مفهوم الإكــــراه في الإسلام

170

من القواعد القرآنية الحاكمة قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].

وقد بين العلماء أن الله سبحانه لم يُجرِ أمر الإيمان على الإجبار والقسر ولكن على التمكين والاختيار. ونحوه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99]. وقد أشار الرازي في تفسيره إلى هذا المعنى بقوله: إنه لم يبق بعد ايضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار ابتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان.

وقال ابن عاشور في تفسيره: ونفي الإكراه خبر في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام. أي لا تكرهوا أحداً على اتباع الإسلام قسراً. وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً. وهي دليل على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه، لأن أمر الإيمان يجري على الاستدلال والتمكين من النظر والاختيار.

والأصل أن يتعدى فعل أكره بالحرف (على) كما في قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33]. وفي العدول عن حرف (على) واستعمال الحرف (في) إشارة إلى أن الإكراه ليس من طبيعة الدين ولا من طريقته، لأن الدين استسلام وخضوع والتزام طوعي بما أمر الله به أو نهى عنه، فليس من الدين ما يتنافى مع الخضوع الطوعي والالتزام الذاتي من الإجبار والقسر والإكراه والذي يولد النفاق والتحايل.

فإذا امتنع الإجبار والإكراه على أصل الدين وهو الإيمان، فامتناعه على ما دون ذلك من الآداب والمندوبات والفضائل أولى وآكد. وعمل النبي صلى الله عليه وسلم يدل دلالة واضحة على منع الإكراه. فقد ثبت نهيه للأنصار الذين تنصر أو تهود بعض أبنائهم في الجاهلية أن يجبروهم على الإسلام. ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أجبر أحداً على شيء من أمر الطاعات والعبادات إلا أن يكون متصرفاً بمقام القاضي في حكوماته بين المتنازعين. ولا أدلّ على التوجه إلى منع الإكراه في أمر الطاعات والعبادات من التعليق القرآني الذي نزل بعد الأمر بترك البيع عند النداء في صلاة الجمعة في حق أولئك الذين انصرفوا عن الصلاة إلى البيع في حضور النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11]. ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد على ذلك شيئاً من تأديب أو تعزير.

ويبقى هناك حيز من الإجبار والإكراه لا بد منه، يفرض بقوة القانون لحماية النظام العام والسلم الاجتماعي. ولا يكاد يخلو مجتمع إنساني من قوانين أو أعراف تمنع المرء أن يعمل كل ما يحلو له رغم كراهته لذلك لتأمين السلم الاجتماعي والوفاق الوطني، مثل قوانين تنظيم البناء وتنظيم السير وتنظيم العمل وقوانين السلامة وحماية البيئة ومصادر الثروة الوطنية وغيرها. فينبغي تحديد مجالات الخصوصية والحرية الشخصية حتى لا يدخل الحرج على بقية أفراد المجتمع. ويجري تحديد تلك المجالات بآليات التشاور مع أهل الخبرة والاختصاص وتوخي المصلحة العامة ورعاية المزاج الثقافي واستلهام تجارب الشعوب الأخرى، مع التقليل من حيز الإكراه والإجبار قدر الإمكان وخاصة عندما يتعلق الأمر بالخصوصيات الفردية التي لا يتعدى تأثيرها للآخرين.

وقد أدرك بعض المفسرين أن بين النهي عن الإكراه والأمر بالقتال تعارض لا بد أن تتوجه إليه الأفهام بالبيان والشرح والتفصيل. فالتهديد بالقتل والمتضمن في الأمر بالقتال هو غاية الإكراه والقهر. فكيف يجتمع الأمران وما هو وجه الجمع في هذا التعارض؟

قال ابن عاشور رحمه الله: فالظاهر أن هذه الآية {لا إكراه في الدين} نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب… فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة. ووضّحه عمل النبي وذلك لما خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في دين الله أفواجاً حين جاءت وفود العرب بعد الفتح. فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملة إبراهيم، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته، وتبين هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون اتباعه من المكابرة وحقق الله سلامة بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة الوداع “إن الشيطان قد يئس من أن يعبد في بلدكم هذا”. لما تمّ كلّ ذلك أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه. ولذلك قال في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [آية 29]. وعلى هذا تكون الآية {لا إكراه في الدين} ناسخة لما تقدم من آيات القتال.

على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة: أحدها آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194]، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين. والنوع الثاني آيات أمرت بقتال المشركين والكفار ولم تغيـي بغاية، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيداً بغاية {حتى يعطوا الجزية} وحينئذ لا تعارضه آيتنا هذه {لا إكراه في الدين}. والثالث ما غيـي بغاية كقوله {حتى لا تكون فتنة} فيتعين أن يكون منسوخاً بهاته الآية وآية {حتى يعطوا الجزية}، كما نسخ حديث “أمرت أن أقاتل الناس” هذا ما يظهر لي من معنى الآية. والله أعلم. اه

ويبدو أن ما حمل الإمام ابن عاشور على القول بنسخ آية {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} ما ذكره معظم المفسرين من أن معنى الآية هو الأمر بالقتال حتى لا يكون شرك أو كفر وتكون الطاعة والانقياد لله وحده. فحمل الآية على هذا المعنى فيه تعارض واضح مع الأمر بنفي الإكراه.

والقول بنسخ آية من كتاب الله ليس بالأمر السهل الذي نلجأ إليه ‑بمجرد توهم التعارض‑ إذا كان في التأويل السائغ مندوحة. وخاصة أن التأويل الذي ذهب إليه أكثر المفسرين يتعارض مع قضاء كوني أراده الله سبحانه ولا مطمع في تغييره وإزالته وهو وجود الكفر والشرك والمعاصي {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك ليتم معنى الابتلاء والاختبار. فذلك يرجح أن ما ذهب إليه المفسرون في معنى الآية لا يستقيم.

ومعنى الفتنة هو التعذيب والإيذاء، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]. ويؤيد ذلك ما روي عن عروة ابن الزبير قال: “كان المؤمنون في مبدأ الدعوة يفتنون عن دين الله، فافتتن من المسلمين بعضهم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فهذا هو المراد من الفتنة، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة.

والدين في سياق هذه الآية هو المحاسبة والمكافأة والجزاء ومثله قوله تعالى: {مالك يوم الدين}. وعلى هذا يكون معنى الآية: الأمر بالقتال والإذن به يعتمد على وجود مبرر القتال وهو رفع الفتنة والإيذاء والتعذيب بسبب الإيمان والاعتقاد. فحرية الرأي وحرية الاعتقاد مطلب إنساني لا بد من حمايته، فالجزاء والمكافأة على الكفر أو الإيمان هو من شأن الله تعالى يحاسب عباده ويجازيهم على إيمانهم أو كفرهم في الآخرة، وليس هذا من شأن العبيد.

فتأويل الآية بهذا الوجه لا يزيل التعارض مع آية {لا إكراه في الدين} الذي حمل ابن عاشور على القول بالنسخ فحسب، بل يجعل الآية مما يؤكد منع الإكراه والإيذاء بسبب الإيمان ويجعل رفع الفتنة هو السبب المقبول للقتال، مما يتوافق مع مقاصد الدين ويضع رسالة الإسلام ‑كما أرادها الله سبحانه‑ رسالة تحريرية للإنسان بحماية أخص ما يميز إنسانيته والمتمثل في حرية الفكر والاعتقاد.

وتأويل الآية بهذا الوجه ليس فيه ما يجعله تأويلاً بالرأي لمجرد مخالفته للمنقول، بل هو النصيحة لكتاب الله بأن نقول فيه أحسن ما نعلم وخاصة أن التأويل الذي رجحناه هو مما تسيغه اللغة وعليه أدلة من القرآن الكريم ويرفع التعارض مع كليات العقيدة وخصائص الرسالة الخاتمة.   

وكذلك، لا بد من وضع مسألة الردة عن الدين في إطار منع الإكراه، فالتهديد بالقتل هو الإكراه الذي يجب رفعه ومنعه. ولذلك ذهب المحققون من العلماء إلى أن الحكم بقتل المرتد ليس بسبب الكفر بل بسبب الانحياز للعدو المحارب، وهو المعنى المقصود في الحديث النبوي: “التارك لدينه المفارق للجماعة”. فإذا سلمت الردة عن معنى الخيانة والانحياز للعدو المحارب (مفارقة الجماعة) والتي تشكّل جريمة سياسية يعاقب عليها القانون في كل الدول، فليس للردة من عقوبة في الدنيا غير ما يترتب على الكفر من أحكام فردية تتعلق بالآخرين مثل أحكام الزواج والإرث والذبائح وغيرها.

وبعد هذا التقرير لأهمية منع الإكراه ووضع هذا المنع في الإطار الصحيح المنسجم مع خصائص الإسلام وسماحته، يتبين بوضوح أن المحاولات السمجة لربط الإسلام بالإكراه هي محاولات مشبوهة وتشويه مقصود. إن ما تريده الأمة من الرجوع إلى دينها هو الهوية الحضارية وثقافة التسامح التي وسعت تعددية مذهبية وعرقية ودينية كانت مضرب الأمثال عبر التاريخ ومدعاة افتخار واعتزاز لكل من ينتمي إلى هذه الحضارة وهذه الثقافة.