جَدَلُ القَدِيم والحَدِيث في التراث التربوي الإسلامي
في الفكر التربوي الإسلامي الذي ينبغي للأمة أن تَبْنِيه لحاضرها ومستقبلها مصادر أربعة:
- القرآن الكريم، فهو كتاب هدىً ونورٌ وعِلمٌ وحكمة؛
- والسُّنَّة النبوية، فهي تنزيلٌ لأحكام القرآن الكريم وهَدْيِهِ على الواقع، وحكمةُ هذا التنزيل؛
- والتراث الإسلامي الذي مثّل اجتهادَ علماء الأمَّة في الزمان والمكان في تنزيل هدي القرآن الكريم والسنة النبوية في أزمنتهم وأمكنتهم؛
- والخبرة البشرية المعاصرة، فالله سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، والله سبحانه: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، فسُنَنُ اللهِ في الكون والتاريخ والمجتمع، متاحةٌ لمن يأخذ بأسباب اكتشافها وتوظيفها.
ومع أنَّ القرآن الكريم والسنة النبوية يمثِّلان المرجعية الحاكمة، فإنَّ التراث الإسلامي، والتراث الإنساني بما فيه الخبرة البشرية المعاصرة، يُعِينَان في استلهام مقاصد تلك المرجعية وتطوير فَهْمِنا المتجدِّد لها وتنزيلها على الواقع ومستجداته.
ونعني بالتراث التربوي الإسلامي جهود علماء الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها واتساع أقطارها، وهو تعبيرٌ عن اجتهاد هؤلاء العلماء في فهم مقاصد الإسلام في نصوصه الأساسية في القرآن الكريم والسنة النبوية، وتوثيقٌ لممارسات المجتمع الإسلامي في ميدان التعلُّم والتعليم، في ضوء الاجتهاد في فهم تلك النصوص وتنزيلها على واقعهم في الزمان والمكان. ومع أنَّ التراث الإسلامي في كثير من موضوعات الفقه والتفسير والحديث والأدب واللغة والتاريخ والتصوف، كان يُكتب ليكون موضوعات للتعليم، فإنَّنا نقصر دلالة التراث التربوي على كتابات محدَّدة تختصُّ بعناوين من مثل: أدب الطلب، وآداب العالم والمتعلم، وما تضمنته هذه الكتابات من موضوعات، مثل: فضل العلم والتعليم، ومكانة المعلم، وطرق التعليم، ومؤسسات التعليم، وتعليم الصبيان، وتعليم القرآن، سواء أكان ذلك في كتب تحمل مثل هذه العناوين، أم كانت هذه العناوين فصولاً أو أبواباً في كتب الفقه أو التاريخ أو الأدب أو التصوف أو الفلسفة أو غيرها.
فالتراث التربوي الإسلامي، مَثَلُه في ذلك مَثَل كلِّ التراث، ليس تراث القرن الأول فحسب، ولا حتى تراث القرون الثلاثة الأولى، ولكنه تراث ممتد على مدى يزيد على ثلاثة عشر قرناً. ثم إنَّه ليس تراث تعليم القرآن والفقه وأحكام الشريعة وحسب، وإنَّما هو، إضافةً إلى ذلك، سائر أنواع التعليم الأخرى التي مارستها المجتمعات الإسلامية من تعليم اللغة والأدب والفلك والطب، فضلاً عن حِرف الزراعة والصناعة والبناء وفنون الحرب وغيرها.
فالتراث، إذن، فكرٌ بشريٌّ؛ فهو نتيجةُ فِعْلٍ يقوم به الإنسان، واسمٌ لثمرة هذا الفعل. ومع أنّ ثَـمـَّة مرجعيات تحكم حوافز الفعل البشري ومقاصده، لا تتحدد بالزمان والمكان، فإنَّ الاستجابة لهذه الحوافز والأهداف تتحدَّد بظروف الزمان والمكان والخبرة البشرية المتنامية. وفي حالة التراث الإسلامي، فإنَّ المرجعية الحاكمة هي نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية. ومع أنَّ التراث يتأسَّسُ على فهمِ هذه النصوص الثابتة وتنزيلِها على الواقع المتغير، فإنَّ القرآن الكريم والسنة النبوية ليسا من التراث. ومع ذلك فإنَّ فهمَ هذه النصوص الثابتة، وفهمَ الواقع المتغير والفكر البشري الذي يمثله اجتهاد المجتهدين من العلماء والمفكرين في تنزيل النصوص على الواقع سوف يكون في حالة تغيُّرٍ وتطوُّر. وهذا الفكر عندما يورِّثُه جيلٌ إلى جيلٍ لاحق يصبح عند الجيل اللاحق تراثاً.
وقد ارتبط الفكر البشري في تراثنا الإسلامي بنزول الآيات الأولى من القرآن الكريم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي الآيات التي تضمنت الأمْرَ بالقراءة باسم الله، وتحدَّدت هذه القراءة في نوعين متكاملين: قراءة الخَلْقِ المنظور، وقراءة النصِّ المسطور. فأصبح التأمُّل والتفكُّر في آيات الخَلْق في الآفاق والأنفس، والتفكُّر في دلالات المسطور بالقلم، هو العلم الذي يَـمُنُّ الله على عباده به، ويأمرُهم أن يتعلموه. فهو أمرٌ بالكتابة التي تصبح مادةً للقراءة، وهو أمْرٌ بالاعتماد على الكتابة والقراءة بديلاً عن المشافهة، وهو قطيعةٌ تاريخية مع الأُمِّيَّة التي كان يتَّصف بها معظم العرب، فيصبح العلم والتعليم والتعلُّم هو مادة الفكر البشري الذي يوَرِّثه كلُّ جيلٍ، ويكون للجيل اللاحق تراثاً تربوياً، بالمعنى العام للتربية والتعليم. وفي حالة التراث التربوي الإسلامي كان المسجد هو المؤسسة التي تنشر العلم، وتجتمع فيها حلقات التعليم والتعلُّم. وكانت مادة نصوص الوحي الإلهي والهدي النبوي هي الأساس لهذه الحلقات، انبثقت من روايتها، وفهمها، وإملائها، وتطبيقها في مواقف الحياة، علوم الفقه وعلوم القرآن وعلوم الحديث وسائر العلوم الأخرى.
لكنَّ التراث التربوي الإسلامي بالمعنى الخاص، هو ذلك الفكر الذي دوّنه المربون والعلماء المسلمون عبر التاريخ فيما يخْتَصُّ بالعلم والتعليم والتربية، وما يتعلق بها من مبادئ أو ممارسات أو مؤسسات، سواء أكان هذا التدوين في كتاب متخصص، أم هو ما ورد متفرقاً من آداب وأخلاق وفضائل في كتب الفقه والأدب والتاريخ والتصوف والفلسفة والطب وغيرها. ومع أنَّنا نجد بين أيدينا اليومَ كثيراً من مصادر هذا التراث، فإنَّنا نستطيع أن نؤكِّد أنَّ كثيراً منه كذلك لم يصل إلينا، بسبب الإهمال لعدم تقدير قيمته، أو التلف نتيجة الظروف الطبيعية وتوالي الزمن، أو الإتلاف المقصود بالتحريق أو التغريق، نتيجة التنافس والخلاف المذهبي والفِرَقي، أو التخريب والتدمير الذي كان يرافق الحروب، وغير ذلك.
ويرتبط التراث بالتاريخ ارتباطاً وثيقاً؛ فلكلِّ أمَّة من أمم الجنس البشري تاريخُها، وفي هذا التاريخ تكوَّن تراثها. ويبقى تراث الأمة خاصية من الخصائص المؤثرة في وجودها وهويتها، وعنصراً مهماً في مرجعيتها. والأمم التي تشكّلت حديثاً تسعى لوضع تاريخ لها، واكتشاف ما قد يكون فيه من تراث. ومع ما لهذا التراث من قيمة مرجعية ونفسية، فهو ليس سجناً يحصر طاقات الأمة ومقدراتها فيه، وليس كلُّ ما فيه صالح للعمل به.
وليس هناك قاعدة ثابتة في التمييز بين القديم والحديث من الناحية الزمنية، والتحقيبُ الزمني الذي استعمله الأوروبيون للتاريخ الأوروبي: القديم والوسيط والحديث، أو: القديم والحديث والمعاصر، أو غير ذلك، واستعمله بعض الباحثين العرب لا سيما في الدراسات الأدبية والتاريخية، لا يصلح لتحديد فاصل زمني بين القديم والحديث، أو السابق واللاحق، أو المتقدم والمتأخر في التراث الإسلامي. وقد سبق أن اقتُرح المعيار الزمني في التقسيم الذي حدد قرون الخيْرِيَّة الثلاثة الأولى في التاريخ الإسلامي بالاعتماد على الحديث الصحيح “خيرُ الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”.([1]) وعلى هذا جاء كلام الذهبي في تحديد الحدّ الفاصل بين هذه القرون الثلاثة للمتقدمين، وما بعد ذلك للمتأخرين، وذلك قوله: “فالحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة”.([2])
وفي التراث أمثلةٌ على وقوع هذا التمييز في موضوعات التراث المختلفة، مِنْ فِقْهٍ وتفسير وحديث وأدب وتاريخ وغير ذلك. لكنَّ المسألة أخذت حيزاً كبيراً من الاهتمام في جهود علماء الحديث على وجه الخصوص، ولا سيما عند التمييز بين المتقدمين والمتأخرين ليس باعتماد الزمن فحسب، وإنَّما باعتماد المنهج في التصحيح والتضعيف القائم على النظر في السند والقرائن والملابسات، وهو المنهج الذي اعتمده المحدثون ونقاد الحديث في مرحلة الرواية، أو المنهج الذي يكتفي بالنظر في ظاهر السند في اعتماد الأحاديث كما فعل كثير من المتأخرين، ولا سيما من علماء الفقه والأصول. يضاف إلى ذلك أنَّ مَنْ يعتمدون على حديث آخر هو “مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره”([3]) لا يستبعدون وجود الخيرية فيما بعد القرون الثلاثة.
وقد تباينت آراء المفكرين المعاصرين في نظرتهم إلى التراث الإسلامي بصورة عامة والتراث التربوي بصورة خاصة، ما بين مبالِغٍ في الإعلاء من شأنه، إلى الحدَّ الذي وجدنا من يقرِّر أنَّه: “ما ترك السابق للّاحق شيئاً”! ومبالغٍ في التبخيس من قيمته، بحجّة أنَّ لكلِّ عصر علمَه الذي يفقد قيمَتَه بعد انقضاء ذلك العصر. والحقُّ ليس في ذلك الإفراط أو هذا التفريط؛ فالأمرُ يستدعي الدراسة الموضوعية المتوازنة، من جهة، وتحديد الهدف من هذه الدراسة من جهة أخرى.
لكنَّ التمييز بين قيمة القديم والحديث، ليس أمراً مستحدثاً، بل ظهر في وقت مبكر، وظهر معه كذلك ضرورة تقويم هذه القيمة بناءً على معيار غير معيار الزمن، وفي ذلك يقول المبرِّدُ (ت285هـ) في كتابه “الكامل”: “ليس لقِدَم العَهْدِ يُفَضَّلُ القائل، ولا لحِدْثانه يُهتَضمُ الـمُصيبُ، ولكنْ يُعطَى كُلٌّ ما يَستحقُّ”.([4]) وقد تواصل الإفراط والتفريط في تحديد قيمة القديم والجديد عبر الزمن، فوجدنا الطاهر ابن عاشور (ت1393هـ/1973م) يقول: “رأيت النَّاسَ حول كلام الأقدمين أحدَ رجلين: رجلٍ مُعْتَكفٍ فيما شادَه الأقدمون، وآخرَ آخذٍ بمِعْوَله في هدم ما مضت عليه القرون. وفي كلتا الحالتين ضُرٌ كثير. وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناحُ الكَسيرُ، وهي أن نعمد إلى ما أشادَه الأقدمون فنهذِّبَه ونزيده، وحاشا أن نَنْقُضَه أو نُبيدَه، عِلْماً بأن غَمْضَ فَضْلِهم كُفرانٌ للنعمة، وجَحْدَ مزايا سلفِها ليس من حميد خصال الأمة”.([5])
وتكشف بعض كتب التراث عن نصوص تقدِّم القديمَ لِقِدَمِه، وتستبعد أن يرتقي أي جديد. ومن ذلك ما يرويه الأنباري (ت577هـ) أن أبا عمرو بن العلاء (ت254هـ) كان يقول: “إنما نحن بالإضافة إلى مَنْ كان قبلَنا كبقْلٍ في أصول رَقْلٍ”.([6]) وقد حدث في القرن السابع الهجري أن بعض العلماء الذين كانوا يدرسون في المدرسة المستنصرية ببغداد، ومنهم شيخ المدرسة ابن الجوزي، أخذوا يدرِّسون كتباً جديدة صنفوها بأنفسهم، فطُلب إليهم في عام 645هـ التوقف عن ذلك والعودة إلى تدريس كتب السابقين، وذلك: تأدباً معهم وتبركاً. فأجاب ابن الجوزي بالسمع والطاعة ([7]).
وممن يفضِّل كتب الأقدمين أبو إسحاق الشاطبي الذي يرى أنَّ تعلَّم طالب العلم من الكتب يلزم فيه: “أن يتحرَّى كتُبَ المتقدِّمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعَدُ به من غيرهم من المتأخِّرين… فالمتأخِّر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدِّم، وحسبك من ذلك أهل كل علمٍ عمليٍّ أو نظريٍّ، فأعمال المتقدِّمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخِّرين، وعلومهم في التحقيق أقْعَدُ؛ فتَحَقُّقُ الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقُّق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن”.([8])
واستمر تفضيل كتب المتقدمين إلى القرون اللاحقة حتى أصبحت مؤسسات التعليم تحدد من هذه الكتب ما يُلزِم المدرسين استعمالها دون غيرها، ومن الحجج الواردة في هذا الإلزام، أن بعض العلوم قد فُرغ منه، وبعضها دوِّن ولم تبق حاجة للاجتهاد! ومن ذلك ما ورد في مرسوم إصلاح التعليم الذي أصدره السلطان سيدي محمد بن عبد الله عام (1192ه/1778م) لإصلاح مناهج التعليم بجامع القرويين والمعاهد التابعة له، فقد ورد في الفصل الثالث من المرسوم ما يختص بالمدرسين في مساجد فاس ما يأتي: “فإننا أمرنا ألا يدرسوا إلا «كتاب الله تعالى» بتفسيره، وكتاب «دلائل الخيرات» والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كتب الحديث «المسانيد» والكتب المستخرجة منها و«البخاري ومسلم» وغيرها من الكتب الصحاح، ومن كتب «الفقه» «المدونة» و«البيان» و«التحصيل» و«مقدمات ابن رشد» و«الجواهر لابن شاس» و«النوادر» و«الرسالة لابن أبي زيد» وغير ذلك من كتب الأقدمين... ومن أراد علم الكلام «فعقيدة ابن أبي زيد» رضي الله عنه كافية شافية بها جميع المسلمين… ومن أراد قراءة «علم الأصول» فإنه أمرٌ قد فُرغ منه، و«دواوين الفقه» قد دُوِّنت، ولم يبق اجتهاد”.([9])
وفي مقابل هذا التوجه نحو كتب الأولين في التعليم كان هناك توجّهٌ مبكِّر كذلك، لتأكيد الحاجة إلى مواصلة التجديد والتأليف، ولرفض مقولة “ما ترك الأول للآخر شيئاً”، ففي ذلك يروي ياقوت الحموي عن أبي عمرو الجاحظ (ت255هـ) أنه قال: “إذا سمعتَ الرجلَ يقول: ما ترك الأوَّلُ للآخِر شيئاً، فاعلمْ أنه لا يريدُ أن يُفلِح”.([10]) ولا يتردد ابنُ عبد ربه (ت328هـ) أن يحكم بميزة إيجابية للتأليف اللاحق عن السابق فيقول: “رأيت آخر كل طبقة وواضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب، أعذب ألفاظاً، وأسهل بنيةً، وأحكم مذهباً، وأوضح طريقةً من الأول؛ لأنه ناكص متعقّب، والأول بادئ متقدم”.([11])
ويفسِّر ابن مالك في مقدّمة كتابه “تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد” الحاجة إلى مواصلة التأليف، وعدم الاكتفاء بكتب الأقدمين بقوله: “وإذا كانت العلومُ مِنَحاً إلهيةً، ومواهبَ اختصاصيةً فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما عَسُرَ على كثيرٍ من المتقدِّمين”.([12])
وينقل حاجي خليفة مقولة ابن مالك بِلَفْظِها، ويتوسَّع في دَعْم رأيه وتفسير الحاجة إلى استمرار التأليف، وعدم اعتماد الزمن معياراً وحيداً في تقدير قيمة الشيء، فيقول: “فلا تغترَّ بقول القائل: “ما ترك الأول للآخر”، بل القول الصحيح الظاهر: “كم ترك الأول للآخر” فإنما يُستجَاد الشيء ويُسترذَل لجَوْدته ورداءته لا لقِدَمه وحدوثه. ويقال: ليس بكلمةٍ أضرَّ بالعلم من قولهم: “ما ترك الأول شيئاً” لأنَّه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلُّم، فيقتصر الآخِرُ على ما قدَّم الأوَّلُ من الظواهر، وهو خطرٌ عظيم وقولٌ سقيم، فالأوائل وإنْ فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها”.([13])
وقد أكدّ كثيرٌ من العلماء على ضرورة إعمال النقد المنهجي لبيان قيمة أيِّ موضوع من موضوعات التراث في مجالات الحديث والفقه والتفسير والأدب والتاريخ والتعليم، وغير ذلك. ولعلَّ أهمَّ ما اشْتهرت به أمَّة الإسلام في مسائل النقد المنهجي ما طوَّره المحدِّثون من مناهج غايةً في الدقة في نقد سَنَدِ الحديث ومَتْنِه، واصطلحوا على درجات الرواة، فمنهم محدِّثٌ، وحافظٌ، وحُجّةٌ، وأمير المؤمنين في الحديث، ومنهم الضعيف، والوضَّاع، والمدلِّس، والكذَّاب. وللحديث درجاتٌ متعددة، فمنه الصحيح، والحسن، والضعيف، وغير ذلك من تفاصيل علوم مصطلح الحديث، والجرح والتعديل، والعلل، وغيرها.
وفي التاريخ وصف ابن خلدون مناهج المؤرخين الذين سبقوه، ورفض بعض رواياتهم بالاستناد إلى ما هو معروف من الطبائع والوقائع. وفي نظم التعليم حمل الشوكاني حملةً عنيفة على العلماء المقلِّدين الذين تركوا الاجتهاد، فعطلوا القرآن والسنة باعتمادهم على علماء المذاهب وكتبهم.
وتحدث الونشريسي في المعيار الـمُعْرِب عن حالة التعليم، فقال: “وأمَّا البناء فإنَّه يجذب الطلبة إلى ما يترتَّب فيه من الجرايات، فيُقبل بهم على من يُعَيَّنُه أهل الرياسة للإجراء والأفراد منهم، أو من يرضى لنفسه الدخول في حكمهم، ويصرفهم عن أهل العلم حقيقة، الذين لا يُدعون إلى ذلك، وإن دُعُوا لم يُجِيبوا، وإن أجابوا لم يُوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم، … ولقد استباح الناسُ النقل من المختصرات الغريبة أربابها ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمَّهاتِها… ثم انْضَاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين… ثم كان أهل هذه المائة([14]) عن حالِ مَنْ قَبْلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول الكبار، فاقتصروا على حفظ ما قلَّ لفظُه ونَزَر حظُّه، وأفنَوْا أعمارهم في حلِّ لغوزِه وفهم رموزِه، … فينا نحن نستكثر العدول عن كتب الأيمة إلى كتب الشيوخ، أبيحت لنا تقييدات الجهلة بل مسودات المسوخ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم وتُريك ما غفل عنه الناس”([15]). ثم يستطرد الونشريسي بعد ذلك في الحديث عن علماء السلاطين، وعما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف، وعن آفة التقليد والتعصب للمذاهب.
وفي نقد الشعر والشعراء، كان نقد القديم موضوعاً أساسياً في مَقَامَةٍ من مَقَامَات ابن شرف القيرواني (ت460هـ) وبعد أن أشار إلى أن نفس الإنسان تتشبث بالقديم، ولا تميل إلى النظر في الجديد، بيَّن أنَّ كثيراً من قديم الشعر على ما قد يكون فيه من الإتقان والحسن لا يخلو من عيوب، وذكر أمثلة على ما يعدُّه عيوباً قادحةً في بعض شعر المشهورين في الجاهلية والإسلام، وذكر من هؤلاء امرئ القيس، والفرزدق، وزهير، وبشار، والمتنبي وغيرهم. وكان مما قاله على لسان أبي الريَّان الصلت بن السكن، قال: “وتحفَّظْ عن شيئين؛ أحدهما: أن يحملك إجلال القديم المذكور على العجلة باستحسان ما تستمع له، والثاني: أن يحملك إصغارك المعاصر المشهود على التهاون بما أنشدت له، فإنَّ ذلك جورٌ في الأحكام، وظلم من الحكام حتى تمحِّص قولَهما، فحينئذ تحكم لهما أو عليهما، وهذا باب في اغْتِلاقِه اسْتِصْعَاب، وفي صرف العامة وبعض الخاصة عنه إتْعَاب، وقد وصف تعالى في كتابه الصادق تشبُّثَ القلوب بسيرة القديم ونِفَارَها من الـمُحْدث الجديد، فقال حاكياً لقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] وقال: لن نعبد إلا ما وجدنا عليه آباءنا.([16]) وقد قلتَ أنت:([17])
أُغْرِيَ الناس بامتداح القديم وبذمِّ الجــــديد غير ذَمِيــــــمِ
ليس إلا لأنَّهم حسدوا الحيَّ وَرَقُّوا على العِظام الرَّميمِ
وقلتَ في هذا المعنى:
قُل لمن لا يَرى المعاصرَ شيئاً ويــرى للأوائـــــــــل التقــديمـــــــــا
إنَّ ذاك القـديم كان جديداً وسيغدو هذا الجديد قديما ([18])
تشير هذه النصوص وأمثالها إلى مسألتين: الأولى أنَّ هذا النقد الذي كان يوجَّه إلى بعض القديم، يؤكد أنَّ السابق ليس شرطاً أن يكون أفضل من اللاحق، والثانية أنَّ النقد الذي كان يُوجّه للواقع الفكري والتربوي في زمن معين كان يُشير إلى تغيُّر ذلك الواقع القائم نحو حالة أسوأ مما كان عليه ذلك الواقع قبل التغيُّر، وأنَّ القديم كان أفضل من الحديث، ومع ذلك فإنَّ ذلك كلَّه؛ ما كان قديماً وما صار حديثاً، أصبح الآن تراثاً قديماً. ونتعامل معه الآن بالنظر إلى ما قد يكون فيه من فائدة لحاضرنا ومستقبلنا.
وجهود الإصلاح والتنمية والتطوير المطلوبة من أفراد الأمة وجماعاتها وأجيالها لا تعفي أحداً من المسؤولية، مهما كان زمانه أو مكانه، وخَيْرِيَّة الأمة في مجموعها في قوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…} [آل عمران: 110] لا تعني أنَّ كلَّ فرد فيها على المستوى نفسه من الخيرية، فقرن النبيُّ صلّى الله عليه وسلم، لم يكن كل المسلمين فيه على المستوى نفسه في كل أمر من الأمور، على الرغم من يقيننا بأنَّ الصحابة كانوا خير القرون. وكما أنَّ الخيرية تكون في أجيال الناس في القرون، فإنَّها تكون كذلك في الأفراد، فالمعيار هو عمل الفرد وكسبه وإنجازه، وليس زمانه الذي عاش فيه.
التراث التربوي الإسلامي مصدر من المصادر التي يلزم أن نطوِّر المنهجية المناسبة للتعامل مع كلٍّ منها، ومن المؤكد أننا:
- سنجد فيه أمثلة مشرقة في استلهام مقاصد القرآن والسنة، وهي في كثير منها مبادرات شخصية من علماء وأمراء وعامة، وهي مبادرات تُعبِّر عن قيم مستقرّة تصلح أن تكون حوافز للتطوير التربوي اليوم وغداً وبعد الغد؛
- وسنجد فيه كذلك أحكاماً وفتاوى فقهية، أثَّر في صدروها الواقعُ الاجتماعي الذي كان سائداً، والحالة النفسية لمن أصدر الفتوى، وملابساتُ المسألة التي جاءت الفتوى جواباً عليها، وهي على كل حال لا تُمثِّل فهمنا المعاصر لمقاصد القرآن والسنة في التعلم والتعليم؛
- وسنجد فيه ممارساتٍ تعليميةً، فرديةً ومجتمعية، أقام التراث عليها أشدَّ النكير، فلم تكن محلَّ قبول في زمانها، وهي ليست محل قبول اليوم.
وإذا عُدَّ التراثُ قديماً، فما الجديد لدينا في ميدان التربية والتعليم؟ من المؤكد أننا:
- سنجد أمثلة مشرقة من الخبرات والتجارب في العمل التربوي في أماكن مختلفة من العالم تستند إلى فكر نيِّر وقيم نبيلة، حقَّقت الكثير من متطلبات تكريم الإنسان، وإطلاق طاقاته في الاستخلاف والعمران؛
- وسنجد أنظمةً وقوانين في التربية والتعليم في أماكن مختلفة من العالم تشكّلت بتأثير الواقع المحلي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لتلك الأماكن، ولا تبدو قيمتها إلا لمن يخضع لذلك الواقع، طوعاً أو كرهاً؛ ومع ذلك فهؤلاء الذين يلتزمون بها لا يزالون يتطلعون إلى التجديد والتطوير؛
- وسنجد في الخبرة المعاصرة كذلك ممارساتٍ تعليميةً، فرديةً ومجتمعية، تتَّصف بالفوضى الفكرية، والسقوط النفسي، وامتهان كرامة الإنسان وإذلاله، وسحق شخصيته، وهي ممارساتٌ مٌستنكرة، انتهت إليها حالة بعض الأماكن، نتيجة الجهل والتخلّف الحضاري، أو الفساد المالي والإداري، أو الاستبداد السياسي لفئات اسْتَمْرأَتْ تحقيق مصالحها ومكاسبها في ظل هذه الأوضاع.
فالخير الذي نبحث عنه في بناء فكرنا التربوي الإسلامي المعاصر، ليس في القديم على إطلاقه، وليس في الجديد على إطلاقه، إنَّه معادلة متوازنة تتكامل فيها عناصر الخير والجودة من القديم والجديد، ويُبْدِع فيها عقل الإنسان المسلم المعاصر في صياغة هذه المعادلة ضمن المقاصد التي أراد الله فيها للإنسان تزكيةً في جسمه وعقله وروحه، وتزكيةً في حياته الفردية وعلاقاته وأنظمته الاجتماعية، وأراد الله لهذا الإنسان سعياً دؤوباً لاستثمار التمكين المتاح له في هذه الأرض لإقامة العمران، وبناء الحضارة، إلى أن تنتهي هذه الحياة الدنيا، ثم تكون الرُّجْعَى إلى الله، فمن أحْسَنَ في هذه الدنيا فلِنَفْسه ومن أساء فَعَلَيْها، وما ربُّكَ بظلَّام للعبيد.
والحمد لله رب العالمين.
[1] البخاري، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل (ت256ه)، صحيح البخاري، اعتنى به أبو صهيب الكرمي، بيروت: بيت الأفكار الدولية، ط1، 1998م، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (3651)، ص697.
[2] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت748ه): ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي محمد البجاوي، بيروت: دار المعرفة، 1963، ج1، ص 4.
[3] الترمذي، أبو عيسى، محمد بن عيسى بن سورة (ت279ه) جامع الترمذي، كتاب الأدب، بابٌ، حديث رقم (2869)، ص459.
[4] الـمُبَرِّد، أبو العباس محمد بن يزيد (ت285ه) الكامل في اللغة والأدب. تحقيق عبد الحميد هنداوي: الرياض: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1419ه (1998م)، ج1، ص 79.
[5] ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير، تونس: الدار التونسية للنشر 1984، ج1، ص 7 من مقدمة التفسير.
[6] الأنباري، أبو البركات كمال الدين بن عبد الرحمن (577ه). نزهة الألباء في طبقات الأدباء، تحقيق إبراهيم السامرائي: الزرقاء، الأردن: مكتبة المنار، 1985، ص 32. والبَقْلُ: نباتٌ عُشبي قصير، والرَّقْل: النخلُ طويل القامة.
[7] معروف، ناجي. تاريخ علماء المستنصرية، بغداد: المؤلف (مطبعة العاني)، 1959م، ص 83.
[8] الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى (ت790ه). الموافقات في أصول الشريعة، شرح وتخريج الشيخ عبد الله دراز، طبعة جديدة كاملة في مجلد واحد، بيروت: دار الكتب العلمية، 2004م، ص57.
[9] مهداد، الزبير، السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي رائد إصلاح التعليم بجامع القرويين، مجلة دعوة الحق (تصدرها وزارة الأوقاف في المملكة المغربية)، العدد 367 ربيع 1- ربيع 2/ ماي – يونيو 2002م.
[10] الحموي، ياقوت (ت622هـ). معجم الأدباء: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تحقيق إحسان عباس، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1993، ج5، ص 2103.
[11] ابن عبد ربه، شهاب الدين أحمد بن محمد الأندلسي (ت 328هـ) العقد الفريد، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1404 هـ، ج1، ص 4.
[12] ابن مالك، جمال الدين بن مالك الطائي (ت672هـ). تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، تحقيق محمد كامل بركات، القاهرة: دار الكتاب العربية للطباعة والنشر، 1967م، ص 2.
[13] حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله (ت1067هـ). كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، عناية محمد شرف الدين بالتقايا، ورفعت بيلكة الكليسي. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1360ه/ 1941م)، المجلد الأول، ص 39.
[14] عاش الونشريسي في القرن التاسع والعاشر 834-914 هـ، فالمائة التي يشير إليها هي أحد القرنين.
[15] الونشريسي، أبو العباس أحمد بن يحي (ت914هـ). المعيار المعرب والجامع المغرب في فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، خرَّجه جماعة من الفقهاء بإشراف محمد حجي، الرباط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية، 1981م، ج2، ص 479 – 482.
[16] هكذا وردت في الأصل، لكن هذه ليست آية، وهناك آيات بمعناها، منها قوله تعالى: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170].
[17] أي أن أبا الريّان ينسب الأبيات الأربعة لابن شرف القيرواني.
[18] ابن شرف، القيرواني، محمد بن أبي سعيد (ت360ه). رسائل الانتقاد في نقد الشعر والشعراء، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، بيروت: دار الكتاب الجديد، 1983م. ص 39-40. وقد رويت هذه الأبيات في عدد من المصادر منسوبة لأكثر من واحد فهي رسائل البلغاء منسوبة لابن شرف القيرواني، وعند الزبيدي البيتان الأولان لعبد الله بن سلامة المؤذن، والبيتان الأخيران لابن رشيق: انظر: الزَّبيدي، محمد مرتضى الحسيني (ت1205ه). تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء، 1965، ص 93.