حول علاقة القارئ بالنص القرآني

217

ما من شكٍّ أنّ القرآن ليس نصّاً أدبياً فقط، وليس نصّاً علمياً، هو شكلٌ آخرُ مختلفٌ من النصوص، هو نصّ هداية وبلاغ، هو أثر ورسالة، هو حَدَث زمانيّ ومكانيّ تجاوز الزمان والمكان، فهو لا يخاطب الملكة العقليّة فقط كما تخاطبها النصوص العلميّة، هو يخاطب جماع الشخصية كلها عقلًا وروحًا، لذلك يريد منّا أن نحضر بأنفسنا عند قراءَته، أن نخاطِر بأفكارنا وبالأنا التي تتملّكنا، قد نضحّي بخبراتنا الشخصية، قد نخسر أفكارنا المسبقة في سبيل أن نفهمه.

اللغة القرآنية عند علماء البلاغة لغة جماليّة ساحرة بتشبيهاتها واستعاراتها وتقديمها وتأخيرها وتعريفها وتنكيرها، لذلك انصبّ الجهد البلاغيّ القديم على بيان مكامن الجمال القرآنيّ، وغاب كثيراً عن الدرس البلاغيّ بلاغة التواصل التي تجمع بين النصّ وقارئه، والتي تؤثّر في المتلقّي وتُدخله إلى النصّ فهمًا وتأويلًا وعملًا.

وهنا نسأل سؤالاً مهمًا: ما شكلُ العلاقة بين النصّ والقارئ؟ أيّهما يؤثر في الآخر؟

بعيدًا عن الاختزال في تحديد شكل العلاقة يمكننا أن نقول إنّ العلاقة بين القارئ وبين النصّ علاقة تفاعل مستمرّ ومتبادل، وهذا التفاعل لا يمكن اختزاله بطرف دون آخر، فالنصّ يعمل في القارئ بالضرورة، والقارئ يعمل في النصّ بالضرورة أيضًا.

وإذا بدأنا بعمل النصّ القرآنيّ في القارئ نستذكر قوله تعالى “لايمسّه إلا المطهّرون”. وقد اعتدنا أن نفهم من الطهارة أنها طهارة الجسد أي الوضوء أو الغسل، علماً أن الآية نزلت ولم تكن سور القرآن قد جمعت بين دفتي كتابٍ واحد، أو هي إشارة إلى الملائكة كما في الراجح من التفاسير، ولعلّ الآية –باعتبار ما جاء بعدها من ذكر الهوى في التعامل مع القرآن ((أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مدْهِنُونَ)) تشير أيضاً إلى نوع ثانٍ من الطهارة، وهي طهارة المعنى والقلب، طهارته من الأغراض المسبقة عند تلاوة القرآن، ومن التوظيفات السياسية والتأثيرات القَبَلية والأفكار المؤدلجة عند تدبّر آياته، أي طهارة النفس من أهوائها الشخصيّة والحزبية والفئوية عند استخلاصها لمعاني القرآن بعيدًا عن التبرير للسلطة وبعيداً عن المنفعة الشخصية والاجتماعية. بهذه الطهارة يتواضع القارئ بين يدي النصّ القرآني ويأخذ مكان السائل الذي لا يبحث عن النتائج المقرّرة سلفاً بل يترك المجال للقرآن أنْ يعمل فيه ويؤثر فيه، وأنْ يحقق ما وصف به نفسَه أنه كتاب هداية “هدى للمتقين” وأنه كتاب حكَم “وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه”.

إنّ طهارة القلب من كلّ التوظيفات المسبقة ليست حالة ناجزة ونهائية نكتسبها بشكل أبديّ في قراءتنا للقرآن، هي سعي يدخل في سعينا نحو كمال الإيمان، هي حركة تدخل في حركتنا نحو بناء الكون، لذك هي حالة تعلو وتنزل، تصفو وتكدر (تزيد وتنقص كما يزيد الإيمان وينقص؟). نعم هي نسبية، لذلك قد يصعب علينا أن ندخل على القرآن دائماً كأننا صفحة بيضاء من كل فكرٍ سابق، وأن نتجرّد كلياً من القبليات الذهنية، لكننا من المهم أنْ ندرك التأثيرات السلبية لهذه الأفكار المسبقة على قراءتنا وأن نحاول الحدّ منها ما استطعنا، والمهمّ هو سعينا بجدية نحو ذلك.

يمكننا أن نشبّه آلية عمل النصّ القرآني في القارئ كأنها عملية انتخاب للمعاني التي في ذهن القارئ، فالقارئ سيدخل على القرآن بأسئلة عصره، بهمومه ومشكلاته، بآماله وآلامه، والقرآن ينظّم العملية الدلالية للقارئ، فيقوم بإقصاء دلالات معينة ويقوم بالاعتناء والحفاظ على دلالات أخرى، بمعنى آخر هناك رقابة توليفية من النصّ تحدّد المساحة التأويلية.

صحيح أنّ النصّ القرآني يحمل دلالات متعدّدة، غير أنه في نفس الوقت ليس عديم الشخصية، ويمكن أن نشبّه ذلك بتشبيه مطروق وهو أنّ القرآن ليس مرآة تعكس ذاتنا وأفكارنا فقط، بل هو مصباح، قد يتلوّن بلون ملابسنا وهذا من تفاعله معنا وصلاحيته لكل زمان ومكان، لكنه في نفس الوقت يظلّ حقيقةً موضوعيةً مستلقةً عن ذاتنا وأفكارنا، وبذلك لا يساير القرآن واقعاً فقط بل يبني واقعاً أيضاً.

وإذا أتينا إلى عمل القارئ في النصّ القرآني، فإننا من الممكن أن نقف عند آيةٍ لافتة من آيات القرآن -تحمل درجة عالية من التحذير- يلجأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالشكوى إلى ربّه، والشكوى تُنبِئ بخطر الفعل، “وقال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً”، النصّ القرآني وإنْ كان نصًّا إلهيًا؛ لكنّه لغة، واللغة قد تفقد شيئًا من قوتها التعبيرية عندما تُحبس في السطر الصامت، عندما تدرس على أنها حِجاجٌ أو سحرٌ مقطوعٌ عن المتلقّي، وتستردّ هذه القوة بحركة القارئ لتصبح لغة لها حدث زمانيّ وواقعيّ في الحياة، وفقدان هذا القارئ يجعل النصّ مهجوراً.

يكون عمل القارئ مهمًا عندما يُدخِل القرآنَ في حركة التاريخ، عندما يستخلص منه القيم الأخلاقية والإنسانية التي توجّه الإنسان في الكون، عندما يحوّل قراءة القرآن إلى فعل إدراكيّ، لتصبح القراءة عملاً متّصلاً بحياة القارئ، وهذا ما كان عليه الصحابة من دمج القرآن بالحياة؛ فكانوا إذا حفظ الواحد منهم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتى يعمل بهنّ، والعمل لا يختزل بالشعائر فقط، بل هو أوسع من ذلك، هو احتكاك النفس المحمّلة بالقرآن مع الحياة، هو جعل القرآن واقعًا والواقع قرآنًا.

ويمكننا أن نطرح مثالاً واقعياً على عمل القارئ بالنصّ وعلى إدخال الآيات القرآنية في حركة التاريخ. نحن نعلم أنّ القرآن سعى نحو إلغاء العبودية السالفة (الرقيق والإماء) من خلال تضييق مداخلها وتوسيع مخارجها وخصوصاً في مسائل الكفارات، ولكنه لم يلغها بشكل ناجز ونهائيّ لأسباب مختلفة، والآيات التي نقرأها اليوم في سياق العبودية السابق كقوله تعالى “ولَعبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك ولو أعجبكم” وقوله تعالى “ولأمة مؤمنة خيرٌ من مشركة ولو أعجبتكم” قد توحي لنا بالفجوة بين زمن التنزيل وزمن الحداثة اليوم، إذ قد اندثرت في مجتمعاتنا الحديثة أزمة العبودية ظاهراً، وهنا يظهر عمل القارئ في استخلاص القيم المبثوثة في الآيات وسحبها على حياتنا المعاصرة، فهاتان الآيتان -برأي الأستاذ المقراني- تدلّان على أنّ قيمة الإنسان بما في داخله من إيمان وفكر لا بانتمائه الاجتماعي والطبقي ولا في مكانه من الهيكلية الإدراية والتنظيمية للشركة، ولذلك سابقاً فُضِّل العبدُ على الحرّ ما دام مؤمنًا يحمل خيراً، وفي عصرنا الحديث يمكننا سحب هذه القيمة الإنسانية المستفادة من الآية على أشكال العبودية الخفيّة في مجتمعاتنا اليوم من مؤسسات وشركات وعمل اجتماعي وسياسي، وبذلك يكون القرآنَ قادرًا على تقديم القيم الموجّهة لنا في حياتنا المعاصرة، لكنه يحتاج إلى قارئ يتدبّره ويتدبّر الواقع.

إنّ اجتماع خيرات السماء بخيرات الأرض، اجتماع كتاب الله التدويني وكتاب الله التكويني (المسطور والمنظور) هو ما يشكّل لنا رؤية إنسانية صحيحة، ويمدّنا بالمعاني التي نحقق بها استخلافا حكيمًا ومسددًا.