في نقد خطاب المؤثرين

348

برزت في مواقع التواصل الاجتماعي فئة تدعى بـ “المؤثرين” (Influencers)، وهي فئة باتت تزاحم مكانة “النخبة” لتأخذ دورها وتؤثر على المشهد الثقافي والاجتماعي لفئة الشباب تحديداً، علاوةً على ما تُحدثه من جدل وصخب حول الآراء والمواقف التي يصدرونها.

عادة ما ترتبط مواضيع هذه الفئة بالقضايا الجدلية؛ خاصة الأمور الاجتماعية والشخصية التي تخص حياة الشباب كالعلاقة بين الجنسين والزواج والمسائل المتعلقة بالانفتاح ونقد المجتمع التقليدي المحافظ.

وأصبحت هذه الفئة محط لفت للأنظار من أفراد المجتمع، بين معجبين بها ورافضين لها، علاوةً على استضافة هذه النخب في القنوات التلفازية والأنشطة الشبابية في الجامعات.

بغض النظر عن الحكم الذي يمكن أن يصدره أحدهم على هذه الفئة، إلا أنها وليدة عوامل حقيقية يعيشها الشباب الآن. فمن جهة، باتت الساحة الفكرية الآن تفتقد إلى نخبة ثقافية قادرة على التواصل مع الشباب وهمومهم الحالية ذات الطابع اليومي، خاصة مع ضعف النخبة الإسلامية وعجز الأوساط المحافظة عن الاستجابة لمتطلباتهم. ومن جهة أخرى، تمكنت فئة المؤثرين من تقديم إجابات بديلة لفئة الشباب، حيث كانت هذه الإجابات أكثر انفتاحاً واحتراماً للتنوع، ومفتوحة على الأفكار المعاصرة. والأهم من ذلك، فإن هذه الفئة أتت مواكبة لشبكات التواصل الاجتماعي وأدواتها، وتمتلك القدرة على الترويج لمحتواها باستخدام أدوات هذه الشبكات.

لكن مع ذلك، وبسبب انتشار هذه الفئة بشكل واسع، وجب التعبير عن المواضيع التي تستحق النقد في خطاب فئة المؤثرين هذه، وبالتالي عدم تجاهل ما تقدمه من مضمون وحجم تأثيره على الشباب.

سأقوم في هذه المقالة بالإشارة إلى مواضع النقد التي أعتقد أنها تستحق الالتفات لما تتضمنه من إشكال في خطاب فئة المؤثرين، والتي تؤدي في غالب الأحيان إلى نتائج سلبية.

الاعتمادية:

تميل هذه الفئة إلى تقديم إجابات ذات طابع حتمي؛ ففي مقابل نمط الحياة المحدد الذي يقدمه المجتمع المحافظ، تقدم هذه الفئة أيضاً إجابات محددة للخيارات البديلة التي على الشباب اختيارها، وهي بالضرورة تقع على النقيض من اختيارات المجتمع المحافظ.

تأتي هذه الإجابات عادةً بعد نقد اختيارات المجتمع التقليدي، والسخرية منه في كثير من الأحيان، مما يضع المتلقي في حالة من الشك إذا وصل لقناعة فيما تقوله فئة المؤثرين، خاصة إذا كان المتلقي مستاءً من بيئة المجتمع التقليدي ويشعر بالضيق منها. ولذلك يركن المستمع إلى ما يقوله المؤثرون، لوجود الإجابة التي يبحث عنها والتي تنسجم مع رغباته.

هذا الأمر هو أكثر ما يحول هؤلاء المؤثرين إلى رموز يتعلق بها الكثيرون. وهو ما ينتج حالة من الاعتمادية والاتكال عليهم ليقدموا إجابات وآراء في مختلف أمور الحياة، سواءً كانت ضمن مجال حديثهم أم لا، وهي عادةً ما تؤخذ كما هي من غير نقد من قبل المتلقين، بسبب تحولهم إلى رموز معتمد عليهم.

وهنا يمكن استحضار فكرة مهمة وخطيرة لأستاذ التحليل النفسي إريك فروم، حيث يشير كيف تتحول العلاقة بين المعالج النفسي والشخص الذي يريد مساعدته إلى علاقة اعتمادية، ويقول: “فبعضهم يأملون أن يقوم المحلل النفسي في نهاية الأمر باتخاذ القرار عوضاً عنهم”؛ بحيث يصبح المحلل النفسي مصدر السلطة والنصح.

بمقارنة ذلك مع دور المؤثرين الذي يتحولون بدورهم إلى مصدر للسلطة والنصح بالنسبة للمتلقين، تنتج حالة من الاعتمادية للمتلقي، وهذا بحد ذاته أمرٌ خطير بسبب إلغاء الاستقلالية وإعادة إنتاج حالة الانغلاق لكن بقالب وخطاب جديد.

اللا مهنية:

ثمة مبادئ مهنية وأخلاقية تتعلق في مجال الإرشاد النفسي والاجتماعي، والذي يرتبط أيضاً بما بات يُعرف بـ “إدارة الحالة” (Case Management)؛ أي ما هي التدابير والأساليب المهنية والأخلاقية المناسبة للتعامل مع الحالة التي تأتي لتطلب المساعدة من مرشد أو شخص ذو خبرة.

ومن هذه المبادئ عدم فرض رأيك على الحالة، بل لا تقدم النصائح للحالة التي تأتي إليك. وهذا يعود لفكرة الاعتمادية التي ذُكرت سابقاً من جهة، ولضرورة جعل الحل أو القرار أمراً منبعثاً من داخل الشخص، لا مفروضاً عليه من الخارج.

فكل ما هو مطلوب منك هو التحاور والحديث مع الحالة، والغوص في تجربتها إلى حين وصول الحالة بتلقاء نفسها إلى القرار المريح لها.

وهذا عكس ما يقوم به المؤثرون، والذين يملون آراءهم وتجاربهم على الآخرين بداعي نشرها وإنكار قيمة أي تجربة أخرى لا تتلاءم مع النسق الذي يفكرون فيه، لكن هذا يلبي حاجة نفسية جذابة للمؤثرين، وهي الشعور بالقدرة على التأثير والتوسع وكسب القلوب، أي تعزيز الشعور بالأنا.

مواجهة المجتمع:

هناك افتراض دائماً ما يكون متضمناً في موقف فئة المؤثرين من المجتمع المحافظ، وهي أن أتباعه مغلوب على أمرهم ومنصاعون بشكل أعمى لمعتقدات هذا المجتمع. وهذا الافتراض يقوم أيضاً على أن قيم المجتمع المحافظ المنغلقة والتي تقيد حرية الفرد هي مبادئ يجب التخلي عنها والتضحية بها كي يحقق الإنسان فرديته وراحته.

لكن هذا الافتراض يحتوي على عدة إشكالات؛ أولها عدم فهم طبيعة المجتمع المحافظ، فمن أهم الأهداف الضمنية للمجتمع المحافظ هي ضمان الاستقرار النفسي للفرد، وذلك عن طريق الحفاظ على الوضع القائم، ونسج العلاقات الاجتماعية بشكل متماسك وحميمي، ووضع حدود للأشياء، وتقييد حرية الفرد بدرجة معينة كي لا يقع بما يمكن أن يهدد العلاقات الاجتماعية. وبالتالي عادةً ما تكون نتيجة إزالة هذه القيود هي زعزعة الاستقرار النفسي الذي يضمنه المجتمع المحافظ.

فالافتراض أن مبادئ المجتمع المحافظ كلها معادية للفرد هو أمر غير دقيق. وعلى ذلك ينبغي تفهم اختيار البعض وتمسكهم بالخيار المحافظ، حتى لو كان هذا الاختيار واعياً بالضرورة، فشعور الاستقرار والمحافظة الذي يغمر الفرد في هذه الحالة هو بحد ذاته إجابة لسبب عيشه في وسط محافظ، وأي تعدٍ على هذه الفكرة يمكن اعتباره تدخلاً في حياة الشخص.

فالزواج التقليدي على سبيل المثال (واذكر هذا المثال لأنه من أكثر القضايا تكراراً لدى فئة المؤثرين) يضمن بدرجة معينة تشكل زواج من دون حصول زلات أو سقوط في علاقات قد تكون إما محرمة أو تورث ندوباً نفسية في الفرد بسبب غياب الضبط فيها. نعم ثمة العديد من المشاكل في هذا الزواج، لكنه مع ذلك – ومن وجهة نظر سوسيولوجية – يحقق هذه الوظيفة بقدرٍ ما.

في المقابل، فإن الزواج غير التقليدي ‑الذي عادةً ما يروج له‑ لا يضمن بالضرورة السلامة النفسية للفرد وثبات عالم العلاقات حوله، نعم ثمة تجارب عديدة ذات نتائج إيجابية، لكن ما أقوله هو إنه لا يقوم بالضرورة على الأخذ بالوضع الاجتماعي القائم والنظم الموجودة فيه، وهو يمكن أن يحقق تهديداً للنسق الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد.

الفكرة من الموضوع أن الخيار التقليدي ليس خياراً شريراً معادياً للفرد، كما أن الخيار غير التقليدي ليس خياراً ممتازاً ويحقق ذات الفرد بشكل كامل، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كلاً من الجوانب الفردية والاجتماعية التي تشكل كيان الفرد.

تحول الكاريزما:

يعتبر مفهوم الكاريزما أحد الأدوات التحليلية المهمة عند عالم الاجتماع ماكس فيبر، والتي استعملها ليميز القادة الذين نصبوا أنفسهم كمؤثرين وأثرهم في اتباع الآخرين لهم والذين يواجهون مشاكل أو بحاجة لاتباع قائد ما. التصق مفهوم الكاريزما بشكل أساس عند فيبر بالقادة السياسيين والدينيين، بالإضافة للمفكرين والأبطال.

وتكمن أهمية هذا المفهوم في أنه يُعبر عن طبيعة التحولات الاجتماعية؛ فالتحول في الكاريزما في مجتمع ما يعبر عن طبيعة هذا المجتمع من جهة، كما أن ظهور “كاريزمات” جديدة في المجتمع يشكل عاملاً أساسياً في التغير الاجتماعي.

ومن الواضح كيف تتجلى فكرة التحول في الكاريزما مع بروز خطاب المؤثرين على الساحة. فبروزهم من جهة يبعر عن طبيعة التحولات الاجتماعية، مع بروز شبكات التواصل الاجتماعي وأزمة المجتمع المحافظ وضعف النخب الفكرية.

ومن جهة أخرى يكشف بروز هذه الفئة عن نشوء تحولات اجتماعية جديدة، حيث تخترق هذه التحولات النظام الاجتماع المعهود، ونظام القدوة والتأثير، والشكل المألوف للنخبة، بالإضافة لتحول في طبيعة الأفكار الدينية التي يتم الترويج لها من قبل فئة المؤثرين.

كما تكمن نقطة مهمة في مسألة الكاريزما، وهي أنها لا تقوم على المساءلة، فهي متبوعة لأنها تقدم إجابات وتحل مشاكل بالنسبة للأتباع. وفي سياق شبكات التواصل الاجتماعي التي تمتاز بالدرجة الأولى بالسرعة والفورية، يخضع خطاب المؤثرين للمعايير نفسها المتعلقة بالسرعة والفورية. فخطاب المؤثرين يقدم إجابات جاهزة ومرغوبة وسريعة، فقد تُنشر في فيديو صغير أو في منشور من بضعة فقرات أو بعبارات محدودة حتى، وليس في كتب أو محاضرات مطولة، وهذا ‑مع الأسف‑ يتلاءم أكثر مع شبكات التواصل الاجتماعي وجماهيرها التي تنجذب أكثر لما هو سريع وجاهز.

*** *** ***

بشكل عام ومن ناحية سوسيولوجية، يمكن النظر إلى فئة المؤثرين باعتبارها تجلياً للآخر، للفردانية، والتي تأتي بالتوازي مع انتشار التدين الفردي وحالة الفرض للمجتمع التقليدي المحافظ. وهو أمر يستحق البحث بسبب توسع تجليات الفردانية في المجتمعات العربية، مما يُنبئ بتحولات اجتماعية لا تمس النظم الاجتماعية العامة وحسب، بل الحياة الشخصية للأفراد ونظام العلاقات القائم بينهم.

كما أن ذلك لا ينفصل بطبيعة الحال عن مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت الفرصة أمام ظهور هذا النوع من الفئات، والذي يبدو جلياً ضعف النخب التقليدية وممثلي الأوساط المحافظة والمتدينة من الدخول في مواقع التواصل الاجتماعي وإثبات أنفسهم أمام سطوة الفئات الأخرى.

وبعد هذا النقاش حول خطاب المؤثرين، يمكن الالتفات إلى تأثير هذه الحالة على الواقع الديني المعاصر، بل وعلى بعض المفاهيم الدينية أيضاً.

فعدا عن كون هذا الخطاب أحد الروافد الأساسية لتدين الشباب الفردي ولنقد التدين التقليدي المحافظ، بات خطاب المؤثرين يمثل تحدياً أساسياً للخطاب الديني المحافظ الذي يبدو أنه متأخر عن تقديم استجابة ملائمة للواقع الحالي.

كما لا يخفى تأثير ذلك على مفاهيم دينية مثل “القدوة”، والتي تُعد رافداً أساسياً لتدين الفرد وأفكاره ومبادئه. بالإضافة إلى مفهوم “الروية”، وهي أحد المفاهيم الأساسية للتزكية؛ حيث تعني الروية الانتظار والتفكير قبل اتخاذ قرار ما أو اتباع فكرة معينة، وبالتالي بناء مسافة بيننا وبين الأشياء من حولنا. لكن هذا بات صعباً في ظل السرعة التي تتسم بها شبكات التواصل الاجتماعي والفورية اللصيقة بها والتي يتماشى معها خطاب المؤثرين.