حقول الدم: الدين وتاريخ العنف

235

اسم الكتاب: حقول الدم

اسم المؤلف: كارين أرمسترونغ

ترجمة: أسامة غاوجي

الناشر: الشركة العربية للأبحاث والنشر (2016)

عدد الصفحات: 600

يشتعل العالم اليوم بالمعارك والعنف، تارة باسم الدولة وتارة أخرى باسم الدين، وينشب صراع في الساحة الإعلامية عن المسبب لهذا العنف، هل هو الدين أم شيء آخر؟

وضمن هذا التساؤل يصعب إيجاد حل لمعضلة العلاقة بين الدين والعنف، خاصة بسبب تداخل الأسباب والعوامل، ولكن تكمن البراعة في ربط هذه الأسباب والعوامل المختلفة لتقديم فهم أكثر تركيباً للعلاقة بين الدين، وهذا ما تقدمه كارين أرمسترونغ في كتابها الفذ “حقول الدم: الدين وتاريخ العنف”.

تحاول أرمسترونغ في هذا الكتاب أن تتجاوز القراءات المبسَطة والاختزالية في مسألة العلاقة بين الدين والعنف، فهي تعتبر أن “أسطورة العنف الديني” الشائعة اليوم لا تقدم صورة كاملة عن علاقة الدين بالعنف، وتنفي السياقات الأوسع لمسألة العنف ذاتها.

حيث يغلب على المشهد الإعلامي اليوم إحالة العنف إلى الدين، وأن الدين هو المسبب للعنف في العالم، وأن الحروب الدينية التي شهدتها أوروبا في العصور الوسطى شاهد على ذلك، والآن أصبحت مقولات الإسلاموفوبيا و”الإرهاب الإسلامي” مقولات رائجة يتغنى بها الإعلاميون بل والكثير من المفكرين والمثقفين.

وتصبح النتيجة التي يريد أن يخلص إليه هؤلاء هي إقصاء الدين عن الحياة العامة والفاعلية السياسية، وجعله شأناً فردياً خاصاً من أجل تجنب آثاره “الوخيمة” على الحياة.

ولكن يتجاهل هؤلاء كم العنف والإرهاب الذي نتج مع الحملات الاستعمارية والحربين العالميتين والتورط الأمريكي في دماء الشرق الأوسط، والتي لم تكن دوافعها “دينية” بقدر ما كانت قومية وسياسية واقتصادية، ولكنها أشاعت الخراب والفساد والعنف والقتل حيثما حلَّت.

ما تسعى إليه أرمسترونغ هو تجاوز اختزال العلاقة بين الدين والعنف، وتوسيع أفق النظر والبحث في السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ترتبط بالعنف بشكل عام، ثم البحث في موقع الدين منها، لأن هذه السياقات هي العوامل الأبرز في تشكيل ظاهرة العنف.

العنف والحضارة

تقول أرمسترونغ إن الحرب نشأت مع نشأة الحياة الزراعية، فقبل الحياة الزراعية كان البشر يعيشون ضمن مجتمعات قائمة على صيد الحيوانات، لذا فالإنسان كان يعيش على قوت يومه، هو ومجموعة الأفراد من حوله، يذهبون للصيد ويعودون ليتناولوا ما صادوه، لكن من دون أن يتمكنوا من تحقيق فائض للإنتاج، وبالتالي لم تنشأ فجوات طبقية بين الأفراد في تلك الفترة نظراً لغياب أسبابها الموضوعية.

ولكن مع نشأة الحياة الزراعية أصبح الإنسان ينتج الحبوب ويخزن ما هو فائض منها، هذا الأمر أدى لنشوء مدن قائمة على تخزين هذا الفائض، وهو ما كان عرضة دائماً لغزو البدو الجائعين، وهو ما جعل سكان هذه المدن معرضين للخطر دائماً.

وليس هذا هو شكل العنف الوحيد الذي أصبح ممكناً مع الحياة الزراعية، فقد أنتجت هذه الحياة نوعاً آخر وجديداً من العنف وهو “العنف البنيوي”؛ أي العنف الذي يكون متضمناً داخل نظام حياة المدينة، والذي كان يجبر به المجتمع أفراده على العيش في البؤس والتعاسة، ويخضعهم عبر العيش في حالة لا يمكنهم فيها تحسين مصيرهم.

وقد نشأ هذا بحكم التفاوت الطبقي الذي رافق تقدم الحياة الزراعية، ففائض الإنتاج الذي ينتجه الفلاحون لا يملكونه هم، فقد كان توزيع الموارد والقوة غير متساوٍ وغير متكافئ، حيث تتركز الموارد والقوة في أيدي القلة الذين لا يستعملونها لتحقيق نفع جميع أفراد المجتمع، بل يستعملونها ويوظفون أفراد المجتمع لتحقيق مصالحهم الخاصة.

وكان من ضمن أهداف هذا العنف البنيوي ضمان استمرارية الفلاحين في العمل على الأرض وعدم توقفهم عن ذلك، وسد أي ذريعة للتمرد على السلطة والقوة.

وتكمن المفارقة التي تشير إليها أرمسترونع أن هذا التراتب الطبقي الظالم والعنف البنيوي المرافق له كان أمراً ضرورياً للتقدم، حيث يحاجج المؤرخون الاجتماعيون أن هذا الترتيب الظالم للمجتمع ساهم في توفير طبقة ذات امتيازات خاصة تمتلك وقت الفراغ والثروة لتطوير الفنون الحضارية والعلوم التي جعلت التقدم ممكناً فيما بعد.

ومع تطور الحياة الزراعية أكثر وأكثر بدأت تنشأ الإمبراطوريات التي قامت على شنّ الحروب على الأراضي المجاورة لاستملاكها وتصبح جزءاً من أملاكها وعوائدها.

ضمن هذا الإطار سيكون من الصعب تقديم إجابة مبسطة عن دور الدين في نشوء أشكال العنف التاريخية هذه، لأن هذا العنف كان جزءاً لا يتجزأ من السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لنشأة الحضارة، ولأن الدين كان جزءاً من نمط الحياة المعاش وكان يتخلل كل جوانب الحياة وليس أمراً منفصلاً عنها.

وتصبح المفارقة التاريخية مرتبطة بكيفية الخروج من مأزق الحضارة، مأزق العنف البنيوي الذي أصبح عماداً للحضارة والإمبراطوريات وغيرها.

من هذه الفكرة تشير أرمسترونغ إلى كيفية حضور الدين، بالرغم من وجود “حروب مقدسة” كانت تدور في التاريخ ‑تشير في الكتاب إلى أن أهداف هذه الحروب كانت سياسية توسعية واقتصادية أكبر من دوافعها الدينية، والدين كان جزءاً من ذلك وليس سبباً له‑ بالرغم من ذلك إلا أنه نشأت أيضاً دعوات لتجاوز هذه الحالة، حيث قدَّم هذه الدعوات الأنبياء والحكماء، وكان الدين يؤدي دوراً كبيراً في ذلك.

فهي تقرأ تاريخ العلاقة بين الدين والعنف ضمن هذه الجدلية، يتضخم العنف داخل الحضارة ويبدأ الشعور بمعضلة الحضارة أكبر، فيبدأ نشوء سرديات دينية جديدة تحاول تجاوز أزمتها، مثل دعوات كونفوشيوس، وبوذا، أو رسالة سيدنا عيسى عليه السلام مع الإمبراطورية الرومانية، ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش.

الإسلام والعنف

تعتبر آرمستزونغ تجربة سيدنا محمد كمحاولة لتجاوز عنف الجاهلية التي كانت موجودة عند قريش، والتي كانت تؤسس أخلاقاً عنيفة قائمة على الثأر والحمية، ليستبدلها النبي بدعوة تقوم على الحلم والعفو.

وفي الحقيقة، تكنُّ أرمسترونغ موقفاً منصفاً اتجاه الحضارة الإسلامية والحروب التي أنشأتها، من ناحية احترامهم لأخلاقيات الحرب، ومحاولة تخفيف حدة العنف الممارس إلى أخفض حد، بل وتعتبر أن المسلمين في فترة الحروب الصليبية كانوا أكثر إنسانية من الصليبيين، ففي حين استباح الصليبيون القدس وقتلوا كل من فيها من محاربين وغير محاربين، تشير هي إلى أن صلاح الدين لم يقتل إلا بعض المحاربين وأتاح الفرصة للباقين بالعودة إلى بلادهم آمنين.

وحتى في السياق المعاصر، ترفض الكاتبة اعتبار الإسلام دين عنيف بطبيعته كما هو رائج، فهي تقرأ المشهد الراهن من انتشار الجماعات الإسلامية التي تتبنى الجهاد باعتباره ناتج عن حالة المظلومية والبؤس التي تعيشها العديد من البلاد في الشرق الأوسط، وكرد فعل على الغزو الغربي للمجتمعات الإسلامية، كما حصل في أفغانستان والعراق وداعش اليوم.

فهي تعتبر أن الأصولية الدينية بشكل عام لا تنشأ إلا كرد فعل عن حالة العنف التي تمارس عليها وأشكال الإقصاء التي يُمارس عليها سواء من قِبل الأنظمة العلمانية (كما حصل مع جبهة الإنقاذ في الجزائر) أو من قِبَل الحملات الاستعمارية والإمبريالية الغربية (كما الحال في القاعدة وداعش).

ومع ذلك، تثبت أرمسترونغ وبالاستناد إلى وثائق وأبحاث ميدانية أن الكثير ممن كانوا يشاركون في تنظيمات مثل القاعدة أو داعش هم أشخاص لا يحظون بمعرفة وخبرة كافية بالشريعة، فهم إما أن يكونوا أشخاصاً متحمسين وشاعرين بالمظلومية في واقعهم، أو أن يكونوا قد أسلموا حديثاً، بل والكثير منهم تلقوا تعليمهم ضمن النظم التعليمية الحديثية في العالم العربي وليس في الحقول الشرعية.

وهي تحاول التأكيد دائماً على الأبعاد السياسية المتضمنة في الحملات التي تشنها الجماعات الجهادية، كالموقف من الولايات المتحدة في هجمات 11 من سبتمبر/ أيلول التي شنتها القاعدة على برجي التجارة العالمي، أو في حالة داعش باعتبارها تمثل حالة إقصاء السنة من المجال السياسي واضطهادهم من قبل الشيعة، وذلك بعد تنصيب حكومة تابعة للولايات المتحدة في العراق، أي أن ما يحصل هو نتيجة لهجمات الولايات المتحدة على العراق بشكل أساس.

*** *** ***

من المهم الاطلاع على هذا الكتاب الواسع والذي يقع في حوالي ٦٠٠ صفحة، وقد تضمن قراءة تاريخية موسعة ودقيقة لتاريخ العنف وعلاقته بالدين في مختلف الحضارات الإنسانية في الشرق والغرب، وأهم إضافة قدمتها الكاتبة هو فك هذا الارتباط المتلازم بين الدين والعنف الذي بات أمراً مسلماً به عند العديد من الإعلاميين والمفكرين.

ولا بد أن يحظى الكتاب بالأولوية لما يقدمه من توضيح لبعض الالتباسات الواقعة في التصور عن الإسلام وما أصبح يرتبط به من إساءات وتشويه الصورة، خاصة بعد انتشار مقولات “الإرهاب الإسلامي” و”الإسلاموفوبيا”.