان المترَف شخصاً يلبس ثوباً ما أو ساعةً ما أو يملك سيارة ما أو يسكن بيتاً ما، بأسعار لا تستطيعها إلا الطبقات الثرية من المجتمع، فلا مانع اليوم مع عصر الحداثة من أن يحصل على ذلك ناس من أوساط أخرى، ولعل من هنا ظهرت عبودية التأمين والقروض، وهي البنوك التي تقدم قروضاً لزبونها ليشتري بيتاً أو سيارة لا يناسبان مستواه المادي ليبقى طول حياته أسيراً لهذا الدين. ومن هنا أيضاً ظهر ما يسمى نصف الترف أو نصف الفخم، وهو سوق التزوير، وهو سوق ضخم يبيع الماركات العالمية بعد تزويرها بأثمنة مخفضة للطبقات الوسطى.

هذا كله يحيلنا إلى ما يسميه “ليبوفيتسكي” دمقرطة الترف أي تحويل ما كان حكراً على النخبة إلى حاجيات استهلاكية معتادة وتحويل ما ليس بضرور ي إلى ضروري، أصبح الترف متعدداً لم يعد ترفاً واحداً ولا شكلاً واحداً، وأصبح سلعة تباع لكل الطبقات، وهذا لا يكون إلا بسياسة موازية للترف وهي سياسة الجذب من خلال الصورة والسعر ليبقى للترف صورة سحرية تجذب كل الطبقات والفئات.

ربما تحوَّل الحفل الصراعي القديم للترف لكسب المكانة والنفوذ الاجتماعي من خلال إفناء الثروة أو تبادلها الذي كان يقيمه هنود أمريكا حسب أعراف البوتلاش ربما تحول إلى عالم تجاري كبير لكن دون تحدٍّ أو تبادل بل برغبة الشراء والاستهلاك وبرغبة الإمساك بالسعادة.

الماركة التي نلبسها أو الجسد الذي نعتني به لعله يمثّل صورة جديدة للهوية في زمننا الحديث، صورة لا تتم دون شيء من الترف، وهنا يمكن أن نضيف شيئاً أنه لم يعد عصر الترف في أن تكون غنياً بقدر ما تكون شاباً، هناك تجاوز ما للألبسة في صالح الجسد، وكأن الجسد بات هو القيمة نفسها وهو الهوية نفسها، وهذا قد يفسر لنا أشكالاً من عالم الموضة كالبنطال الممزَّق والمرقَّع، أو الملابس الكاشفة بشكل فاضح.

هل الترف موضوع اقتصادي؟

يبدو أنه اقتصادي وغير اقتصادي في آنٍ معاً، فكثرة المال قد توصل للترف فعلاً لكن نقص المال والفقر لا يعني انعدام الترف، فمن المهم هنا أن نقول إن الترف حالة نفسية يبحث الإنسان بها عن نفسه ليثبتها أو ليريحها، ويمكن أن نضرب لذلك مثلاً فهناك ما يسمى باقتصاد الفقراء وهو دراسة سلوك الفقير ونمط حياته وأساليبه وأساليب المجتمع في محاولة إخراجه من فقره، ولعل من أفضل الكتب في هذا الباب كتاب “اقتصاد الفقراء” لأبهيجيت بانرجي وَ إستر دوفلر، يطرح هذا الكتاب مجموعة من الأسئلة عن عادات الفقراء في الزواج والمهور وأنهم ينفقون في ذلك أموالاً طائلة، وعن عاداتهم في شراء الأجهزة الحديثة وهم أحياناً أول من يشتريها، وهذه سلوكيات ترفية تمارسها أمثال هذه الأسرة مع أنها فقيرة، وربما يتذكر كل واحد منا أمثلة من حياته لمثل هذه الأسر الفقيرة التي تحرص على اقتناء تلفاز حديث أو أجهزة هاتف حديثة، والسبب برأي الكاتبين بعد مشاهدات وأسئلة أن الفقير يحاول ما استطاع أن يتغلب على حالة الملل التي ستصيبه بعد العمل وهو لا يستطيع أن يذهب كالأغنياء إلى النوادي الرياضية والحفلات الموسيقية ليشعر بالمتعة لذلك يدخر المال أو ما يأتيه من تبرعات وصدقات يشتري بها هذه الأداوت التي تشعره بالمتعة. لذلك يقترح الكاتبان أن من أهم وسائل تخليص الفقير من فقره أن يكون هناك برامج مثل برامج التقاعد والضمان الاجتماعي تساعد الفقير على تجميع المال ثم صرفه في جوانب تفيده في حياته أو تخلصه من مصيدة الفقر، إلى جانب تحمل الدول وأصحاب الأموال مسؤوليتهم تجاه الفقر والفقراء.

لفتة ابن خلدون

ولو أتينا إلى نظرة الإسلام إلى الترف لوجدنا أن القرآن الكريم قد ربط في مواضع كثيرة بين الترف والفساد {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] وربط بين الترف والصدود والكفر بدعوة الأنبياء {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34] وربط الترف بالنعم كما تفسير آية {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 13] فالترف عموماً في الاستعمال اللغوي والشرعي يشير إلى حالة من التنعم وحالة من الرفاهية والرخاء والتوسع في ملذات الدنيا.

ولابن خلدون في المقدمة كلام عن الترف، فيرى أن الحضارة غاية العمران وهي نفسها مؤذنة بفساده، وذلك بسبب الترف الكائن من التوسع في الملذات والشهوات، ومن التفنن بالشكل دون المعنى، والانقطاع عن الغاية الحقيقية للطعام والشراب واللباس بل يصبح كل شيء مقصوداً لنفسه، ولذلك ينقل ابن خلدون كلام من يسميهم بالخواص الذين يقولون: إن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذّنت بالخراب. والنارنج شجر لا طعم له ولا منفعة ولا يزرعه الناس إلا للشكل، فيقول ابن خلدون عنه إنه لا يغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف، أي بعد الوصول لحالة كبيرة من الترف.

وختاماً، إن المال وإن كان خاصاً بصاحبه فهو مسؤولية الأمة كلها، والله تعالى قال عن السفيه الذي ينفق ماله دون مسؤولية ودون تفكير {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النساء: 5]فاستنبط الفقهاء من الآية باباً فقهياً سموه باب “الحجر على السفيه” وهو الذي يبذر ماله ولا يدير إنفاقه بشكل حسن، ونظروا إلى نسبة “أموالكم” فقالوا مال الغني مسؤولون عنه، فهو من مال الأمة، كأن الله تعالى يقول لنا كما أن الفقر مسؤوليتكم فكذلك الغنى، وصور الترف اجتماعياً ونفسياً تستحق منا أن ندرسها وأن نقدم لأصحابها توجيهاً يصبّ في صالح وعي المجتمع ونضجه.