سقف التجديد وسؤال التقدم ومجالاته في الوجود البشري

87

من الأسئلة التي يثيرها البحث في التجديد سؤال الأفق المفتوح للتجديد، وهل ثمَّة سقفٌ يقف التجديد عنده، أو أنَّ التجديد مفتوح على آماد الزمن، أياماً وأعواماً وقروناً متتالية، ومن ثم يبقى التجديد مصاحباً لأحداث الزمن وتغيراتها المتجددة، ما دامت أجيال الناس تشهد تجدداً دائماً، فجيل يذهب وجيل يأتي؟

وإذا كان من التجديد إنتاج المعرفة الجديدة، واختبارها، وتوظيفها في مصالح الإنسان، فإنّنا نعلم أنّ هذه العمليات التي يقوم بها الإنسان هي سعي بشري متصل، لا يتوقف، فهي طبيعة فطرية فيه، وهي معنى أصيلٌ من معاني استخلافه في هذا العالَم، فلا يمكن أن تنتهي عملية البحث عن المعرفة، وإن كانت تتعثر أحياناً ثم تعود للانطلاق من جديد. فالمعرفة بحرٌ لا ساحل له، وكلما غَرَفَ الإنسان منه غُرفةً، تدفقت أنهار جديدة تُوَسِّعُه وتعمِّقُه. وهذه “المعرفة” البشرية هي في نهاية المطاف جزء يسير من “علم” الله سبحانه، ولا يحيط أحد من خلق الله “بشيء من علمه” سبحانه “إلا بما شاء”، فالله سبحانه يتفضل على من شاء “بشيء” من هذا العلم وفق مشيئته سبحانه، {ولا يُحيطون بشيءٍ مِن عِلْمه إلّا بما شاء} [البقرة: 255]، ثم يكون اكتساب العلم على قدر سعي الساعين بالطرق الموصلة إليه، {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. [البقرة: 282]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

والنموُّ في المعرفة يتم في حالة كلِّ فرد من البشر، وكلِّ جيل من أجيالهم. فالفرد يبدأ اكتساب المعرفة والتعلّم، منذ بدء خلقه حتى نهاية حياته؛ يتعلم بالفطرة، ويتعلم بالتعليم، وتنمو معارفه، وتتَّسع، وتتعمَّق، وتتنوَّع. ويقع التغيُّر في المعرفة في مستويات متتابعة، فمن المعرفة ما يكون حقائق وبيانات متفرقة محدودة الدلالة، ثم تتطور لتكوين مفاهيم ذات قدر من التعميم، وتترابط المفاهيم بعلاقات منتظمة لصياغة القوانين، ويجري تطبيق القوانين لإنتاج معلومات مفيدة، ولكن مزيداً من التحليل والتركيب والتقويم يحوِّل المعلومات إلى معرفة ذات شأن عظيم في تطوير حياة الإنسان، ولا يقف أمر النمو هذا، بل يتواصل ليكتسب الإنسان من المعرفة حكمة تستوعب حياته وما بعد حياته. {يؤت الحكمة من يشاء، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [البقرة: 268].

وإذا كان التجديد يعني شيئاً من التغيير فلا بد من التساوق بين حالة التغيّر الذي يصيب العوالم الطبيعة والاجتماعية المحيطة، ويصيب الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية، وحالة الإنسان في حياته وفكره وثقافته، وطريقة تعامله مع التغيرات المتواصلة. ومِنْ ثَـمَّ، فلا يملك الإنسان الجمودَ على حالَهِ والدنيا تتغير من حوله. ولن يكون التغير انتقالاً من حالة إلى حالة مرة واحدة، ولكنَّه تغيُّر يتدرّج بصورة دائمة ومستمرة. وواضح أنَّ الإنسان يتعامل مع الأطر الفكرية العامة عن طريق النظر في التفاصيل والحالات الخاصة، وما يصلح في وقت قد لا يصلح في وقت آخر، وما كان علاجاً لمشكلة قد لا يكون علاجاً لمشكلة أخرى، وما كان نافعاً في بلد معين قد يكون ضاراً في بلد آخر.

وينفتح سؤالنا عن أفق التجديد على مصطلح “التقدم” في حياة البشرية، فكيف يمكن فهم ظاهرة التقدم العلمي والتكنولوجي المضطرد والمتسارع في الحياة البشرية، كما بدت لنا في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين مثلاً، في ضوء الاستمرار في اكتشاف حلول لبعض المشكلات، وبدائل لبعض الموارد، من جهة، واحتمال استعمال أدوات الدمار الشامل التي أتاحها التطور العلمي، بصورة مقصودة أو غير مقصودة، واستمرار التغيرات القاسية في المناخ والبيئة الطبيعية، والاتساع المتواصل للفجوة بين الأغنياء والفقراء من سكان العالم، من جهة أخرى؟! وهو سؤال يتجدَّدُ كلَّما شهدت البشرية من الكوارث الناشئة عن فعل الإنسان كما في الحروب العسكرية والاقتصادية والإعلامية والمعلوماتية، وعن التدهور في قيمة الإنسان، ومسخ فطرته، وانتهاك كرامته، وامتهان طبيعته، وعن نذر التغير في البيئة الطبيعية كما في التغير المناخي وتآكل طبقة الأوزون، وظهور الجوائح الصحية، والأخطاء العلمية، وما يقال عن نضوب الموارد. 

لقد شهدت البشرية في القرون الثلاثة الأخيرة تغيراً في اتجاهات مختلفة، منها ما كان نحو الأفضل، ومنها ما كان نحو الأسوأ، فمما يعد تغيّراً نحو الأفضل هذا الذي أطلق عليه مصطلح “التقدم الحضاري”، وقد تمثل في الصناعات وأساليب الانتقال والتواصل، وانتشار مؤسسات التعليم، والحدّ من انتشار الأمراض وأساليب معالجتها، فهل يتواصل هذا التقدم على هذه الشاكلة؟ أم أنّ أسباباً معينة سوف تقف دون استمراره؟ ومن ثم يكون التساؤل عن اتجاهات التغيير في المجالات المختلفة، هل سيكون هناك تغيُّر نحو الأفضل في مجالات معينة، وتغيير نحو الأسوأ في مجالات أخرى؟ ثم يلحق بهذا السؤال سؤال آخر، وهو ما الذي يعنيه مفهوم التغيير نحو الأفضل؟ وما مقياس هذه الأفضلية؟ ففي البيئة الطبيعية يكون من المؤكد أنَّ ما يقال عن التغير المناخي ونضوب الموارد بما فيها مصادر الطاقة والمياه، لن يكون تغيُّراً جيداً في نهاية المطاف، ولن يكون التنافس والحروب الناشئة عن الاستئثار بالمتاح من الموارد شيئاً جيداً كذلك. لكنَّ مجال الحرية والحقوق والواجبات في الحياة الاجتماعية للناس مثلاً توسع في اتجاهات مختلفة، شمل التساؤل عن سقف الحرية، الذي تجاوز حرية التفكير والتعبير، إلى التعامل مع البعد الفطري للطبيعة الإنسانية، والتمايز بين الذكور والإناث، ومفهوم الأسرة، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحقوق السيادة الوطنية وغير ذلك، فإلى أين يمكن أن ينتهي بنا المطاف في أي من هذه المجالات؟ وما المصير الذي سوف نصل إليه في حرية تغيير الجنس (النوع) أو عدم الاتصاف بالنوع مثلاً؟

ومن القضايا التي تتصل بسقف التغير التي يختص بالموارد المتاحة للإنسان في العالم، ما عرفه الفكر الاقتصادي الرأسمالي الغربي بمشكلة “الندرة” أي ندرة الموارد اللازمة لحاجة الناس في العالم اليوم وغداً. وتناولت كثير من الدراسات الاقتصادية مسألة الندرة انطلاقاً من نظريات اقتصادية محددة، فالنظرية الرأسمالية تجعل المشكلة الاقتصادية في الندرة النسبية؛ أي عدم كفاية ما في الأرض من الموارد التي توفر حاجة الإنسان إلى الغذاء. لكن الحقيقة التي أشارت إليها التقارير الدولية: “أن الجوع حقيقي، أما الندرة فلا، وأن القضية الرئيسية للمجاعة أو انعدام الأمن الغذائي لا تكمن في نقص الأغذية ولا حتى في ارتفاع أسعارها بل في سوء التوزيع أو نقص القدرة الشرائية لدى البعض.”[1]

وإذا كان سقف التجديد قد أحالنا إلى مفهوم التقدم، فإن المفهوم نفسه يحيل كذلك إلى ما عرفته الدراسات الاقتصادية بحدود النمو. وهو موضوع أصبح موضع جدل كبير بين الاقتصاديين والسياسيين في العالم، وكان موضوعاً لكثير من الكتابات، وبعضها كان امتداداً لما قدمته النظرية المالثوسية،[2] التي تعني أنَّ النمو السكاني هو نمو أُسيٌّ أما نمو الإمدادات الغذائية فهو نموٌّ خطيٌّ، ما يؤدي بالمحصلة إلى تدني مستويات المعيشة إلى درجة تسبب الافتقار السكاني. وقد ارتبطت المالثوسية بحركات سياسية واجتماعية متنوعة غلب عليها الدعوة إلى التحكم في أعداد السكان بأساليب منع الحمل وغيرها.

وقد تعزز الاهتمام بموضوع حدود النمو منذ عام 1972 بعد صدور كتاب بعنوان: حدود النمو Limit to Growth (LTG) وهو تقرير لمنظمة نادي روما، فقد كلفت المنظمة فريقاً من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأمريكيMIT،[3]لدراسة حدود النظام العالمي والقيود التي يضعها على عدد أفراد المجتمع البشري ونشاطاتهم الحيوية، والعوامل التي تؤثر على السلوك طويل الأمد لذلك النظام، وكيفية تفاعل عناصره مع بعضها بعضاً. وقد ناقش الكتاب إمكانية النمو الاقتصادي والسكاني المتسارع مع محدودية إمدادات الموارد، وتمت الدراسة عن طريق المحاكاة الحاسوبية الخاصة بنتائج التفاعلات بين الأرض والأنظمة البشرية. وتوصل التحليل للمعطيات المتوفرة إلى أنه إذا استمرت اتجاهات النمو الحالية في عدد سكان العالم، والتصنيع، والتلوث، وإنتاج الغذاء، واستنزاف الموارد دون تغيير، فإنَّ حدود النمو على هذا الكوكب سوف يتم الوصول إليها في وقت ما خلال المائة عام القادمة. وستكون النتيجة الأكثر ترجيحاً هي: انخفاض مفاجئ لا يمكن السيطرة عليه في كل من السكان والقدرة الصناعية.

وعندما نُشر كتاب “حدود النمو” رفع كثير من الاقتصاديين، والصناعيين والساسة والمدافعين عن العالم الثالث، أصواتهم غضباً إزاء الاقتراح القائل بضرورة خفض النمو السكاني والاستهلاك المادي بوسائل محددة. وتعرضت فكرة “حدود النمو” للهجوم على مر السنين، من فئات مختلفة محافظة ولا سيما في بلدان العالم الثالث، وتعرضت الفكرة لقدر من الرفض والتشويه، باعتبارها “مبالغة مالثوسية”. ومع ذلك فقد مرّ ثلاثون عاماً دون أن يتم نقض التحذيرات التي أشار إليها الكتاب. وقد أصدر مؤلفو كتاب حدود النمو عام 2004 تحديثاً لفكرة الكتاب تحت عنوان “حدود النمو: التحديث لمدة 30 عامًا”[4]عرضوا فيها المؤشرات الكثيرة لوقوع ما سبق أن حذروا منه. ومن ذلك ارتفاعُ مستوى سطح البحر وانخفاض متوسط دخل الفرد لحوالي نصف سكان العالم، بينما يملك عشرون في المائة من سكان العالم ما نسبته 85 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بصورة متسارعة، وتدهورُ الأراضي الزراعية، وتزايد إمكانيات الانقراض البيولوجي ولا سيما بعض الأسماك.

وإذا كان كتاب “حدود النمو” قد تناول السؤال الكبير حول كيفية تكيُّف الحضارة الإنسانية مع القيود المادية لكوكب الأرض، بمبادرة من نادي روما، فإنَّ هذا النادي نفسَه أصدر عام 2012، تقريراً جديداً بعنوان “2052 – توقعات عالمية للأربعين سنة القادمة”[5]. ومؤلفه كان أحد المؤلفين المشاركين لكتاب “حدود النمو”. ويحاولُ التقرير الإجابةَ على سؤال: كيف يبدو عالمنا عام 2012 بعد أربعين عامًا، منذ نشر كتاب حدود النمو؟ ويتطلع إلى الأمام اربعين عامًا أخرى، ويطرح سؤالاً حول ما إذا كانت البشرية سوف ترقى إلى مستوى الحدث، وتعالج بشكل فعال حالات عدم الاستدامة العالمية التي سنظل نواجهُها في عام 2052. ويرى المؤلف أنَّ عملية تكيُّف الحضارة الإنسانية مع حدود الكوكب الأرضي قد تواصلت خلال الأربعين عامًا الماضية، وسوف تستمر لأربعين سنة أخرى. ولكنَّ وتيرة النمو للبشرية، من حيث عدد السكان العالمي والناتج المحلي الإجمالي، ستكون مقيدة ليس فقط بهذه الجهود، ولكن أيضًا بعوامل أخرى مثل الانخفاض السريع في الخصوبة، نتيجة للتوسع الحضري، وانخفاض الإنتاجية نتيجة للاضطرابات الاجتماعية، وقبل كل شيء، استمرار الفقر بين أفقر ملياري شخص في العالم.

وقد أصبحت الدراسات والبحوث التي تتضمن التنبؤ عن حدود النمو جزءاً مما عرف بالدراسات المستقبلية Futures studies والاستشراف الاستراتيجي Strategic foresight التي أسست لما يسمى الآن علم المستقبل Futurology، أو علم دراسة المستقبل، هو مجال معرفي حديث متعدد التخصصات يجمع اتجاهات التغيّر ويحلِّلُها، باستخدام أساليب إحصائية مهنية، للتنبؤ بالمستقبل المحتمل. ويتضمن تحليل مصادر وأنماط وأسباب التغيُّر والاستقرار في محاولة لتنمية القدرة على الاستشراف. كما عرف هذا المجال باسم أبحاث المستقبل، والمستقبليات، والتفكير المستقبلي.[6]

وقد عرفت جميع الثقافات عبر التاريخ رغبة ملحة في معرفة المستقبل ظهرت في ممارسات متنوعة من العرافة divination والنبوة prophecy، والتنبؤ prediction، والتنجيم astrology، وقراءة الكف palmistry، وغيرها. وقد عرف التاريخ البشري كذلك ظهور الأنبياء المرسلين من الله سبحانه، وكان الحديث عن المستقبل الذي يتصل بنتائج أفعال الناس في الدنيا والآخرة جزءاً من تعاليمهم. لكنَّ الدراسات المستقبلية الحديثة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، في صورة حقل علمي جديد اعتمدت على بعض التقاليد الفكرية السابقة إلى جانب ما أحدثه التقدم العلمي والصناعي، وقد صنف أحد الباحثين المعاصرين التقاليد الفكرية التي تشكل حركة الدارسات المستقبلية الحديثة ضمن خمسة تقاليد فكرية هي: الأديان، اليوتوبيا، التاريخ، الخيال العلمي، والتفكير المنظومي.[7]

وعندما تشير الدراسات المستقبلية إلى مكانة الأديان، ولا سيما الإسلام والمسيحية، فإنَّها تتحدث عن موقفين متناقضين تماماً، الأول أنَّ هذه الأديان تجعل مستقبل الإنسان بيد الله سبحانه الذي يعرف كلَّ شيء، وهو مستقبل محدَّد مسبقاً، وقد أخبرنا الله سبحانه بأحداث تنبؤية محددة، منها: مجيء المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً، ومنها مجيء المسيح المنتظر، والمسيح الدجال، وظهور يأجوج ومأجوج وغير ذلك، ومن ثم لا حرية للإنسان في تحديد مصيره ومستقبله، وهو موقف سلبي تجاه المستقبل ويعد من إرث القَدَرية الدينية. والموقف الثاني، يتجاهل ما يتضمنه الموقف الأول ويرى أن مستقبل الإنسان رهن بتفكيره وأعماله. ونحن نستطيع أن نفهم شيئاً من سقف التجديد وسؤال التقدم واستشراف المستقبل من حديث القرآن الكريم عن المستقبل القريب في حياة الإنسان في الدنيا، وحياة الأجيال البشرية المتتالية، التي تنتهي بحياة الناس في الآخرة. ذلك أن الهديّ القرآني في هذا المجال يعمل على توسيع فضاءات الرؤية والتفكير خارج إطار الموقف الطارئ الذي يمر بالإنسان وتحت ضغوطه الراهنة ومتطلباته الملحّة، زماناً أو مكاناً أو حالاً.

إنّنا نجد في القرآن الكريم رؤية تكاملية تحتاج إلى التأمل، فالقرآن الكريم يتحدث عن الماضي وما كان فيه من أحداث طبيعية واجتماعية، وعن الحاضر وما يصاحب الناسَ فيه من التحديات والفرص، من ظروف اقتصادية أو سياسية، ومن مشاعر نفسية وعلاقات اجتماعية وغير ذلك، وعن صورة المستقبل القريب للإنسان في توظيفه للمتاح من المسخرات في الأرض، سواءً في اكتشاف المعرفة والعلم من التدبر والتفكر والمشاهدة والتجربة للأشياء والظواهر والأحداث الطبيعية والاجتماعية والنفسية، وما قد يُبنى عليها من متطلبات تحقيق التمكين وبناء الاستخلاف في الأرض، في أمور التجارة والزراعة والصناعة وعُدَّةِ الحرب وغير ذلك. فالتفكير في مثل هذه الأمور ليس للخروج من أسر اللحظة الراهنة وحسب، ولكنه، بالإضافة إلى ذلك، تفكير ممتد في المتاح من الزمان للفرد، ثم هو ممتد في زمان الأمة وأجيالها. ومعظم الإنجازات الكبرى في تاريخ الشعوب، لم تكن نتيجة استجابة مباشرة لموقف محدد في الزمان والمكان، وإنما كانت حصيلة معاناة وجهود متصلة، رافقها تخطيط ومتابعة وصبر على ما يلزم من توفير المتطلبات ومعالجة المعوقات، وأخذت هذه الإنجازات من المدى الزمني ما لزم للانتقال من حاضر مَضَى، إلى مستقبل متجدد. وهكذا يقدم الهدي القرآني للإنسان رؤية متفائلة للمستقبل، يصاحبها زيادة في العلم والتمكين وتحقيق الاستخلاف.

ويتخذ بعض المتدينين من حديث نبوي يتضمن عبارة “لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه” حجةً في أنَّ الحياة تتطور نحو الأسوأ، “وأنَ الأمور في تدهور دائم، وسقوط مستمر وانْهِواءٍ متتابع، من دَرْك إلى درك أسفل منه، فهي لا تنتقل من سيء إلا إلى أسوأ، ولا من أسوأ إلا إلى الأسوأ منه… ومن الحق علينا أن نقول: إنَّ السابقين من علمائنا قد وقفوا عند هذا الحديث مستشكلين الإطلاق فيه، مع أنَّ بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز لكفى دليلاً مبكراً. ويورد القرضاوي بعض تفسيرات العلماء لهذا الحديث، ويختم بقوله: “أرى أنَّ أرجح التفسيرات لهذا الحديث ما ذكره الحافظ في الفتح بقوله: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة، بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك، فيختص بهم.” ثم ينقل كلام ابن مسعود الذي يقول: “فهو خاص بأزمنة من كان يخاطبهم من الصحابة والتابعين.” ثم يعلق على ذلك بقوله: “وأما من زعم أنَّ الحديث يتضمن دعوة إلى السكوت على الظلم والصبر على التسلط والجبروت، والرضا بالمنكر والفساد، ويؤيد السلبية في مواجهة الطغاة المتجبرين في الأرض” فيرد عليكم بمجموعة من الحقائق التي تفهم من أحاديث نبوية أخرى تفرض قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.[8]

ومع أنَّ الجهد الفردي للعلماء والمكتشفين والمبدعين هو أساس التغير والتطور في التقدم البشري، لكنَّ البيئة التي توفر للفرد فرص الإبداع، من تفرُّغٍ ودعْم ومتابعة، والعملَ التعاوني المشترك بين فرق الباحثين ومجالات الاختصاص، وما يلزمه من تشريعات ونظم تضمن المساءلة وحسن الإدارة والمتابعة، أصبح كلُّ ذلك من متطلبات تحقيق أهداف المشروعات التي تستهدف التنمية والتقدم والنهوض والتغيير.

أما سقف التغيُّر وجهود التغيير التي تتصل بكفاية الموارد الضرورية للإنسان في حياته على هذه الأرض، فإنَّنا نؤمن أنَّ الله سبحانه قد جعل هذه الموارد على حالة متوازنة؛ كماً وكيفاً، لبقاء الإنسان إلى يوم القيامة، ولا يتّصل سقف التغيّر وحدوده بعدد سكان الأرض، فلكل مخلوق رزقُه وأجله، ويشمل ذلك الماء والهواء ومصادر الطاقة وسائر موارد الرزق، وإنَّما يتَّصل بما يحدثه الإنسان؛ فرداً، ومؤسسة، ودولة، وجنساً، في البيئة وفي محيط الحياة، من إصلاح أو إفساد وما يقوم به من ترشيد أو إهدار، فيكون منه سوء الاستعمال والاحتكار وسوء التوزيع، وممارسة الظلم والعدوان، ويكون منه العجز عن الاستعانة بالوسائل العلمية والتقنية المناسبة، فضلاً عن مشاعر الإحباط واليأس والكسل عن السعي في الأرض بالهمة والعمل الجاد والمجدي. وهو ما يصيب فئات الناس بصور مختلفة من الضنك.  قال الله سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

وتوجيهات الإسلام في شأن طلب الرزق والسعي في اكتسابه توجيهات صريحة في قوتها، فلا حجة للإنسان، فيما يصيبه من فقر وعوز، أن يتفرغ للعبادة مثلاً ويتسول غيره في توفير حاجاته من أسباب الحياة الكريمة، أو أي عذر يتعذر به عن السعي الدائب في اكتساب ما قسم الله له من رزق. وفي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: “لأَن يأخذ أحدكم أُحبُلَهُ ثم يأتي الجبل، فيأتي بِحُزْمَة من حطب على ظهره فيبيعها، فَيَكُفَّ الله بها وجهه، خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعْطَوه أو مَنَعُوه.”[9] ومن المأثور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجالاً يتعبدون في المسجد، سألهم من يطعمكم؟ قالوا جيراننا، قال: جيرانكم أعبد منكم. وأمرهم بالسعي في طلب الرزق، وقال: “لا يَقعُدَنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزُقْني؛ فقد عَلمْتُم أن السماء لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فِضة.”[10] ولعل مما يلزم أن يؤخذ بالحسبان أنَّ هذا الفهم الذي تؤدي إليه توجيهات الإسلام، ربما يصدق عليه أنه تكامل معرفي يجمع رؤية إيمانية دينية، ويعتبر بالجوانب الإيجابية في الفطرة والطبيعة البشرية، ويستوعب الجوانب السلبية للسلوك البشري الذي تعبر عنه الحقائق والوقائع الإحصائية العالمية.

ونعود للتأمل في مسألة “الندرة” وعدم كفاية الموارد في الأرض لسكانها، فنتذكر في هذا المقام كتاباً نشر في مطلع ثمانينيات القرن العشرين عن “صناعة الجوع وخرافة الندرة”، فالجوع في العالم في دراسة المؤلفَيْن صناعةٌ مقصودة للفقر والجهل والتخلف، بعد أن أصبح الغذاء سلاحاً سياسياً تستخدمه دول وشركات ومؤسسات، بلا ضمير، من أجل إخضاع الشعوب الفقيرة والضعيفة، والتأكد من استمرارها في حالة الفقر والضعف.[11] وينطلق كتاب “صناعة الجوع” مما يعدّه المؤلفان حقيقة، وهي: “أن الأرض تنتج ما يكفي لإطعام سكانها وأكثر، بينما يعيش عليها نصف مليار جائع!” ويناقش الكتاب ما يقال عن أزمة الغذاء العالمية، ويعرض أمثلة عملية وتاريخية عن أن الجوع صناعة كأي صناعة أخرى، هناك من يستفيد منها ويجني ربحاً، ويصدَّر الجوع والحروب والمرض إلى دول معينة ليفتح باب الربح والتجارة في تلك الدول لصالح بعض المستفيدين محلياً، والفائدة الكبرى لدول وشركات ومؤسسات أجنبية. 

وقد صدرت الطبعة الأولى من النسخة الإنجليزية من كتاب صناعة الجوع في عام 1977، وتحدث الكتاب عن إحصائيات والنسب الخاصة بالأراضي المزروعة في أماكن مختلفة من العالم في البلدان الغنية والبلدان الفقيرة. وبعد أربعين عاماً صدر كتاب آخر بعنوان: “عار الجوع: الغذاء والعدالة والمال في القرن الحادي والعشرين”[12] ويتساءل مؤلفه لماذا أخفق العالم في إيجاد حلٍّ لأزمة الجوع في القرن الـحادي والعشرين؟ ولماذا تتسع فجوة الفقر في عالم الجنوب حيث يوجد مليار جائع؟ ويؤكد الباحث من خبرته العملية في ميدان خطط وبرامج مساعدات التنمية أن الخصخصة المتزايدة لهذه البرامج ودخول المشاهير على الخط لا يحركها إلا المصالح والأعمال التجارية. ويؤكد أن أحد المعتقدات التي يسميها المؤلف “كارثية” و”بربرية”، التي أطلقها مالتوس في القرن الثامن عشر -حول علاقة المجاعة بالندرة- لا تزال تحافظ على جاذبيتها. ويتحدث بالتفصيل عن الأخطاء المتعددة التي تعتري هذا المعتقد. ويؤكد المؤلف أن معظم جهود معالجة الفقر لا تتناول أسبابه، وإنما تفتح مشاريع مساعدات تفتقر إلى الأخلاق، وتعتمد على توسيط أنظمة استبدادية صديقة للغرب. وأن كل الأحلام والعبارات المتفائلة التي يطلقها المعنيون بمشاريع الحدّ من الفقر، هي محض غطرسة من الأغنياء الأقوياء.[13]

وخلاصة القول: إن البشرية قد عرفت الغنى والفقر على مدار التاريخ، وأن وجود الفقر والفقراء كان مشكلة دائمة، وأن التاريخ قد سجل محاولات متنوعة لمعالجة هذه المشكلة، منها تحريك المشاعر والعواطف الإنسانية تجاه الفقراء، أملاً بالشعور بالرضا، أو بالأجر عند الله. ومنها القوانين التي تحفز على تقديم المساعدة مقابل منفقة عاجلة، ومنها التفكير في بناء واقع اجتماعي مثالي، لا تفاوت فيه بين الناس، فالكل سواء في الاكتفاء بأساسيات الحياة، فلا أغنياء ولا فقراء.

ويبدو أن ظاهرة الغنى والفقر بين الناس تتصل بطبيعة الإنسان، والتفاوت في قدرات الأفراد على بذل السعي من أجل الاكتفاء بأساسيات الحياة، فمن الناس قوي وضعيف، ومنهم القَنُوع والجَشِع، ومنهم صاحب همة عالية، وخائر عزيمة. وكل ذلك يؤدي إلى التفاوت في كسب الناس، فتظهر درجات في الفقر، ودرجات في الغنى. وعرف الوجود البشري حالات طبيعية فطرية يعمل فيها الفقير المحتاج إلى العمل لسد حاجته، في تحقيق مصالح الغني صاحب العمل لتثمير عمله، فتتحقق مصالح الطرفين بقدر من الرضا، يُكرم فيها صاحب العمل عماله، ويدعو فيها العمال بمزيد من الخير لصاحب العمل. وعرف الوجود البشري كذلك استغلال القوي للضعيف، والغني للفقير، جشعاً وظلماً وعدواناً.

وقد أشرنا إلى أن في العالم المعاصر كثيراً من المؤسسات الدولية والإقليمية والمحلية تعمل في مجال الحد من الفقر، وأنّ أكثرها لا يعالج سبب المشكلة، وأن دوافع كثير منها يخضع للشك والتساؤل. ولكن علينا في الوقت نفسه ألا ننكر أن فطرة الخير موجودة في البشر، وأن ما يقوم به بعض الأفراد أو المؤسسات من أعمال ومشروعات لمعالجة الفقر في بعض المناطق ربما تعبر عن نوايا حسنة وتأتي بدوافع إنسانية نبيلة، وأن بعض هذه المشروعات ذات طبيعة إنتاجية وتحقق تنمية مستدامة في أماكنها، وتمكيناً للأفراد أو الأسر أو المجتمعات المحلية من الاعتماد على النفس في تيسير سبل العيش الكريم، فهذه وأمثالها أعمال مشكورة تكسب أصحابها شيئاً من الرضا، وشكر المنتفعين منها وتقديرهم. ولمثل هؤلاء من أصحاب المبادرات الإنسانية النبيلة نصيبُهم وفق نيّاتهم من أجر الدنيا أو الآخرة.

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ       لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ

ومن ثم لا يبدو أنَّ ثمة سقفاً للتغيير والتجديد، ولا خطةً محددة لتحديد التجديدات المطلوبة، وإنَّما هي حالة من الاستعداد الدائم للتجديد، استجابةً للحاجة المتجددة إليه. ويبدو أنَّ حياة البشرية في مسألة التغير والتجدُّد مثل حياة الفرد الإنساني، فالفرد البشري يبداً طفلاً، ثم شاباً قوياً، ثم كهلاً، ثم شيخاً واهن العظم، ثم هرِماً فاقد القدرات، وينتهي بالموت. وكلُّ ذلك في دورة من التغيرات في حالة الإنسان الدنيوية، ليبدأ بعد ذلك عالم الغيب. وحياة البشرية هي كذلك من جيل إلى جيل، لا تَبقى حالةُ جيلٍ على حالها، ولا تتشابه حياة جيل مع حياة الجيل اللاحق له، إلى أن تنتهي حياة البشر في الدنيا، ليبدأ بعدها عالَم الآخرة. ولكنّ كلَّ الدراسات الاستشرافية تؤكد أنَّ التغيرات في البيئة الطبيعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية سوف تستمر دون سقف محدد، تنتابها حالات من الصلاح الطبيعي المتوازن، والإصلاح المقصود في استثمار الموارد وتطويرها وتنويعها، وحالات أخرى من الفساد الناتج على الإهمال وسوء التدبير البشري، أو الإفساد المقصود جشعاً وظلماً وعدواناً، وسيبقى الإنسان بين هذا وذلك مع بعض الأمنيات المبشِّرة أو التحذيرات المخوِّفة!

(من مشروع كتاب بعنوان: التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي المعاصر)


[1] الكبسي، محمد يحيى. الحاجة للغذاء في الاقتصاد الإسلامي- مكانته وخصائصه وضوابطه، مجلة أبحاث البيئة والتنمية المستدامة، مج 11، عدد 2، 2022، ص 1-42.  على الرابط:

https://al-edu.com/journals/index.php/JESDS/article/view/398

[2] نسبة إلى الاقتصادي الإنجليزي توماس روبرت مالثوس (1766– 1834م)، وقد وردت نظريته حول النمو السكاني في كتابه الذي صدر عام 1798 بعنوان “مقال عن مبدأ السكان” ِAn Essay on the Principle of Population يقرر مالثوس بأن السكان يزدادون حتماً بدرجة لا تتناسب مع الإمدادات الغذائية المتاحة، مما يتسبب في عكس النمو السكاني بسبب المرض أو المجاعة أو الحرب أو الكوارث. وعرف مالثوس بتطوير الصيغة الأسية المستخدمة للتنبؤ بالنمو السكاني، والتي تُعرف حاليًا باسم نموذج النمو المالثوسي Malthusian growth model.

[3] Meadows, Donella, et al. Limit to Growth. A Report for the Club of Rome’s Project on the Predicament of Mankind, New York: Universe Books, 1972.

[4] Meadows, Donella et al. Limit to Growth:  The 30 Years Update, London: Earthscan, 2004. انظر عرض للكتاب وملخص لمحتوياته في الرابط                             https://donellameadows.org/archives/a-synopsis-limits-to-growth-the-30-year-update/

[5] Randers, Jorgen. 2052 – A Global Forecast for the Next Forty Years: A New Report to the Club of Rome (Follow-up to The Limits to Growth)  Junction, VT: Chelsea Green Publishing, 2012.

[6] Sardar, Z. (2010) The Namesake: Futures; Futures Studies; Futurology; Futuristic; Foresight — What’s in a Name? Futures, 42 (3), pp. 177–184.

[7] Son, Hyeonju. The History of Western Futures Studies: An Exploration of the Intellectual Traditions and Three-Phase Periodization, (Chonbuk National University, South Korea), Futures 66, 2015, 120-137.                   

–  homepage: www.elsevier.com/locate/futures.

[8] القرضاوي، يوسف، كيف نتعامل مع السنة النبوية: معالم وضوابط، هرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط5، 1992، ص 87-90.

[9] البخاري مرفوعاً.

[10]  ورد هذا الأثر في إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي.

[11] مور لاييه، فرانسيس وكولينز، جوزيف. صناعة الجوع (خرافة الندرة)، ترجمة أحمد حسان. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (سلسلة عالم المعرفة)، رقم 64 أبريل 1983. (378 صفحة)

[12] ريف، ديفيد. عار الجوع: الغذاء والعدالة والمال في القرن الحادي والعشرين، ترجمة أحمد عبد الحميد أحمد، ومراجعة محمد شهاب الوهيب، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، (سلسلة عالم المعرفة)، رقم 500، نوفمبر 2022.

[13] المرجع السابق، ص 89-90.