سنة الله في نصر عباده المؤمنين
في ظروف الضعف والاستضعاف التي تمر بها الأمة، ينظر المؤمنون إلى الآيات التي انتشرت في القرآن الكريم والتي تقرر وعد الله تبارك وتعالى بنصر عباده المؤمنين والتمكين لهم وتوريثهم الأرض، يحاولون فهمها وتدبرها أو تأويلها. وغالباً ما تنتهي تلك المـحاولـة إلى ما يمكن أن نسميه (جلد الذات) وذلك باتهام النفس في نسبتها إلى الإيمان واتهام الأمة في اندراجها تحت اسم المؤمنين الذين توجهت الآيات لبشارتهم ووعدهم. وينتهي الأمر عند كثير من محترفي الوعظ إلى اتخاذ الوهن والتفرق والضعف الذي تمر به الأمة أداة لتضخيم أهمية بعض النوافل من الأعمال والآداب وجعل تجاوزها وعدم التمسك بها سبباً للبلاء وتسلط الأعداء.
ويخشى المرء أن ينتهي الأمر إلى تدين يبتعد عن نهج القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى تفسير خرافي للإيمان حيث يغيب فهم السنن التي بثها الله تبارك وتعالى في الكون وجعل فهمها وتسخيرها والالتزام بمقتضياتها وسيلة تحقيق إرادة الله في التمكين لعباده المؤمنين.
ويخشى المرء كذلك أن ينتهي التفسير الخرافي للإيمان والجهل بسنن الـتغيير إلى فتنة لعباد الله بحملهم على اختزال قوانين التغيير إلى الشروط المادية وحدها وإنكار ما وراءها من الأمداد الإلهية الغيبية لعباده المؤمنين والتي تشكـّل أحد السنن الإيمانية الجارية.
وسأحاول في هذا المقال إلقاء بعض الأضواء التي تساعد على فهم سنن الله تعالى في التغيير وواجبات المؤمنين ودورهم في تحقيق وعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين.
وأول ما يجب الانتباه إليه عند الحديث عن تحقيق وعد الله لأنبيائه ورسله وأهل طاعته أن الوعد الإلهي لا يلغي السنن والقوانين التي بثها الله تعالى في الكون ولا يستلزم حدوث الخوارق والمعجزات التي تعرض وتبين طلاقة المشيئة الربانية وعدم انحصارها بما ألفه البشر واعتادوه من الأسباب والمقدمات، وذلك حين يشاء الله سبحانه وليس عندما يتمنى العباد ويتشوفون.
فالمؤمن لا يتخذ الوعد الإلهي ذريعة لـلقفز فوق السنن أو لإلغاء دوره في الإعداد والاستعداد، فهو يعلم أنـّه متعَبـّد بتحري الأسباب وفهمها والانضباط بها.
لقد مضى على المسلمين حينٌ من الدهر غفلوا فيه عن سنن النهوض والارتفاع، وغفلوا كذلك عن مواطن الضغف الذي يسري في كيانهم، فنزلت بهم نتائج غفلتهم قدراً لا يرٌد وقضاءً لا يُغلب. ولا مطمع لهم في أن يرتفع عنهم ما هم فيه إلا أن يدركوا أن الأمر ليس صدفة عابرة وإنما هي سنن وقواعد ونواميس من طـوّع نفسه لفهمها وتسخيرها عندما يتعامل مع الإمكانيات والطاقات المتوفرة حوله، كان له ما يرجوه من النجاح بعد أن قـدّم من نفسه ما يستطيع من التغيير.
وقد تحدثت آيات القرآن الكريم في كثير من المواطن عن السنن في إطار حركة التاريخ والتغيير الاجتماعي وعواقب الأمم والشعوب بشكل يبرز أهمية الجهد البشري في التغيير والحركة؛ إذ لا معنى للحديث عن سنن التاريخ أو الحديث عن الاعتبار بسيرة الأقوام الخالية وعاقبة أمرهم إلا التأكيد على أن الجهد البشري والطريقة التي يعمل بها هذا الجهد هو المحور الذي تدور عليه مسؤولية الإنسان عن عمله في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا يكون الحديث عن سنة الله في نصر عباده المؤمنين حديثاً عن القواعد والضوابط التي يجب أن يعيها المؤمنون وهم يتحركون بإدراك تام لموقع جهدهم وعملهم في التغيير الذي يريدون والنصر الذي ينتظرون.
ومن أهم ما يجب أن نلفت الأنظار إليه أن الأسباب في مجال تغيير المجتمعات لا يمكن أن تنحصر في سبب واحد، فلا يجوز لمن يريد أن يفهم عملية التغيير أن يغفل عن الطبيعة المتشابكة لعلاقات الناس فيقع في التبسيط المخلّ؛ ومن ثم لا يستطيع أن يتعامل مع المشكلات بشمول وإحاطة واعية. فإن حصر الأسباب في سبب واحد يحمل على التجاهل والإهمال لأجزاء أساسية من متطلبات التغيير لا تأخذ حظها من الجهد وتكون النتيجة فشلاً وخيبة وتخبطاً في السير والحركة.
إن السنن والقوانين التي تضبط حركة التجمعات الإنسانية تعمل في تزاحم وتدافع دائم، وما يظهر من النتائج هو المحصلة النهائية للسنن والأسباب المتزاحمة التي تعمل في وقت واحد.
فالجاذبية – مـثلاً – هي السنة والقانون الذي يحكم حركة الأشياء واستقرارها، وقانون حمل الهواء للأجسام المسطحة التي تسير بسرعة هو السنة التي تزاحم عمل قانون الجاذبية. وبعمل هاتين السنتين المتزاحمتين نستطيع أن نفسر ونفهم حركة جسم طائر في الهواء والتي لا يمكن فهمها بالاقتصار على سنة واحدة نقف عندها ونريد فهم وتفسير ظاهرة معقدة من خلالها.
وانطلاقاً من هذا الفهم لسنن الله، ذلك الفهم الذي لا يحصر التأثير في علة واحدة ولا ينسب التغيير إلى سبب واحد سنتحدث عن أسباب إيمانية لها أهميتها في استجلاب عون الله وتأييده ومدده، وذلك إذا تواكبت هذه الأسباب الإيمانية مع أسباب أخرى مادية والتي يتعامل البشر معها في حياتهم وتؤتي نتائجها بغض النظر عن إيمان الناس أو كفرهم واستقامتهم أو شذوذهم.
إن المسلمين هم خلق من خلق الله، تحكم تصرفاتهم وتعيـّن نتائج أعمالهم سنن الله التي لا تحابي أحداً. فالسنن الإيمانية – على أهميتها – لا تفعل ولا تؤثر في شيء من أحداث التاريخ ما لم تستند إلى حدّ أدنى من أسباب مادية والتي تصدق على جميع البشر عندما يتعاملون معها.
إن الأسباب المادية التي يتحرك الناس بها هي شرط لعمل الأسباب الإيمانية، فالأسباب هي محلّ التوكل، والتواكل هو التقصير في اتخاذ الأسباب الممكنة والتمني على الله. وذلك هو ما نفهمه من الآيات الكريمة التي تدعو المؤمنين للإعداد والاستعداد: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]؛ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65]؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45]؛ {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا} [الأنفال: 46].
إن الحديث عن الأسباب الإيمانية وأثرها في التغيير يشكـّل الضمانة التي تنقذ المؤمن من السقوط في النظرة المادية البحتة، ويمد المؤمن بما يميزه ويصبغه بصبغة الله، عقلية روحانية غيبية تستمد تصورها لما يمكن أن يصنع الله بها، من قدرة الله الذي لا يعجزه شيء، لا من إمكانيات العبد الضعيف وآفاقه المحدودة.
والحديث عن الأسباب الإيمانية وأثرها في التغيير-من ناحية أخرى- يمد المؤمن بمفتاح الفهم لحركة الجيل الأول من المسلمين بقيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولكثير من المواقف الفاصلة في التاريخ الإسلامي والتي تستغلق على الفهم المادي المجرد.
والأسباب الإيمانية التي نتحدث عنها والتي ربط الله سبحانه بها نصره وتأييده لعباده المؤمنين هي مجموعة من العقائد والأخلاق والآداب القلبية لا بد أن يأخذ المؤمنون أنفسهم بها ويتحروها في قلوبهم، يسألون الله تعالى بتضرع وخشوع أن يوفقهم للوقوف عندها. فإن تخلفت هذه العقيدة وما يتبعها من آداب وأخلاق فذلك يعني أن الله تعالى سيكـل المؤمنين إلى أنفسهم وإمكانياتهم ليكون ميزان الغلبة والنصر بينهم وبين عدوهم ميزاناً مادياً.
- فالإيمان بالله تعالى يطبع القلب بالخشوع والهيبة والوقار، ويربطه بمعاني الحق والعزة.
- والإخلاص لله تعالى يجمع قلب المؤمن على هدف واحد، فلا يتوجه بعمل ولا فكرة ولا خطرة إلا لنيل رضى الله تعالى والوقوف عند أمره.
- وصدق التوكل على الله تعالى يلقي في القلب السكينة والاطمئنان ويجعل المؤمن واثقاً بحفظ الله ومدده وعونه.
- والخضوع لله تعالى بما خلقه وقدره من سنن ونواميس يستثير في قلب المؤمن الجدية لتوظيف الطاقات والإمكانيات كلها فلا يتجاوزها العبد تفريطاً أو إدلاًلاً.
إن هذه الأخلاق والآداب -إذا علمها الله تعالى من عباده المؤمنين- هي التي تحقق شرط تضخيمِ الإمكانيات المادية وتضاعفِ تأثيرها تماماً كما تفعل العـتلة إذا استقام بناؤها وصَـلـُب عودها وتيسرت لها قاعدة الاستناد المناسبة.
إن هذا التضخيم للجهد ومباركة الإمكانيات هو الذي أتى في التاريخ الإسلامي بالعجائب والمعجزات، وما هي بالعجائب ولا المعجزات ولكنها سنة الله في نصر عباده المؤمنين.
إن إحكام الأسباب المادية والأسباب الموضوعية قدر المستطاع دون تفريط أو تقصير، ودون إهمال لأي سبب في حدود الإمكان هو الذي يجعل المؤمنين الذين أحكموا الأسباب الإيمانية محلاً لظهور قدرة الله ومدده وعونه في أي موقف تفرضه العقيدة وتوجبه ضرورات الحفاظ على الدين والنفس والمال.
إن الأسباب الإيمانية تجـُبـر -عند إحكامها- قصور الإمكانيات والأسباب المادية، ولكنها لا تجـبُـر التقصير والتفريط الذي يُـبطل -عند التورط فيه– دور الأسباب الإيمانية والأمداد الغيبية.
ولعل الاستعراض السريع لأحداث السيرة النبوية المباركة يوضح ويلقي الضوء على حقيقة الأسباب التي كانت عناية الله تعالى تدير الأحداث من خلالها، ويؤكد النظرة المتوازنة في سنة الله في نصر عباده المؤمنين بين الأسباب المادية والأمداد الغيبية الإيمانية.
كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في توكله على الله وتعلق قلبه به وحده دون سواه. كان صلى الله عليه وسلم عند هجرته من مكة إلى المدينة مطمئن النفس في الغار في موقف لو نظر الذين يطلبونه إلى موطئ أقدامهم لرأوه، وكان كذلك مطمئن النفس عندما خاطب الفارس المطارد له بقوله” ” كيف بك إذا لبست سواري كسرى”، ومع ذلك فإن الحرص على إحكام الأسباب المادية في الموقفين يثير العجب والإكبار.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر يوم هجرته تسللاً من مخرج خلفي في دار أبي بكر، وفي ساعة من النهار تهدأ فيها الحركة وتقل أعين الرقباء. لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور بعيداً عن الطريق المألوف إلى المدينة واستخفى هناك ثلاثة أيام. كان عبد الله بن أبي بكر يأتيهم بأخبار قريش، وكانت أسماء بنت أبي بكر تؤمّن الطعام، وكان راعي أبي بكر يرعى غنمه عند الغار كي يشرب من لبنها المهاجران، وكان يسير بغنمه خلف أسماء ليطمس بأظلاف غنمه آثار خطوات الرجال. وعندما أدرك الفارس سراقة لما رآى ما لم يعتده من فرسه أن الرجل الذي يطلبه ممنوع لن يصل إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لسراقة: خـذّل عـنّـا.
وفي غزوة بدر كان إحكام الأسباب الإيمانية يتمثل في ذلك الإخلاص الذي أبداه المهاجرون والأنصار في الانقياد لنبيهم والاستسلام لأمر الله فيهم، وكان يتمثل في التضرع والخضوع الذي أبداه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه ليلة المعركة. وأما ما بذل الصحابة من جهد وما قدموا من تضحيات فلا أدلّ عليه من قول أحد المشركين يصف أصحاب رسول الله في المعركة “أما ترونهم جُـثِـيّاً على الرُكـَب يتلمظون تلمظ الحيات”، ولا أدلّ عليه كذلك من قصة الغلامين الذين كانا يتشوقان للاقتصاص من أبي جهل لما بلغهما أنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما كان من المسلمين في غزوة أحد فقد كان تبياناً رائعاً للتوازن بين الأسباب المادية والأسباب الإيمانية في سنة الله، ذلك التوازن الذي جعل الغلبة للمؤمنين أول النهار وولى المشركون الأدبار بعد أن كثـُر فيهم القتل. حتى إذا تخلف شرط الإخلاص لله في التوجه وتعلقت قلوب بعض المؤمنين بالدنيا والغنائم {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وحتى إذا تخلف شرط إحكام الأسباب المادية بتجاوز الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، تخلف نصر الله لأهل أُحد تخلفاً علـّم المؤمنين في كل زمان أن سنة الله لا تحابي أحداً ولو كان فيهم رسول الله، وأن تخلف نصر الله لعباده يوم أُحد هو من عند أنفسهم لما تركوا من إحكام الأسباب الإيمانية ولما قصروا في الحفاظ على ما كانوا أعدوه من الأسباب المادية.
ويوم حنين خرج أكبر جيش للمسلمين في ذلك الوقت لمواجهة ثقيف وهوازن، وعندما تسرب العجب بالكثرة إلى القلوب فنسيت معنى التوكل على الله وتعلق القلب به وحده وهي تقول “لن نغلب اليوم من قـلـّة”، تخلف نصر الله عن المؤمنين وتفرق المؤمنون عن رسول الله وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولم ينقذ الموقف يومها إلا نفر ممن استقام توكلهم وصدق إخلاصهم وثبتوا مع نبيهم وبذلوا غاية ما يستطيعون من جهد، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأمدهم بجنده وآتاهم نصره بعد أن دفعتهم الهزيمة الأولى إلى الإنابة إلى الله تبارك وتعالى والانكسار له والتبرؤ مما كان منهم من العجب والبعد عن التوكل.
لقد كانت هذه المعاني من سنة الله في نصر عباده المؤمنين ماثلة في أذهان الجيل الأول من أصحاب رسول الله حتى إذا تأخر عنهم النصر في موقف من المواقف كانوا يفتشون عما اقترفوه في حق الإخلاص لله وصدق الاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم.
إن الله تبارك وتعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ما جُبـِل عليه من ضعف وقصور ويعلم كذلك ما يمكن أن يرتقي إليه في معارج الإخلاص والتوكل، هو الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65-66].
لقد أشارت الآيات في خطابها للمؤمنين إلى ما يمكن أن ترقى إليه جهودهم إذا هم صدقوا في التوجه وأحكموا المقدمات وأمدهم الله بعونه وتأييده؛ فالآيات تقرر حقيقة قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق، وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم وتثبت أقدامهم.
ومن هنا كان على المؤمنين أن يمتلكوا الرؤية الواضحة لحركة التاريخ وما يمثلون في سنة التدافع التي قضى الله سبحانه أن تكون الحاكمة لحركة الناس على الأرض، فيتوجهون إلى تحقيق أهداف مرحلية واقعية منضبطة بالقيم وملتزمة بالحق دون استعجال أو تجاهل لسنن التمكين. وهذا هو ما أراده الله سبحانه أن يعلمه للمؤمنين عندما تشوقت قلوبهم إلى تحقيق وعد الله بدخول البيت الحرام: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 28] فكان صلح الحديبية هو الفتح القريب الذي مهّـد للدخول الآمن كما وعد الله سبحانه. ومن هنا لم يكن رجوع المسلمين في غزوة مؤته عن قتال عدوهم هروباً أو فراراً من الزحف، ولكنه كان تحيـّزاً لفئة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا أنكر النبي على من سماهم الفُرار وقال بل هم الكـُرّار.
فالكرّار هم الذين لم يضمر في قلوبهم الشوق إلى نصرة دين الله وإن لم تتيسر أسبابه، ولم يحملهم قصور إمكانياتهم على الاستخذاء والضعف فعاشوا دائماً في حديث النفس بالجهاد –بمعناه الواسع- لنصر الحق واختيار الهدف الممكن الذي ينسجم مع رؤية واضحة لحركة التاريخ وسنن التغيير.
هؤلاء الكرّار هم أمة الدعوة التي ترى النصر عندها يتمثل في الثبات على المبدأ باستعلاء والتميز به، وفي الشوق للتضحية والبذل شوقاً يترجم اهتماماً بالتربية والتدريب والإعداد في كل مجالات المواجهة والتدافع وكسب الأنصار وتقليل الأعداء.
إن أمة الدعوة هي الجيل الذي جعله الله تبارك حجة على عباده في مرحلة من التاريخ وفي وضع تجري فيه الأمور لتكون الدُولة لغير المسلمين {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. إن النصر عند هذه الأمة الخاصة والتي تعيش مرحلة تاريخية خاصة يكمن في الاحتفاظ بالعقيدة حية في القلوب لا يتطرق إليها وهن ولا ضعف أو استخذاء مهما عظم البلاء وكثرت التضحيات.
إن قصة أصحاب الأخدود تمثل التصور الإيماني الصحيح للمؤمن الذي يحرص على أن يضبط تصوره وقيمه بميزان الله.
“إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة. إن قصة أصحاب الأخدود تمثل نموذجاً من تاريخ الدعوة الذي لا ينجو فيه المؤمنون ولا يؤخذ فيه الكافرون وذلك ليستقر في حس المؤمنين أصحاب دعوة الله أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله وأن ليس لهم من الأمر شيء إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله، إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ثم يذهبوا، وواجبهم أن يختاروا الله وأن يؤثروا العقيدة على الحياة وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم كما يفعل بدينه وبدعوته ما يشاء، وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه.
لقد كان القرآن الكريم ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة بحيث لا تتطلع وهي تبذل كل شيء وتتحمل كل شيء إلى أي شيء في هذه الأرض ولا تنظر إلا إلى الآخرة ولا ترجو إلا رضوان الله؛ قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت بلا جزاء في هذه الأرض قريب، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الدعوة وظهور المسلمين، بل ولو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين.
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل، وأن تنتظر الآخرة موعداً للفصل بين الحق والباطل، حتى إذا وجدت هذه القلوب وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، آتاها النصر في الأرض وائتمنها عليه لا لنفسها ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاءً إلا رضاه”(1).
إن وجود هذه الأمة من الناس “أمة الدعوة” واستمرار وجودها تياراً اجتماعياً ظاهراً مستعلناً ورأياً عاماً فعالاً، هو نصر لا يقل أهمية ولا يقل ثمناً وتضحيات عن نصر التمكين في الأرض والظهور على الأعداء. إن وجود أمة الدعوة هذه هو المقدمة الطبيعية والعلامة الصادقة لإمكان وجود جيل من المؤمنين يأذن الله تبارك وتعالى أن يمكـّن له في الأرض ويرفع عنهم الفتنة والخوف ويمنحهم الأمن والعافية.
إن الهدف الحقيقي لعمل المؤمنين وسعيهم وحركتهم يكمن في المقدرة على تمثيل أمة الدعوة في كل ظرف وفي كل الأجواء، وبشكل يعطي هذه الأمة باستمرار المقدرة والعقلية العملية لمواجهة الأزمات الواقعية في كل ظرف إلى أن تأذن إرادة الله أن تتحول أمة الدعوة إلى أمة تستحق حمل أمانة التمكين في الأرض وإعلاءً لكلمة الله فيها.
إن غياب فكرة أمة الدعوة يوقع المؤمنين في اليأس والقنوط ويضيّع ويفوّت عليهم الفرص ويجعلهم فريسة للتمني والاستعجال. فلا بد من الإعداد والاستعداد ولو على المستوى النفسي والشعوري حديثاً للنفس بالجهاد –بمعناه الواسع- وجدية في تناول أمور الحياة والتدرب على امتلاك الخبرات والمهارات واتقانها حتى يصل المؤمنون إلى الكفاية في أساسيات تنظيم حياتهم كلها، وهم يطمحون إلى التفوق الذي يؤكد الهوية ويدعم ويقوي مشاعر الانتماء.