ســنة الله في نصر عـباده المؤمنين

471

في ظروف الضعف و الإستضعاف التي تمر بها الأمة ، ينظر المؤمنون إلى الآيات التي انتشرت في القرآن الكريم و التي تقرر وعد الله تبارك و تعالى بنصر عباده المؤمنين و التمكين لهم و توريثهم الأرض ، يحاولون فهمها و تدبرها أو تأويلها . و غالباً ما تنتهي تلك المـحاولـة إلى ما يمكن أن نسميه (جلد الذات) وذلك باتهام النفس في نسبتها إلى الإيمان و اتهام الأمة في اندراجها تحت اسم المؤمنين الذين توجهت الآيات لبشارتهم و وعدهم . و ينتهي الأمر عند كثير من محترفي الوعظ إلى اتخاذ الوهن و التفرق و الضعف الذي تمر به الأمة أداة لتضخيم أهمية بعض النوافل من الأعمال و الآداب و جعل تجاوزها و عدم التمسك بها سبباً للبلاء و تسلط الأعداء .

و يخشى المرء أن ينتهي الأمر إلى تدين يبتعد عن نهج القرآن الكريم و سنة النبي صلى الله عليه و سلم و إلى تفسير خرافي للإيمان حيث يغيب فهم السنن التي بثها الله تبارك و تعالى في الكون و جعل فهمها و تسخيرها و الإلتزام بمقتضياتها وسيلة تحقيق إرادة الله في التمكين لعباده المؤمنين .

و يخشى المرء كذلك أن ينتهي التفسير الخرافي للإيمان و الجهل بسنن الـتغيير إلى فتنة لعباد الله بحملهم على اختزال قوانين التغيير إلى الشروط المادية وحدها و إنكار ما وراءها من الأمداد الإلهية الغيبية لعباده المؤمنين و التي تشكـّل أحد السنن الإيمانية الجارية .

و سأحاول في هذا المقال إلقاء بعض الأضواء التي تساعد على فهم سنن الله تعالى في التغيير و واجبات المؤمنين و دورهم في تحقيق وعد الله تعالى لهم بالنصر و التمكين .

و أول ما يجب الإنتباه إليه عند الحديث عن تحقيق وعد الله لأنبيائه و رسله و أهل طاعته أن الوعد الإلهي لا يلغي السنن و القوانين التي بثها الله تعالى في الكون و لا يستلزم حدوث الخوارق و المعجزات التي تعرض و تبين طلاقة المشيئة الربانية و عدم انحصارها بما ألفه البشر واعتادوه من الأسباب و المقدمات ، و ذلك حين يشاء الله سبحانه وليس عندما يتمنى العباد و يتشوفون .

فالمؤمن لا يتخذ الوعد الإلهي ذريعة لـلقفز فوق السنن أو لإلغاء دوره في الإعداد و الإستعداد ، فهو يعلم أنـّه متعَبـّد بتحري الأسباب و فهمها و الإنضباط بها .

لقد مضى على المسلمين حين من الدهر غفلوا فيه عن سنن النهوض و الإرتفاع ، و غفلوا كذلك عن مواطن الضغف الذي يسري في كيانهم، فنزلت بهم نتائج غفلتهم قدراً لا يرد و قضاء ً لا يُغلب . و لا مطمع لهم في أن يرتفع عنهم ما هم فيه إلا أن يدركوا أن الأمر ليس صدفة عابرة و إنما هي سنن و قواعد و نواميس من طـوّع نفسه لفهمها و تسخيرها عندما يتعامل مع الإمكانيات و الطاقات المتوفرة حوله ، كان له ما يرجوه من النجاح بعد أن قـدّم من نفسه ما يستطيع من التغيير .

و قد تحدثت آيات القرآن الكريم في كثير من المواطن عن السنن في إطار حركة التاريخ و التغيير الإجتماعي و عواقب الأمم و الشعوب بشكل يبرز أهمية الجهد البشري في التغيير و الحركة، إذ لا معنى للحديث عن سنن التاريخ أو الحديث عن الإعتبار بسيرة الأقوام الخالية و عاقبة أمرهم إلا التأكيد على أن الجهد البشري و الطريقة التي يعمل بها هذا الجهد هو المحور الذي تدور عليه مسؤولية الإنسان عن عمله في الدنيا و الآخرة .

و على هذا يكون الحديث عن سنة الله في نصر عباده المؤمنين حديثاً عن القواعد و الضوابط التي يجب أن يعيها المؤمنون و هم يتحركون بإدراك تام لموقع جهدهم و عملهم في التغيير الذي يريدون و النصر الذي ينتظرون .

و من أهم ما يجب أن نلفت الأنظار إليه أن الأسباب في مجال تغيير المجتمعات لا يمكن أن تنحصر في سبب واحد ، فلا يجوز لمن يريد أن يفهم عملية التغيير أن يغفل عن الطبيعة المتشابكة لعلاقات الناس فيقع في التبسيط المخلّ ، و من ثم لا يستطيع أن يتعامل مع المشكلات بشمول و إحاطة واعية . فإن حصر الأسباب في سبب واحد يحمل على التجاهل و الإهمال لأجزاء أساسية من متطلبات التغيير لا تأخذ حظها من الجهد و تكون النتيجة فشلاً و خيبة و تخبطاً في السير و الحركة .

إن السنن و القوانين التي تضبط حركة التجمعات الإنسانية تعمل دائماً في تزاحم و تدافع دائم ، و ما يظهر من النتائج هو المحصلة النهائية للسنن و الأسباب المتزاحمة التي تعمل في وقت واحد .

فالجاذبية – مـثلاً – هي السنة و القانون الذي يحكم حركة و استقرار الأشياء ، و قانون حمل الهواء للأجسام المسطحة التي تسير بسرعة هو السنة التي تزاحم عمل قانون الجاذبية . و بعمل هاتين السنتين المتزاحمتين نستطيع أن نفسر و نفهم حركة جسم طائر في الهواء و التي لا يمكن فهمها بالإقتصار على سنة واحدة نقف عندها و نريد فهم و تفسير ظاهرة معقدة من خلالها .

و انطلاقاً من هذا الفهم لسنن الله ، ذلك الفهم الذي لا يحصر التأثير في علة واحدة و لا ينسب التغيير إلى سبب واحد سنتحدث عن أسباب إيمانية لها أهميتها في استجلاب عون الله و تأييده و مدده ، و ذلك إذا تواكبت هذه الأسباب الإيمانية مع أسباب أخرى مادية و التي يتعامل البشر معها في حياتهم و تؤتي نتائجها بغض النظر عن إيمان الناس أو كفرهم و استقامتهم أو شذوذهم .

إن المسلمين هم خلق من خلق الله ، تحكم تصرفاتهم و تعيـّن نتائج أعمالهم سنن الله التي لا تحابي أحداً . فالسنن الإيمانية – على أهميتها – لا تفعل و لا تؤثر في شيء من أحداث التاريخ مالم تستند إلى حدّ أدنى من أسباب مادية و التي تصدق على جميع البشرعندما يتعاملون معها .

إن الأسباب المادية التي يتحرك الناس بها هي شرط لعمل الأسباب الإيمانية، فالأسباب هي محلّ التوكل، والتواكل هو التقصير في اتخاذ الأسباب الممكنة والتمني على الله. وذلك هو ما نفهمه من الآيات الكريمة التي تدعو المؤمنين للإعداد و الإستعداد: ” و أعـدوا لهم ما استطعتم من قوة ” ؛ ” يا أيها النبي حـرّض المؤمنين على القتال ” ؛ ” يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ” ؛ ” ولا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا”.

إن الحديث عن الأسباب الإيمانية و أثرها في التغيير يشكـّل الضمانة التي تنقذ المؤمن من السقوط في النظرة المادية البحتة ، و يمد المؤمن بما يميزه و يصبغه بصبغة الله ، عقلية روحانية غيبية تستمد تصورها لما يمكن أن يصنع الله بها ، من قدرة الله الذي لا يعجزه شيء ، لا من امكانيات العبد الضعيف و آفاقه المحدودة .

والحديث عن الأسباب الإيمانية و أثرها في التغيير- من ناحية أخرى – يمد المؤمن بمفتاح الفهم لحركة الجيل الأول من المسلمين بقيادة الرسول الكريم صلى الله علسه و سلم ، و لكثير من المواقف الفاصلة في التاريخ الإسلامي و التي تستغلق على الفهم المادي المجرد .

و الأسباب الإيمانية التي نتحدث عنها و التي ربط الله سبحانه بها نصره و تأييده لعباده المؤمنين هي مجموعة من العقائد و الأخلاق و الآداب القلبية لا بد أن يأخذ المؤمنون أنفسهم بها و يتحروها في قلوبهم ، يسألون الله تعالى بتضرع و خشوع أن يوفقهم للوقوف عندها . فإن تخلفت هذه العقيدة و ما يتبعها من آداب و أخلاق فذلك يعني أن الله تعالى سيكـل المؤمنين إلى أنفسهم و إمكانياتهم ليكون ميزان الغلبة و النصر بينهم و بين عدوهم ميزاناً مادياً .

· فالإيمان بالله تعالى يطبع القلب بالخشوع و الهيبة و الوقار، و يربطه بمعاني الحق و العزة .
· و الإخلاص لله تعالى يجمع قلب المؤمن على هدف واحد ، فلا يتوجه بعمل و لا فكرة و لا خطرة إلا لنيل رضى الله تعالى و الوقوف عند أمره.
· و صدق التوكل على الله تعالى يلقي في القلب السكينة و الإطمئنان و يجعل المؤمن واثقاً بحفظ الله و مدده و عونه .
· و الخضوع لله تعالى بما خلقه وقدره من سنن ونواميس يستثير في قلب المؤمن الجدية لتوظيف كل الطاقات و الإمكانيات فلا يتجاوزها العبد تفريطاً أو إدلالا .

إن هذه الأخلاق و الآداب – إذا علمها الله تعالى من عباده المؤمنين – هي التي تحقق شرط تضخيمِ الإمكانيات المادية و تضاعفِ تأثيرها تماماً كما تفعل العـتلة إذا استقام بناؤها و صَـلـُب عودها و تيسرت لها قاعدة الإستناد المناسبة .

إن هذا التضخيم للجهد و مباركة الإمكانيات هو الذي أتى في التاريخ الإسلامي بالعجائب و المعجزات، و ما هي بالعجائب و لا المعجزات و لكنها سنة الله في نصر عباده المؤمنين .

إن إحكام الأسباب المادية و الأسباب الموضوعية قدر المستطاع دون تفريط أو تقصير، و دون إهمال لأي سبب في حدود الإمكان هو الذي يجعل المؤمنين الذين أحكموا الأسباب الإيمانية محلاً لظهور قدرة الله و مدده و عونه في أي موقف تفرضه العقيدة و توجبه ضرورات الحفاظ على الدين و النفس و المال .
إن الأسباب الإيمانية تجـُبـر – عند إحكامها – قصور الإمكانيات و الأسباب المادية ، و لكنها لا تجـبُـر التقصير و التفريط الذي يُـبطل – عند التورط فيه – دور الأسباب الإيمانية و الأمداد الغيبية .

و لعل الإستعراض السريع لأحداث السيرة النبوية المباركة يوضح و يلقي الضوء على حقيقة الأسباب التي كانت عناية الله تعالى تدير الأحداث من خلالها ، و يؤكد النظرة المتوازنة في سنة الله في نصر عباده المؤمنين بين الأسباب المادية و الأمداد الغيبية الإيمانية .

كان النبي صلى الله عليه و سلم قدوة في توكله على الله و تعلق قلبه به وحده دون سواه . كان صلى الله عليه و سلم عند هجرته من مكة إلى المدينة مطمئن النفس في الغار في موقف لو نظر الذين يطلبونه إلى موطئ أقدامهم لرأوه ، و كان كذلك مطمئن النفس عندما خاطب الفارس المطارد له بقوله ” كيف بك إذا لبست سواري كسرى ” ، و مع ذلك فإن الحرص على إحكام الأسباب المادية في الموقفين يثير العجب و الإكبار .

خرج النبي صلى الله عليه و سلم و صاحبه أبو بكر يوم هجرته تسللاً من مخرج خلفي في دار أبي بكر ، و في ساعة من النهار تهدأ فيها الحركة و تقل أعين الرقباء . لجأ رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى غار ثور بعيداً عن الطريق المألوف إلى المدينة و استخفى هناك ثلاثة أيام . كان عبد الله بن أبي بكر يأتيهم بأخبار قريش ، و كانت أسماء بنت أبي بكر تؤمّن الطعام ، و كان راعي أبي بكر يرعى غنمه عند الغار كي يشرب من لبنها المهاجران ، و كان يسير بغنمه خلف أسماء ليطمس بأظلاف غنمه آثار خطوات الرجال . و عندما أدرك الفارس سراقة لما رآى ما لم يعتده من فرسه أن الرجل الذي يطلبه ممنوع لن يصل إليه ، قال النبي صلى الله عليه و سلم لسراقة : خـذّل عـنّـا .

و في غزوة بدر كان إحكام الأسباب الإيمانية يتمثل في ذلك الإخلاص الذي أبداه المهاجرون و الأنصار في الإنقياد لنبيهم و الإستسلام لأمر الله فيهم ، و كان يتمثل في التضرع و الخضوع الذي أبداه النبي صلى الله عليه و سلم و هو يدعو ربه ليلة المعركة . و أما ما بذل الصحابة من جهد و ما قدموا من تضحيات فلا أدلّ عليه من قول أحد المشركين يصف أصحاب رسول الله في المعركة ” أما ترونهم جُـثِـيّاً على الرُكـَب يتلمظون تلمظ الحيات ” ، و لا أدلّ عليه كذلك من قصة الغلامين الذين كانا يتشوقان للاقتصاص من أبي جهل لما بلغهما أنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم .

و أما ما كان من المسلمين في غزوة أحد فقد كان تبياناً رائعاً للتوازن بين الأسباب المادية و الأسباب الإيمانية في سنة الله ، ذلك التوازن الذي جعل الغلبة للمؤمنين أول النهار و ولى المشركون الأدبار بعد أن كثـُر فيهم القتل . حتى إذا تخلف شرط الإخلاص لله في التوجه و تعلقت قلوب بعض المؤمنين بالدنيا و الغنائم ” منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة ” ، و حتى إذا تخلف شرط إحكام الأسباب المادية بتجاوز الرماة لأمر النبي صلى الله عليه و سلم ، تخلف نصر الله لأهل أحد تخلفاً علـّم المؤمنين في كل زمان أن سنة الله لا تحابي أحداً و لو كان فيهم رسول الله ، و أن تخلف نصر الله لعباده يوم أحد هو من عند أنفسهم لما تركوا من إحكام الأسباب الإيمانية و لما قصروا في الحفاظ على ما كانوا أعدوه من الأسباب المادية .

و يوم حنين خرج أكبر جيش للمسلمين في ذلك الوقت لمواجهة ثقيف وهوازن ، وعندما تسرب العجب بالكثرة إلى القلوب فنسيت معنى التوكل على الله و تعلق القلب به وحده وهي تقول ” لن نغلب اليوم من قـلـّة ” ، تخلف نصر الله عن المؤمنين و تفرق المؤمنون عن رسول الله و ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، و لم ينقذ الموقف يومها إلا نفر ممن استقام توكلهم و صدق إخلاصهم و ثبتوا مع نبيهم و بذلوا غاية ما يستطيعون من جهد ، فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أمدهم بجنده و آتاهم نصره بعد أن دفعتهم الهزيمة الأولى إلى الإنابة إلى الله تبارك و تعالى و الإنكسار له و التبرئ مما كان منهم من العجب و البعد عن التوكل .

لقد كانت هذه المعاني من سنة الله في نصر عباده المؤمنين ماثلة في أذهان الجيل الأول من أصحاب رسول الله حتى إذا تأخر عنهم النصر في موقف من المواقف كانوا يفتشون عما اقترفوه في حق الإخلاص لله و صدق الإتباع لرسوله صلى الله عليه و سلم .

إن الله تبارك و تعالى الذي خلق الإنسان و يعلم ما جُبـِل عليه من ضعف و قصور و يعلم كذلك ما يمكن أن يرتقي إليه في معارج الإخلاص و التوكل ، هو الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه و سلم قوله ” يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين و إن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون . الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفاً ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين و إن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله و الله مع الصابرين ” .

لقد أشارت الآيات في خطابها للمؤمنين إلى ما يمكن أن ترقى إليه جهودهم إذا هم صدقوا في التوجه و أحكموا المقدمات و أمدهم الله بعونه و تأييده . فالآيات تقرر حقيقة قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق ، و أنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم و تثبت أقدامهم .

و من هنا كان على المؤمنين أن يمتلكوا الرؤية الواضحة لحركة التاريخ و ما يمثلون في سنة التدافع التي قضى الله سبحانه أن تكون الحاكمة لحركة الناس على الأرض ، فيتوجهون إلى تحقيق أهداف مرحلية واقعية منضبطة بالقيم و ملتزمة بالحق دون استعجال أو تجاهل لسنن التمكين . و هذا هو ما أراده الله سبحانه أن يعلمه للمؤمنين عندما تشوقت قلوبهم إلى تحقيق وعد الله بدخول البيت الحرام : ” لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ، فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً ” فكان صلح الحديبية هو الفتح القريب الذي مهّـد للدخول الآمن كما وعد الله سبحانه . و من هنا لم يكن رجوع المسلمين في غزوة مؤته عن قتال عدوهم هروباً أو فراراً من الزحف ، و لكنه كان تحيـّزاً لفئة النبي صلى الله عليه و سلم . و لهذا أنكر النبي على من سماهم الفُرار و و قال بل هم الكـُرّار .

فالكرّار هم الذين لم يضمر في قلوبهم الشوق إلى نصرة دين الله و إن لم تتيسر أسبابه ، و لم يحملهم قصور امكانياتهم على الإستخذاء و الضعف فعاشوا دائماً في حديث النفس بالجهاد –بمعناه الواسع- لنصر الحق و اختيار الهدف الممكن الذي ينسجم مع رؤية واضحة لحركة التاريخ و سنن التغيير .

هؤلاء الكرّار هم أمة الدعوة التي ترى النصر عندها يتمثل في الثبات على المبدأ باستعلاء و التميز به ، و في الشوق للتضحية و البذل شوقاً يترجم إهتماماً بالتربية و التدريب و الإعداد في كل مجالات المواجهة و التدافع و كسب الأنصار و تقليل الأعداء .

إن أمة الدعوة هي الجيل الذي جعله الله تبارك حجة على عباده في مرحلة من التاريخ و في وضع تجري فيه الأمور لتكون الدُولة لغير المسلمين ” و تلك الأيام نداولها بين الناس ” . إن النصر عند هذه الأمة الخاصة و التي تعيش مرحلة تاريخية خاصة يكمن في الإحتفاظ بالعقيدة حية في القلوب لا يتطرق إليها وهن و لا ضعف أو استخذاء مهما عظم البلاء و كثرت التضحيات .

إن قصة أصحاب الأخدود تمثل التصور الإيماني الصحيح للمؤمن الذي يحرص على أن يضبط تصوره و قيمه بميزان الله .

” إن الحياة و سائر ما يلابسها من لذائذ و آلام و من متاع و حرمان ، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان ، و ليست هي التي السلعة التي تقرر حساب الربح و الخسارة ، و النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة . إن قصة أصحاب الأخدود تمثل نموذجاً من تاريخ الدعوة الذي لا ينجو فيه المؤمنون و لا يؤخذ فيه الكافرون و ذلك ليستقر في حس المؤمنين أصحاب دعوة الله أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله و أن ليس لهم من الأمر شيء إنما أمرهم و أمر العقيدة إلى الله ، إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ثم يذهبوا ، و واجبهم أن يختاروا الله و أن يؤثروا العقيدة على الحياة و أن يستعلوا بالإيمان على الفتنة و أن يصدقوا الله في العمل و النية ثم يفعل الله بهم و بأعدائهم كما يفعل بدينه و بدعوته ما يشاء ، و ينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان أو إلى غيرها مما يعلمه هو و يراه .

لقد كان القرآن الكريم ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، و هذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة و القوة بحيث لا تتطلع و هي تبذل كل شيء و تتحمل كل شيء إلى أي شيء في هذه الأرض و لا تنظر إلا إلى الآخرة و لا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب و شقاء و حرمان و عذاب و تضحية حتى الموت بلا جزاء في هذه الرض قريب ، و لو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة و غلبة الدعوة و ظهور المسلمين ، بل و لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين .

حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل ، و أن تنتظر الآخرة موعداً للفصل بين الحق و الباطل ، حتى إذا وجدت هذه القلوب و علم الله منها صدق نيتها على ما بايعت و عاهدت ، آتاها النصر في الأرض و ائتمنها عليه لا لنفسها و لكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي و هي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ، و لم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه ، و قد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاءً إلا رضاه “(1).

إن وجود هذه الأمة من الناس ” أمة الدعوة ” و استمرار وجودها تياراً اجتماعياً ظاهراً مستعلناً و رأياً عاماً فعالاً ، هو نصر لا يقل الذي لا يقل أهمية و لا يقل ثمناً و تضحيات عن نصر التمكين في الأرض و الظهور على الأعداء . إن وجود أمة الدعوة هذه هو المقدمة الطبيعية و العلامة الصادقة لإمكان وجود جيل من المؤمنين يأذن الله تبارك و تعالى أن يمكـّن له في الأرض و يرفع عنهم الفتنة و الخوف و يمنحهم الأمن و العافية .

إن الهدف الحقيقي لعمل المؤمنين و سعيهم و حركتهم يكمن في المقدرة على تمثيل أمة الدعوة في كل ظرف و في كل الأجواء و بشكل يعطي هذه الأمة باستمرار المقدرة و العقلية العملية لمواجهة الأزمات الواقعية في كل ظرف إلى أن تأذن إرادة الله أن تتحول أمة الدعوة إلى أمة تستحق حمل أمانة التمكين في الأرض و إعلاءً لكلمة الله فيها .

إن غياب فكرة أمة الدعوة يوقع المؤمنين في اليأس و القنوط و يضيّع و يفوّت عليهم الفرص و يجعلهم فريسة للتمني و الإستعجال . فلا بد من الإعداد و الإستعداد و لو على المستوى النفسي و الشعوري حديثاً للنفس بالجهاد –بمعناه الواسع- و جدية في تناول أمور الحياة و التدرب على امتلاك الخبرات و المهارات و إتقانها حتى يصل المؤمنون إلى الكفاية في كل أساسيات تنظيم حياتهم و هم يطمحون إلى التفوق الذي يؤكد الهوية و يدعم و يقوي مشاعر الإنتماء .

02-2009 / صفر 1430 هـ