حول عالمية الإسلام المعاصرة

348

ينطوي ضمير المسلم على بعد عالمي يزخر بمعاني الرحمة والعدل، غير أنه في سياق التنكيل بالمسلمين يظهر اختلاط في الطروحات المعاصرة، يربك الضمير المسلم ويعكس تناقضاً في المواقف النفسية والعملية…

لقد أرسى القرآن الكريم رؤية إنسانية توحيدية عالمية، وزخرت السيرة النبوية بمواقف كثيرة تنبض بمعاني الشمول وعموم الرسالة وعالمية الدعوة، تتألق منها على وجه الخصوص حادثتان لهما استجابة عميقة لواقع مسلمي اليوم والمعترك الثقافي والنفسي الذي يغمر حياتهم.

فبعد سنين من الدعوة والمحاولات الدائبة لمخاطبة العقل الخرافي المشرك، وبعد كل الجهود التي تحاول الدفع بالفكر التوحيدي والنداء الأخلاقي في وجه منظومة الظلم وشبكة المصالح المحلية التي تمسك قريش بزمامها، تأتي حادثة الطائف ممثلة لدأب النداء الفتي أن يجد له نصيراً ومأوى. ويأتي رد الطائف كأقسى ما يمكن أن تواجهه حركة تتطلع لإرساء قواعد الخير في لجج الظلمات الفكرية والاجتماعية…

“لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين” يهمس الملَكُ استجابة إلهية للنداء الجريح من حامل الرسالة التي اُئتمن على تبليغها وطولب بإفراغ الجهد في التمكين لها… “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس…”.

ويأتي الجواب المتوقع الذي يليق بحامل هذه الرسالة ويليق بالعمق الأخلاقي العالمي لهذه الرسالة “لا … عسى أن يخرج من أصلابهم من يوحّد الله…”.

وتخرج الرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة والجماعة النواة إلى مرحلة المجتمع والتمكين السياسي. وبعد كل الجهود الطائلة والآلام البالغة… وبعد انقضاء مرحلة المعاناة والصبر على العذاب والتكذيب في مكة… وبعد تشريد الهجرة وافتتاح أمل جديد تكتنفه تحديات جديدة… وبعد لحظة بدر واستنفار الجهد المسلم ومطالبته مواجهة شوكة ظن أنه ما حان وقتها… وبعد وكعة أحد والاعتراك مع الضعف الإنساني وما تلاها من ازدياد وضوح تحديات المجتمع التعددي والخروق التي قبع فيها الخداع العقدي والنفاق المصلحي… وبعد بزوغ فجر يؤذن بأن تخرج الرسالة من أسوار المدينة… تأتي غزوة الأحزاب كإجماع إقليمي لإنهاء الخطر الجديد الذي لم يزل ينمو حتى صار كياناً محترماً يبشر بمنظومة جديدة في ترتيب المجتمع وعلائق الأديان والخلفيات القبلية المتباينة والنشاطات الاقتصادية المستجدة… هذا الإجماع الذي يوازي  الإجماع القبلي على الطعن غيلة في الفراش ليلة الهجرة طعناً تتفرق فيه المنعة وإمكانية النهوض في لحظة الخروج العالمي من طوق وادي مكة.

وفي لحظة زلزلة يرتجف لها حتى الإيمان الراسخ تتألق العالمية في حل الخندق الذي لم يعرفه الداخل وتتألق فيه عالمية الأمل والاستبشار والثقة الإيمانية في أيام بلغت فيها القلوب الحناجر ليضرب الفأس الصخرة ولتنقدح اللمعة مبشرة بانفتاح المشارق والمغارب…

~          ~          ~

ورغم أن هاتين الحادثتين فياضتان بمعاني العالمية التي يتحرك لها الضمير المسلم، إلا أنه شاب البعد العالمي غموض ودخن يخشى من تراكمه في غمرة أحداث اليوم أن يحجب لب توجه الإسلام في خطاب البشرية. ولذا فسوف أسعى لمعالجة ثلاث نواح رئيسة تتصدر لقاء الخطاب الإسلامي مع العالم اليوم وتستلزم بعض التحرير: قضية غير المسلمين والجهاد والتمثيل السياسي للقيم.

موقع فاعلي الخير من غير المسلمين

خرجت الملايين في الخامس عشر من فبراير هذا العام متعاطفة مع قضية عربية إسلامية معرضة نفسها في بعض الأحيان للخطر. والذي يلفت النظر أنه لا ينسجم هؤلاء الناس مع نمط الحياة الإسلامي من ناحية ويغلب على أكثرهم النزعة اللادينية… فكيف يحلّ العقل المسلم معضلة قوم يقفون مناهضين لما يتهدد المسلمين في حين أنهم ليس فقط لا يؤمنون بعقيدة الذين يدافعون عنهم بل ويغلب أن لا يكون عندهم تذوق لفكرة الانصياع للتوجيهات العلوية الخارجة عن نطاق البشر؟

أما على مستوى الممارسة اليومية ونمط الحياة الذي يعيشونه فإنهم أبعد ما يكونون عن نمط الانضباط الديني. ولو أردنا أن نقيسهم على محكّ السلوك الإسلامي القويم، فإنه يغلب على أمثال هؤلاء أن يكونوا ممن يشربون الخمر بل وربما يصنف بعضهم بأنهم زناة (بحسب التعريف الإجرائي للزنى) ويغلب عليهم أن يأكلوا لحم الخنزير.

والسؤال هنا هو كيف يمكن أن تتسع عالمية الإسلام أمثال هؤلاء. وهل يمكن للجواب الإسلامي أن يتحيز لأضيق الحدود ويئد هؤلاء… أم أن هناك فرصة لإعادة النظر في الأطر الفكرية التي توسع خطاب عالمية الإسلام وتفرز الخطاب الثقافي الذي يتسم بالعدل والإحسان؟

إن الطرح الإسلامي يسع غير المسلمين وغير المنصاعين لديانة من خلال ثلاث أقنية مقررة في التصور الإسلامي.

أولاً: يرتكز تعامل المسلمين مع غيرهم على مبدأ تقييم الأعمال لا الإيمان والعقيدة. وهذا محور رئيس يغيب عن الطرح الإسلامي بشكل يسمح أن يتخذه المناهضون لفكرة التدين حجة على الدين. فلا نفتأ أن نسمع عبارات تدّعي أنه لما كان الإيمان الديني مركوزاً في غير عالم الدنيا ومتوجهاً نحو دفع الأفراد لتحقيق أوامره ونواهيه؛ فإن الدين –تعريفاً- غير قادر على منح أتباعه القدرة على استيعاب الآخر. ولا عجب إذاً أن يتقدم للآخرين بوصفة الموت في الدنيا، أو في أحسن الحالات الاحتراق والعذاب في الآخرة. ويقابل الموقف الديني هذا –كما يؤكد الطرح العالمي السائد- الموقف العلماني الذي يستند إلى الليبرالية التي تتجاوز مسألة العقيدة وتتسع للآخر من خلال أقنية الديمقراطية.

ويبدو معقولاً ضمن هذا المنظور أن تطالب الليبرالية الأديان بأن تحلّ مشكلتها بأن تعلمن نفسها وتحصر الدين في المعبد يطيّب خاطر الناس ويدغدغ أرواحهم، في حين يترك للناس أن يمارسوا حياتهم بحريّة وسلام مع الآخرين.

ولقد استجاب فعلاً القطاع الأكبر من النصرانية وأغلب اليهودية وتعلْمنت تدريجياً ونحّت من حيزها المبادئ المطلقة، في حين أنه استحق من تصلّب الوصف بالأصولية والتطرف الديني، والذي اعتبر أنه يمثل مشكلة العصر ممثلاً في أولئك الذين لا تحتمل عقولهم فلسفة التنوير أو لم تسمح لهم ظروفهم المعاشية من الفقر والانغلاق شمّ نسيم الحداثة… ويكثر الكلام اليوم أنه يقف الإسلام خصوصاً عقبة في وجه نمط الحرية الليبرالي إذ أنه أكد باستمرار عدم إمكان علمنته رغم كل الجهود الكثيرة التي يقوم بها تقدميون مسلمون ونظائرهم في الأكاديمية العالمية.

وضمن هذا المناخ الفكري فإنه يبدو للذين يقفون خارج الدائرة الإسلامية أن البحث في موقف ذاتي للإسلام تجاه التعددية المعاصرة هو موقف اعتذاري بحت. أما التأكيد على أن مبادئ الإسلام “لا تتعارض” مع الديمقراطية الليبرالية فإنه يقبلها البعض على أنها حل عملي معقول، ويعتقد الآخرون أنها مراوغة سياسية دينية… ويعكر على كل ذلك تصرفات شاذة في غاية الضيق والتطرف من فئات ذات رايات إسلاموية.

لكن كيف يمكن مطالبة العلمانية مراجعة أبجدياتها في قراءة الأديان والإسلام إذا كان الطرح الإسلامي التقليدي يؤكد النتائج التي وصلوا إليها؟ فما دام ينظر المسلمون إلى دينهم على أنه مجموعة من الطقوس المرتبطة بفكرة غيبية غير مفهومة فإنه لا يمكن أن يطالب من هو خارج الدين بفهم أكثرَ إسلامية من فهم أهله. وخذ مثلاً الطرح المعتاد للإسلام في الغرب حيث يجيب المسلمون بأن الإسلام هو تلفظ الشهادتين والقيام بأربعة أنواع من الشعائر… أو على الأقل هذا الذي يُفهم من طرحنا. وقليل ما تسمع من يتكلم عن قيم الإسلام الكبرى ومبادئه العامة.

ومقابل اختلاط الذهن المسلم بين ممارسة تقليدية للإسلام وبين شمولية الإسلام الذاتية التي تنفي عنه الضيق والانحصار متجسدة في الواقع في أنشطة إسلامية توسّع عملياً حيـّز “الدين” وساحة جولانه، يصعب على المنهجية العلمانية فهم الإسلام من غير مدخل ثنائية (المقدّس-الأرضي). وإنه لمن المفارقة أن تتقارب مفاهيم المثقف العلماني مع العامي المسلم نحو الدين، مقابل فهم المسلم المثقف الذي يدرك أن البناء التصوري للإسلام تتكامل فيه معطيات العقل مع عناصر الغيب في كلياته وجزئياته على حدّ سواء. فما هو غيب في الإسلام إنما هو مما لا يمكن للعقل الإحاطة به أصلاً، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم. أي أن المساحة الغيبية التي لا تخضع للتمحيص العقلي (وليس للإدراك والتحليل) هي مساحة تتحدى المسلم وغير المسلم، وخيار غير المسلم إنما هو غيب آخر، في حين أن لبّ العقيدة ولبّ الشريعة متكاملان مع العقل بالتمام. أي أن معطيات العقل تشكّل جزءاً لا يتجزأ من بنيان الإيمان العقدي. فمثلاً مفهوم الجزاء الأخروي لا يختلف في معقوليته عن مفهوم وجوب الجزاء (سلباً وإيجاباً) الذي تمارسه كل الأنظمة الثقافية منذ زمن قابيل وهابيل. وكذلك فإن لبّ الشريعة متكامل مع معطيات العقل في تحقيق منافع الناس ضمن المنظومة الخلقية التي يرتضيها المسلمون لأنفسهم.

وإنه لمن المعروف أن واجب المسلم هو البلاغ فلا إكراه في مسائل الدين، وأن الأمة منوطة بالقيام بدور الشهادة على الناس ليس على مستوى السيرة الفردية فحسب؛ وإنما على مستوى النظم الاجتماعي والسمت الثقافي. وعلى هذا فإن موقف المسلمين من غيرهم لا ينبني على صفتهم العقدية الظاهرة بقدر ما ينبني على سلوكهم العملي، والآية الكريمة {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم…} ناطقة بهذا، تمثلها الضمير المسلم في تاريخنا وما زال قادراً على تمثّلها في حاضرنا عندما يستطيع تجاوز الرؤية الانفصامية للدين التي تضعه في خانة وتضع معطيات العقل في خانة أخرى. ويفوت الكثيرين التفريق بين مستويين لخطاب غير المسلمين وأهل الكتاب… أحدهما يتعلق بالعقيدة حيث يحاورهم القرآن ويتحداهم بالحجة والبرهان، وآخر يتعلق بالسلوك فيدعو إلى العدل والقسط ويحذر مِن تجنّي الشنآن الشخصي والجماعي على العدل.

ثانياً: فإذا تجاوزنا الموقف التصوري نحو الآخر ونزلنا إلى عالم الواقع، فإننا نجد الإسلام يتعامل مع الواقع ويديره من خلال رؤية سُــننيّة بحتة يتوضع فيها الإسلام كمصدر للقيم وكدافع لعمل الخير وبذل الجهد والإصلاح وعمارة الأرض. ويفهم المسلم جلياً أن الواقع المسلم يتحقق من خلال جهد البشر الراشد وليس بطريقة سحرية، فيلتقي طبيعياً مع الآخر الذي يبغي الإصلاح. أي أنه ما دامت مواقف المسلمين تنبني على تقييم سنني عقلي للواقع فإنهم حكماً سوف يتشاركون مع الآخرين بناءً على تقييم الواقع. وعندما يختلفون فإنهم يختلفون حول المضمون الإصلاحي الإعماري للأفعال والتصرفات، خلافاً مبنياً على الخبرة العلمية والعملية. وليس معنى هذا أن القيم لا مكان لها في عالم الواقع، وإنما عندما يكون هناك تطابق -ولو غير كامل- على المراد الوصول إليه فإن التطبيق يتمحور حول التمحيص العقلي لآلية الوصول وجدواها. أما حل الخلافات فإنه تابع للبنية السياسية وهو مما لا أناقشه في هذه الورقة. (ومرة ثانية أقول يستوي العلماني من خارج الإسلام والجاهل من داخله في التصور الخرافي للدين… فيتصور المسلم الخرافي أن الدين تحقق من خلال معجزات وكرامات وأسرار تعجز عن الفهم، ويرى الآخر أن الدين لم يكن له وجود حقيقي وإنما مثّل حقبة بلاغية وجيزة سحرت العقول وسرعان ما انقلبت إلى حركة مادية بحتة بعدما انقلب الزخم الوهمي الديني إلى وتيرة روتينية).

وفي صدد المثال الذي أوردته في بداية المقال عن الحركات الإنسانوية وحركات معارضة التسلط الرأسمالي الاستعماري فإن النازع الإصلاحي للمسلم يمكن أن يسعها من خلال التشارك في الموقف تجاه المعقولية الملموسة للتصرفات والأعمال… وكما هو معروف فإن حركات حقوق الإنسان والسلام متعددة ومتنوعة جداً، وما بينها من اختلاف على التفاصيل ربما يفوق ما بينها من اتفاق، كما لا تشكل الحركات الشيوعية إلا جزءاً صغيراً من الطيف الواسع لهذه المجموعات. فحركات مناهضة العولمة (كما يسميها الإعلام) والعدل العالمي والحرية (كما تسمي نفسها) تجتمع على فهمها العام للنتائج المدمرة للنظام العالمي السائد سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، وإن كان يركز كلاً منها على ناحية محدودة جاهدة على إيجاد البدائل المعقولة وليس على مجرد الاعتراض (الذي يستغرق عادة اهتمام المسلمين). وتوصف هذه الحركات أحياناً بأنها اليسار الجديد لا على أنها شيوعية ولكن على أساس أنها تعارض بالذات أنماط الغلو والتسلط الرأسمالي. وكما هو معروف فإن عند المسلمين حساسية واضحة تجاه كل ما ينعت باليسارية أو يقترب منها، إذ ذاقت شعوبها ويلات العسف تحت أنظمة رفعت شعارات الاشتراكية… ولكن لا يمكن أن توصف هذه الحركات بأنها اشتراكية بالمعنى التقليدي الماركسي المقيت، وإنما بمعنى اشتراكية شمال أوربا الليبرالي الصرف. فهي كذلك بالمعنى المقابل للرأسمالية الفالتة غير المنضبطة، وبكونها خبرت ويلات الجشع في المزارع والمعامل في أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا من بلاد المسلمين وغير المسلمين.

ومرة أخرى فإن القاعدة المشتركة بين المسلمين وغيرهم هي النظر في صواب الخطط التطبيقية ومعقوليتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية… فتوجه الحفاظ على البيئة مثلاً يعي تماماً النتائج السلبية التي تنتج من إطلاق يد شركة استثمارية من غير قيود قانونية تراعي مصلحة المحلة والبلد. وفي حين أنه تُسوّق هذه الشركات نفسها على أنها معبر الخلاص من الفقر، فإن النتائج العملية تشير إلى أنها تدرّ بالربح على حفنة صغيرة ولكنها تكرّس الفقر عند الأغلبية وتدمّر البيئة، حتى إذا ما نضبت الخيرات وغادرت الشركة وجد الناس أن مصدر قوتهم التقليدي قد أفسد وأن الترتيبية الاجتماعية الجديدة أسندت النفوذ إلى ثلة لم يعد لها انتماء محلي صادق ولا يردعها عن الظلم والتحكم رادع… وكأن النتيجة النهائية كانت تمديد مساحات أطواق المدن الصناعية البائسة التي تنتهكها الجريمة والانحلال إلى مناطق جديدة في العالم الثالث.

وتتمتع هذه الحركات بخصلتين… أولها أنه ينحدر أفرادها من بلاد رأسمالية غنية ومنظّمة هم على إدراك كامل بنقاط قوتها ومصائبها الظاهرة والباطنة والتي تغيب من أفق المسحوق الذي يعيش الأماني وهو خارج هذه البلاد. والميزة الثانية أنه يشارك في هذه الحركات فنّيون يعرفون مآل الأمور وعندهم قدرة على وضع برامج عملية محددة قابلة للتطبيق، فلا تقف جهودهم عند حدود الترويج الإيديولوجي.

وأضرب مثال الذين لم يستطع ضميرهم السكوت عن استغلال بعض شركات القهوة للمزارعين في أمريكا اللاتينية ولم يستطيعوا أن يتابعوا حياتهم الروتينية من التلذذ بشرب القهوة في حين أن المجتمع والبيئة التي تأتي منها حبوب هذه القهوة ربما تقع على بعد بضع مئات الأميال فقط من مشرب قهوتهم… فكان أن نظموا برنامجاً تدفع الشركة بموجبه مقداراً متواضعاً من أرباحها لدعم القرية التي أنتجت هذه الحبوب، مع الإفصاح عن هذا بلاصقة تشير إلى المستهلك أن المنتج المعني قد عادت بعض إيراداته إلى الفقراء الذين أنتجوه. ورغم أن المال العائد زهيد جداً لا يحوّل القرية إلى مركز اقتصادي إلا أنه على الأقل يحمي جزءاً بسيطاً من الانهيار الكامل والدخول في حلقة الفقر واليأس والفوضوي والتفكك الخلقي (وأقنعت الشركة بأن مثل هذا التفكك ليس من صالحها).

ولا بد من التنويه هنا إلى ضرورة تدبّر كل الأبعاد المتعلقة بما يسمى بالعولمة… وإذا كان هناك ازدياد وعي في هذه الناحية فإن هناك حاجة إلى الخروج من العمومية والموقف الجُملي إلى معرفة تفصيلية تفرق بين الغث والسمين… فليس كل تعاون عالمي على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي شرّ بالضرورة،  وإنما الشروط التفصيلية لهذا الترابط هي التي تجعله علاقة استغلالية مدمرة أو علاقة تبادلية معقولة… وكذلك فإنه يجب التفريق بين الرأسمالية كمضمون إيديولوجي ومنظومة غربية وبين حركة الرأسمال كفعاليات السوق التبادلي الذي رافق تاريخ البشرية.

إن علاقة المسلم مع غيره ممن يساكنه ويجاوره لا تنبني مطلقاً على مواقف إيديولوجية بحتة وإنما على رؤية واقعية عملية تتفحص مآلات الأعمال وتصدر حكمها بناء على ما إذا كانت هذه الأعمال تفضي إلى المناخ العام للقيم المسلمة أم لا. ولهذا الفهم أصوله الراسخة في الممارسة الإسلامية ابتداء بحلف الفضول ومروراً بصحيفة المدينة وانتهاء بممارسات الخلافة الراشدة وما تبعها من عهود ودول.

ولقد أفردت بالذكر جماعات حقوق الإنسان لتنوعها ولأن استيعابها يمثل تحدياً للفكر الإسلامي، وذلك لأنهم لا يمكن أن يصنفوا بأنهم “أهل كتاب” ويصعب أن يسعهم من ناحية اعتقاداتهم الميتافزيقية. ولقد أفرزت الرأسمالية غير المقيدة مثل هذه الجماعات لتخفف من غلوائها، فأغلب ما يتغنّى به الغرب من حقوق الإنسان إنما كان نتيجة لجهود هذه الجماعات. وإنه لا يمكن للخطاب الإسلامي أن يكون عالمياً إذا لم يفهم دور أمثال هذه الحركات في صياغة الثقافة المعاصرة. وإنها لمفارقة حقاً أن يتخول الغرب الموعظة في خطابه للمسلمين في مسائل حقوق الإنسان في حين أنه يسعى في بلاده لنقض ما أسّسته هذه الجماعات.

ثالثاً: إن التعاون مع غير المسلمين لا يصح أن ينبني على موقف مصلحي بحت ولا بد أن يرتكز على الصدق الإسلامي. أي أنها علاقة واضحة في كونها اشتراك على شيء من الخير. فهي علاقة تنطلق من قاعدة أخلاقية، لا علاقة نفعية بحتة يستغل طرف فيها الآخر ثم يرميه إلى الشيطان عندما ينتهي منه.

إن الاعتراف الإسلامي بأوجه الصواب وتعدده يعدّ دعامة أساسية في فهم المسلم العالمي. وإنه لمن الملفت للنظر أن القرآن الكريم استعمل عبارات تقييدية تبعيضية عند الكلام عن الآخر “وإن من أهل الكتاب..” ودّ كثير من..” ومنهم من إن تأمنه..” ، وتقف هذه الدقة في العبارة مقابل الكلام الكثير الذي يميل إلى التعميم و المبالغة.

وتحسن الإشارة هنا إلى أن التركيز على إنعام النظر في الواقع لا يعني أن المنطلقات ليس لها أثر في صياغة الواقع… بل لا بد من معالجة المنطلقات لتنقدح عنها رؤية عملية لما يجب أن يكون عليه الواقع. ولكن بالإضافة إلى هذا لا بد من إحكام معرفة تفصيلية بالواقع –ربما مع تحييد مؤقت للمنطلقات- لإمكان معرفة مساحة الممكن ومتطلبات تسيير مصالح معاشية لا يمكن أن تتوقف، ولو توقفت لربما تنج عنها ضرر يفوت المصلحة المرجوة.

إن اعتراف الإسلام بأجزاء الخير والصواب يشكل موقفاً أخلاقياً يساعد على نشر المناخ والمنطق الإصلاحي وتحفيز الدوافع الخيّرة عند الإنسان والإثابة في الدنيا (على الأقل) التي قد تفتح أبواب الإثابة في الآخرة “أسلمتَ على ما أسلفتَ من الخير” (الحديث).

الجهاد

لا يخفى أن موضوع الجهاد كما يفهم عالمياً اليوم يقف حائلاً بين المسلمين وبين حضورهم العالمي. إذ أن شعوب العالم (والعالم الغني بالذات) تتحسب ذعراً العنف الصادر عن مجموعات إسلاموية. وليس قصدي هنا تتبع الدور الإعلامي في بث هذا الذعر أو تكريس عدم القدرة على فهم مولّداته، كما أنه ليس بإمكاني هنا بسط نظرية متكاملة للجهاد، ولكني سوف أعالج علاقة العنف بالعالمية.

وإني لمدرك تماماً الحساسية التي يتلقى فيها المسلم مثل هذا الموضوع إذ لا يكاد يفهم معنى مخاطبته بوجوب السلم والعمل نحوه وهو الذي ينال نصيب الأسد من العنف العالمي من مشرق الأرض إلى مغربها. ولكن محاسبة النفس والتدقيق فيها هو من أعلى مراتب التربية الإسلامية من جهة… ومن جهة أخرى فإني أخشى أن يجرّ الظلم الفادح الذي يقع على المسلمين إلى أن نبرر لأنفسنا عدم الالتزام الأخلاقي فنستوي مع الظالم بذنوبنا –كما عبر عن ذلك عمر بن الخطاب. وأفرد بالذكر نقطتين.

إن الدفاع عن النفس أمرٌ مشروع وتقرّه الأعراف الدولية فوق أنه فطرة إنسانية. ولكن كون الفرد مظلوماً لا يبيح له مطلقاً وبالضرورة استعمال أي وسيلة لرد الظلم، والرد بالأخف فالأخف قاعدة معروفة في الشريعة. وإنها لفتنة شيطانية أن يُدخل الناس في حلقة مفرغة من العنف يصبح فيها استنقاذ حقٍ غير ممكن بدون خرق مبدأ أخلاقي أو هدر حق مشروع لفريق آخر.  وإن طهارة الهدف لا تعفي من سلامة الوسيلة – كالانتقام من غير المقاتلين — وعندما يحصل الخلل يجب التبيين والاستغفار “اللهم أبرأ إليك مما فعل خالد” (الحديث).

وإن أخطر ما يمكن أن يحدث للمسلمين المظلومين في مشارق الأرض ومغاربها أن يطوروا ثقافة ذل وانهزام أو ثقافة حقد وانتقام ممن يظلمهم. بل ويغلب أن يسير هذان الخطان معاً يكّرس كل واحد الحاجة إلى الآخر. فالظلم المستمر يجرّ قليلي الإيمان إلى الانهزامية فيدفع بالجريئين قليلي الصبر إلى الثورة ضمن مفهوم مغلوط للتغيير، فتدخل البلد في حلقة العنف المفرغة. ولربما تولدت مجموعات انتقامية بحتة ليس عندها من المضمون الإسلامي الإصلاحي إلا الاسم، بل وربما انقلبت على ذات مجتمعها تذيقه الويلات…

إن الدعوة إلى استصحاب البعد الخلقي طول المسيرة أمر سهل نظرياً وأشد من حرّ الجمر في واقع ظلم مرير امتد زمانه وتأسست وسائله… وإن ذلك ليستلزم إيماناً راسخاً أحسب أن الأمة قادرة عليه ما دام ملهمها وقائدها قد قال “اذهبوا فأنتم الطلقاء…” لمن بالغ في الإساءة والعدوان. إنه لا يمكن لمسلمي اليوم أن يخاطبوا الناس من منظور عالمية الإسلام إلا إذا استطاعوا أن لا ينزلقوا في فخ الانتقام الحاقد، بغض النظر عن الاحتفاظ لأنفسهم بحق الدفاع عن الذات. وإن قمة الخطاب العالمي الإسلامي في خطبة الوداع كانت قد أُرسيت دعائمها في أخلاقية السيرة في مراحلها المختلفة والتي تُوّجت بالموقف العملي عند فتح مكة.

الوسائل الحديثة للعنف

النقطة الثانية المتعلقة بالجهاد هي موضع وسائل العنف في المخيلة المسلمة. وإن أخطر ما يمكن أن يُستجر إليه الوعي المسلم الذي ملّ الظلم والافتراء على ثقافته أن يحسب أن اقتناء وسائل العنف الجديدة الحديثة هو سبيل العزة والنجاة.

إن تطور آلة الحرب الحديثة إنما هو جزءٌ من منظومة قائمة على آلية ثلاثية: الاستغلال وتكثيف الثراء وتطبيع العنف. إن المنظومة الإسلامية لا تستطيع إسقاط ضوابطها الأخلاقية والانتكاس إلى الواقعية الجبرية (Realism). وأحسب أن المنظومة الإسلامية تسعى وتسير ضمن آلية أخرى متمثلة في ثلاثية العدل والكفاية وتقليص موارد العنف. وإن التطوير الجنوني لآلة الحرب الحديثة أصبح يهدد أصل الوجود الإنساني ويلقي بالعدمية على التعاون البشري ورد الظلم. وتكمن المفارقة في أن إحكام آلة الحرب التي تضمن النصر يُقلّص من فرصة الغلبة التي تشن الحرب من أجلها، لأنه ينظر إلى الموقف على أنه انتصار آلة وليس انتصار مبدأ أو إرادة.

ورغم أن هناك توجهات لإبراز البعد السلمي للجهاد (ولا أقصد هنا المفهوم التبسيطي الذي يشير إلى جهاد النفس أنه الجهاد الأكبر) إلا أنها ما زالت طروحات غير مبلورة أو متكاملة. وإنه إذا كان مفهوماً لماذا يتحسـس بعض المسلمين عند الكلام عن الجهاد ضمن مفهوم سلمي لاعنفي، فإنه يجب التفكر ملياً بطبيعة الحرب الحديثة. إن وسائل الحرب الحديثة لاأخلاقية بطبيعتها ولا يمكن أن تقرّها الضوابط الإسلامية، ولا ينزع عنها هذه الصفة نبل أهدافٍ للجهاد، وذلك للأسباب التالية:

1.    تاريخياً (وضمن الضوابط الإسلامية للحرب) كان من الممكن تفادي النتائج المكروهة للنزال الحربي كالأسر أو الجرح أو القتل بمجرد إغلاق باب الدار. أما حرب اليوم فإنه لا ينجو من نتائجها حتى المسالم الآمن الذي لم يرفع سلاحاً.

2.    حرب اليوم ووسائلها مرتكزة على تدمير ما يناقض المبادئ الشريعة بالكلية وما تأباه القيم الإنسانية. فناهيك عن الضرر البالغ بالمساكن المدنية، فإنها يغلب أن تدمر منشآت ومرافق عامة من توزيع المياه والكهرباء والمجاري… صرفت جهود أجيال في تشييدها وإليهم تعود ملكيتها وليس للدولة أو النظام المحارب؛ هذا من جهة، ومن أخرى فإن الحياة المعاصرة لم تعد ممكنه بغيرها. أي أن الازدياد الهائل للتعداد البشري وكثافته جعل هذه الترتيبات الإدارية ضرورة لقيام البشر، وحياة إنسان اليوم وإمكانية عيشه مرتهنة بالتمام على هذه المؤسسـات مقارنة بالحياة البسيطة في القدم.

3.    وسائل الحرب الحديثة تسبب تدميراً بيئياً يستمر أجيالاً، ونتائجها على غير المحارب قد تكون أشدّ فتكاً وأطول أمداً.

4.    هناك اختلاف أيضاً في مساحة الخيار المتاح لمقاتل اليوم وآنذاك، فيكاد مقاتل الجيوش النظامية اليوم لا يملك خياراً البتة في أصل المشاركة في الحرب وفي تصرفاته فيها، بل إنه عرضة لعنف محقق إذا لم ينصاع. ولذا فإني أميل إلى أن تنصّ الدساتير على لاقانونية دخول الدولة حرباً بلا استفتاء شعبي عام.

5.    إن تطوير الأسلحة الحديثة يتطلب أموالاً طائلة يدفع اقتصاد الدولة برمته إلى أن يتحول إلى اقتصاد حربي تصبح المحافظة عليه ضرورة عملية بغض النظر عن الحاجة إليه؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه غالباً ما يتماشى مع تجذير تفاوت اجتماعي داخل البلد بالإضافة إلى الحاجة إلى استغلال ثروات أقوام آخرين.

فهل يستطيع المسلمون أن يقدموا للعالم نموذج تعايش دولي ينفي الحرب ويلغي آلته المشؤومة وويله المرذول؟ وهل عندنا الجرأة أن نتقدم للعالم برؤية سلام تتجاوز الطرح النظري والنية الحسنة؟

التمثيل السياسي للقيم

يعترك العالم اليوم مع قضية تمثيل القيم في نظام سياسي، وقد كان قد عالجها الغرب الرأسمالي من خلال الحل الليبرالي في فصل الكنيسة عن الدولة، والذي ما لبث أن تأزم بدرجات متفاوتة حسب الظروف المحلية للبلد. وتتمثل هذه الأزمة في أبعاد ثلاثة متداخلة. 

الأول هو أن الحل الليبرالي أسقط عملياً القيم من حسابه، وتحولت علاقة السياسة بالقيم إلى علاقة استعراضية مرتكزة على الإيهام في حين تسير السياسات العملية وفق مبدأ نفعية انتهازية. ولذلك فإن هناك حوار في الغرب عما إذا كان الواجب هو فصل الكنيسة (كسلطة دينية) عن الدولة أم الدين (كمصدر قيمي) عن الدولة.

الثاني هو أن النظم السياسية الغربية عجزت عن تحقيق وعدها في الرخاء الوطني ولم تؤمّن ذلك إلا لقطاع محدود من المواطنين. وفشلت على العموم (وبشكل فظيع في بعض الأحوال) في تحقيق المساواة على المستوى العملي مما يحرج المبادئ التحررية التي وعدت التخليص من التسلط والعناء وتحقيق جنة بديلة ونعيم أبدي على وجه الأرض، ولاسيما أن ما تحقق منه لا يمكن أن يفصل بالكلية عن استغلال الآخر.

الثالث هو أن النموذج الليبرالي لا يستطيع أن يتعامل مع الدين غير الخرافي. أي أن النموذج الليبرالي يفرض فهمه الخاص لظاهرة التدين والذي كان قد توقع اختفاءها بالكلية من حياة الناس. ولكن لما اضطر إعادة الاعتراف بوجودها بعدما احتكر الرشد لنفسه لم يترك للدين إلا مساحة اللامعقول متلبّساً بعقدة تاريخية في تطور النصرانية بالخصوص. أوليس من العجب أن نجد الديمقراطية الحديثة أقدر على التعامل مع أطراف الدين الخرافي من قدرتها على التعامل مع التيارات الرئيسـة والناضجة للتدين؟

أردت التقديم بهذه النقاط للتدليل على أزمة تعامل النظام العالمي -ذي المنطق العلماني المصلحي- مع الإسلام. فهذا النظام عاجز أصلاً عن التعامل مع دين عقلاني، فلا يستطيع فهم كيف أن الغالبية العظمى من المسلمين تريد الإسلام وتريد عدل التمثيل السياسي وعدم الاستئثار بالسلطة في آن، وكأنه هناك تعارض أصلي بينهما. كما يُغفل النظام المعاصر أن المسلمين يرفضون القيم الليبرالية كما يرفضون تنطع بعض الفئات الإسلامية الاختزالية. وعندما يعجز عن الفهم يدخل المنطق الغربي في حوار مع نفسه حول الإسلام والديمقراطية والليبرالية ملؤه القصور عن فهم الإطار المعرفي الإسلامي الذي لا تختزل القيم فيه إلى آلياتها الإجرائية.

ويتمثل هذا العجز الفكري في محاولة النظام العالمي توجيه سياسات دول العالم الإسلامي لتقبل نوعاً واحداً من التمثيل الديني من خلال نمط معين من المشايخ والعلماء. ومن ناحية أخرى فإن فريقاً من الشعوب المسلمة بسبب عمق خيبة أمله من تغييب قيم الإسلام بات يحسب أن إعادة روح الإسلام للمجتمع ممكن من خلال المشايخ، في حين أن فريقاً آخر أصبح يراهم جزءاً من المشكلة. والذي ألمح إليه هنا إلى أن هذا النموذج غريب عن التجربة الإسلامية التاريخية ومحكوم عليه بالفشل ويقلّص إمكانية تفعيل عالمية الإسلام.

أما أنه محكوم عليه بالفشل فذلك لأن الإعداد العملي والعلمي للمشايخ لا يسمح لهم بمشاركة ذات معنى، نظراً لنمو التـنوع والتفـرع في العالم المعاصر والذي لا يوازيه التأهيل الذي يتمتعون به عادة. وقد قام العلماء والمشايخ بدورٍ حيوي في تاريخنا سواء كمرجعية قانونية دستورية أو كمصدر للتفعيل الشعبي وضرب القدوة الحسنة للقيم التي تصون التماسك الاجتماعي، لا من الزاوية السياسية البحتة.

فإذا انتقلنا إلى الواقع المعاصر فنجد أن قناعة النظام العالمي باستحالة التجاوز الكامل للإسلام دعته للتفكير باحتواء وتمثيل الإسلام بنفس الطريقة التي تعامل مع النصرانية. وبغض النظر عن مدى نجاح تجربته هو (فإننا ما نزال نشهد بروز تطرف ديني في الغرب نفسه) فإن مما لا شك فيه أنه حلٌّ لا ينسجم مع طبيعة الإسلام. بل إن محاولة الاحتواء الرسمي للإسلام كان وراء توليد أعنف التيارات الثانوية التي نعيش أزمتها اليوم.

وإذا أخذنا التجارب الثلاث لما بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا نجد أن تماهي الدين في السياسة عن طريق سلطة مشيخية قد فشل في جزيرة العرب وأفغانستان وإيران. ففي الحالة الأولى وقع المجتمع في حالة انفصامية وتناقض في مجرى الحياة من أصغر أمورها إلى أعظم شؤونها. أما في أفغانستان فقد تحولت أنماط خدمة مجتمع القرية إلى ضيق يُخزي عندما انتقلت إلى حيز الدولة فتأذى منها الصديق قبل العدو. أما إيران فإنها شاهد مزدوج لطرفي المسألة.

إن الخطاب العالمي الإسلامي غير ممكن إذا مشينا باتجاه تشكيل بيروقراطية دينية يشغل مناصبها العلماء والمشايخ بحجة أنها تقوّم المسيرة وتضبط الفتوى في عالم تفككت فيه المرجعيات. إن حاجات الأمة لا يمكن أن تحيط بها ثلة مهما بلغ علمها وسرعان ما تتحول إلى فئة هامشية لا ترتبط بالواقع ولا تتفاهم معه. إن النموذج الإسلامي هو تلاحم المشايخ والعلماء في المجتمع، يشاركون في عمليات الشورى المحلية والتخاطب بين أفراد وكتل المجتمع على مستوى القاعدة ومؤسسات المجتمع، لا من شرفات السلطة الفوقية التي تنتج بالضرورة تسلطاً دينياً منبوذاً ليس من طبيعة هذا الدين ولا من ممارسته التاريخية.

~          ~          ~

وبعد… فلقد استفتحت المقال بحادثتين من السيرة تدفعان إلى الأمل والثقة… يوم الطائف ويوم الأحزاب. لحظتان مليئتان بالعبرة خصوصاً أنهما وقعتا في أحلك المنعطفات وأشد ساعات الشعور بالضعف وقلة الحيلة والهوان على الناس وتألب الدنيا بأجمعها. ولم تقف العبارات في مثل هذه المواقف عند حد التصبير والتبشير بالثواب، بل فاضت منها معاني الحرص على الإنسانية والثقة بكمون الخير المبثوث فيها… بل تجاوزت هذا المستوى لتبشر بمستقبل رغيد يملأه السلام: “والله لتسيرن الظعينة…  ولكنكم تستعجلون”.

لقد استوعب الوجود المسلم نصارى الشرق حتى غدوا جزءاً من كياننا الحضاري العربي المسلم. ثم هذّب الإسلام الكاثوليكية حتى عادت إلى رشدها بدءاً بوثيقة مجلس الفاتيكان الثاني عام 1965 “وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضاً إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحي القيوم…” وانتهاءً بموقف الكنيسة اليوم الذي أكدت فيه رغبتها في التعايش السلمي مع المسلمين في لحظة إعادة رسم المواقف الحضارية. فهل سيخبرنا التاريخ يوماً عن تهذيب البروتستانتية الأصولية (أما البروتستانتية التوفيقة فإن عندها نصيب من العقل كاف للتفاهم، إلا أن تتخذ موقفاً مصلحياً بحتاً). ولقد انكسرت شوكة الإلحاد الشيوعي على صخرة إيمان المسلم العادي من المحيط إلى المحيط، وسوف تتبدد أمواج المادية المتطرفة في كثافة الأخلاقية الإسلامية التي يزداد وعيها بدورها المنشود في إحلال السلام العالمي.

05-1424 هـ / 07-2003 م