عرض وتلخيص كتاب ” إعمال العقل “
يمثل ” إعمال العقل ” جهداً نظرياً متماسكاً يتناول بالبحث الموقف المتوجس في العقل عند التراثيين الحرفيين بما يوضح العلاقة الجدلية بين العقل والنص وآليات تفاعلهما لإصلاح الحياة بعيداً عن ادعاءات وتجاوزات الطرح الحداثي لهذه الإشكالية . وكما يؤكد المؤلف من البداية فإن البحث يبرز عجز العقليتين التراثية والوضعية عن إحداث النقلة العملية المطلوبة للنهوض بالأمة وتجاوز حالة الجمود والتراجع الحضاري .
فالكتاب هو إثارة لإشكاليتي العقل عند التراثيين والوضعيين ، يتعرض بالدراسة والنقد والتحليل لعدد من المبادئ والتصورات والمفاهيم في إطار العقلية التراثية والعقلية الوضعية ومنهجيات التفكير التي تحكمها ثمّ يقدم رؤية بديلة تطمح إلى تجنب الرؤية الأحادية الثاوية فيهما والاستعاضة عنهما برؤية توحيدية تربط العلوي بالتجريبي والمعياري بالوضعي . وهي رؤية تسعى إلى التكامل المعرفي وتستقي مبادئها المعرفية من نصوص الوحي الذي يحدد المعنى الكلي للوجود ، ومن التجربة الإنسانية التي تكشف الأنساق العامة للحركة التاريخية للمجتمعات الإنسانية.
يتصدى الكتاب لمهمة تحديد أسس التفكير السليم التي يمكن من خلالها إعمال العقل لفهم ثوابت الواقع الطبيعي والاجتماعي ومتغيراته ولتوظيف الفهم المتحصل لتطوير الحياة الإنسانية والارتقاء بها في معارج الكمال العلمي والتنظيمي الوجداني .
إن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تتابع اليوم على أمتنا هي في جوهرها أزمة عقل مستقيل تصلبت منهجيات تفكيره وفقد القدرة عل ى الفعل والتأثير .وقد تناول المؤلف مهمة إعمال العقل في ثلاثة أبواب وقسم كل باب إلى فصلين .
ففي الباب الأول بعنوان ((العقل بين إشكاليتين)) يتحدث في الفصل الأول عن العقل الوضعي وإشكالية استقلال العقل عن الوحي . ويتحاور مع طروحات العلمانية العربية ودراسات نقد التراث ويكشف عن الخلل الذي تعاني منه لتبنيها لأحكام عقلية مكتسبة من تجربة تاريخية لثقافة مغايرة وتعميتها للدور الذي لعبه الوحي في تشكيل العقل المنهجي العلمي . وفي سياق مناقشة طروحات النقد العلماني للتراث يكشف عن المغالطات والمجازفات التي تورط بها دعاة العلمانية . ويتعرض لبيان محددات العقل الوضعي عند الفلاسفة بدءاً من اليونان وحتى عصر النهضة في أوروبا . ويتعرض كذلك لبنية العقل ومصدره ويصل بنا إلى تحديد محل الخلاف والنزاع بين مختلف الاتجاهات الفكرية والمتمثل في وجود مبادئ نظرية ضرورية عقلية يتمكن العقل من خلالها الحكم بالصدق أو الكذب على الأحكام الإجرائية ومعطيات الواقع الكلي .
وبعد مناقشة دور الثقافة ودور الرؤية الكلية في تشكيل أحكام العقل يصل إلى النتيجة الهامة وهي أن التجديد الثقافي يرتبط بإعادة النظر في مصدافية المبادئ والأحكام العقلية المكتسبة وذلك بإعمال مبادئ العقل الفطرية فيها لاكتشاف مواضع الخلل والتناقض الداخلي . ومقارنة الأحكام الموروثة بالأحكام المتولدة عن رؤية أصلية للواقع الكلي .
وفي الفصل الثاني من الباب الأول : يتحدث المؤلف عن العقل التراثي وإشكالية تعارض العقل والنقل . ويؤكد أن إشكالية التعارض ما هي إلاّ مشكلة تعارض بين عقليتين، عقل تراثي مكبل بالقرائن اللفظية والدلالات التاريخية للنصوص، وعقل تكاملي يفهم النص ضمن سياقه الخطابي والحالي ويسعى لتحديد مقاصده الكلية وربط بالمقاصد العامة للخطاب .
وتتعلق الإشكالية بتحديد الكيفية الواجب اتباعها لتجاوز التعارض أو التناقض بين الأحكام الفعلية والنقلية حال قيامه . ومن جهة أخرى فإن الإشكال لا يتعلق بالتشكيك في أهمية الوحي والعقل لتوجيه الحياة البشرية بل يتعلق بتعارض عقليتين أو منهجين في الاستدلال والتفكير وأولويات المصادر وفي هذا الفصل يجول بنا المؤلف جولة ممتعة بين مدرسة الرازي وابن تيمية ويناقش أطروحاتهما ، ويصل إلى أهمية طرح المسألة في إطار العقل التكاملي الذي يعتمد على الرؤية القرآنية والخبرة الإنسانية العملية . هذا العقل الذي أرسى صرح حضارة إسلامية عظيمة ثمّ تراجع واضمحل ليخلي مكانه لعقلية تراثية تقليدية .
وفي الباب الثاني بعنوان ((إعمال العقل في النصوص)) يتحدث في الفصل الثالث عن الكتاب والسنة بين الرؤية القرآنية والمنهجية النصوصية. وتتحدد الرؤية القرآنية بأنها القواعد العامة والمقاصد الكلية المستمدة من الكتاب والمنتظمة ضمن أنساق تحقق ترابطها الداخلي وترتبها ضمن هرم قيمي يميز أوليها من ثانويها .
أما السنة فهي في المقام الأول نماذج تطبيقية للرؤية القرآنية التي استنبطها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجلت في سلوكه ومواقفه. واتباع السنة لا يتحقق بمجاراة أفعال الرسول دون فقه دواعيها ومقاصدها بل يتطلب استلهام المبادئ وإعمال الرؤية القرآنية التي وجهت سلوكه ولو أدى ذلك إلى مخالفة ظاهر فعله .
ويتابع المؤلف في هذا الفصل التطور التاريخي لعلاقة السنة بالقرآن وكيف وصل الحال بالمتأخرين إلى اعتبار السنة أصلاً مستقلاً ومكافئاً للقرآن . ويتابع في هذا الفصل أيضاً ما آلت إليه جهود جمع الحديث وتحقيق صحيحها من سقيمها من تكديس المنهجية النصوصية والتي تحاول رد الأحداث المستجدة إلى نصوص الأحاديث مما أدى إلى توقف إعمال العقل في النص وتراجع الاجتهاد .
وفي الفصل الرابع : يتحدث الكاتب عن نظام الخطاب ومنهجية القواعد القياسية . هذه المنهجية التي تحاول استعادة روح منهج القواعد الفقهية الذي بدأه العلماء من أمثال ابن عبد السلام والسيوطي والسبكي والشاطبي في مواجهة هيمنة المنهجية النصوصية .
ويجول بنا الكاتب في هذا الفصل بين قضايا علم أصول الفقه من البيان والعلة والقياس والأسباب في جولة عميقة مقارنة يخلص منها إلى وجوب اعتماد الفهم الكلي كمنهجية تضبط حركة العقل الرامية إلى فهم دلالات النص وتخرج مناط الحكم الثاوي فيه ومن ثمّ تحقيقه على أرض الواقع ضبطاً لا يؤدي إلى إقالة العقل أو تكبيله.
وفي الباب الثالث : يتحدث الكاتب عن إعمال العقل في الوقائع بنوعيها الطبيعي والاجتماعي الإنساني . ويخصص الفصل الخامس للحديث عن العلاقة بين العقل وقانون السببية ودور العقائد والغيبيات في تحديد هذه العلاقة . لقد تمكنت الرسالة الخاتمة من نقل الإنسان من عالم الكهانة والشعوذة إلى عالم البحث العلمي والمعرفي عندما خلصته من التصور السحري للطبيعة وزودته بتصور علمي لها .
وفي مسيرة الحضارة الإسلامية عندما حاول المتكلمون المسلمون التصدي لشطحات وأوهام الفلسفة اليونانية في هذا الباب لم تلبث هذه المحاولة أن تحولت إلى صراع بين الفلاسفة المسلمين والمتكلمين أدى إلى القضاء على معظم العلوم التي طورها المسلمين بناء على عطاء حضارات سابقة بشقيها الغيبي والطبيعي .
وفي جولة مثيرة بين الغزالي وابن الرشيد والمتكلمين يقودنا الكتاب إلى موضع الخلل الذي أصاب العقل المسلم عندما حاول تأكيد طلاقة المشيئة الإلهية بما يعود على قانون السببية ومنهجية العلوم بالتضييع والتمييع . وبعد إثبات الضرورة السببية ومناقشة ما دار حولها من كلام يتناول قواعد وأنساق الحركة العقلية في دراستها للنظام الطبيعي وتطوير العلوم الطبيعية . ويناقش تصور ومحدودية المنطق الصوري اليوناني ويلفت النظر إلى سبق علماء المسلمين إلى اعتماد طرائق الاستقرار والتي اقتصرت على العلل الفقهية لاستنباط الأحكام في حين لم نقف فيما نشر من الذات على استخدام علماء المسامين للاستقراء في المجال الطبيعي.
ويختم المؤلف هذا الفصل الممتع بالحديث عن طرق الاستدلال التجريبي وأزمنة العقل الوضعي الذي حاول حصر المعرفة بالتجربة الحسية. ليصل بنا إلى النتيجة الهامة التي تربط الواقع المحسوس بالجهد الذهني المتمثل بآليات الاستقراء والاستنتاج والتجريد للتمكن من تكوين إدراك جوهري للبنية الداخلية للواقع المحسوس .
وفي الفصل السادس يجول بنا المؤلف في منهجيات التنظير الاجتماعي بين المنهج الوضعي الذي يتجاهل التصورات والقيم وأثرها في حركة التطور الاجتماعي والسياسي وبين المنهج الإسقاطي الذي سنطلق من الالتزامات القيمية والأخلاقية دون اعتبار بنية الواقع وآليات التغيير الاجتماعي .
ويبدأ الكاتب الجولة في هذا الإطار بتحديد الطبيعة الفريدة المتميزة للسلوك البشري وافتراقه وتميزه عن سلوك الجماد والحيوان واختلاط الخصائص العضوية والطبيعية بالخصائص النفسية والروحية التي تعطيه القدرة على التحرر من الضرورات الطبيعة . كذلك افتراق السلوك الفردي عن الثقافة الجماعية التي تحدد القواعد السلوكية المشتركة .
ويتحدث عن دراسة التاريخ وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية ويجول مع ابن خلدون في مقدمته في محاولة لاكتشاف ولتأسيس علم العمران أو علم الاجتماع الإنساني على المقدمات الغيبية والوقائع التاريخية والذي صادف لحظة أقول في الحضارة الإسلامية فلم تجد نظراته الصدى المناسب لتتمكن من النضوج والتفعيل .
وفي المرحلة التالية تناول الغرب المنهجية الخلدونية بشغف كبير ولكن متابعته لها كان متأثراً إلى حد كبير بالوضع الوضعي السائد الذي تجاهل البعد الروحي والأخلاقي وأضاف إليها بعداً معيارياً يعتمد الواقع الراهن كمرجع للصلاحية مما ينطوي على موقف استراتيجي يطمح إلى الاحتفاظ بالموقع المهيمن للمجتمع الغربي وقطع الطريق على الجهود الرامية إلى تطوير بدائل حضارية وأشكال اجتماعية مغايرة .
ورغم الخصوصية التاريخية للمنهجية الوضعية السائدة في الدراسات الاجتماعية الغربية ورفضها المرجعية التصورية والقيمية للوحي فإن جل الباحثين الاجتماعيين في العالم العربي والإسلامي يعتمدون مقاربات وضعية في دراساتهم للظواهر الاجتماعية .
وقد برزت في العقود الأخيرة أبحاث وكتابات المفكرين إسلاميين ترفض الرؤية العلمانية والمنهجية الوضعية ولكن الكثرة الغالبة لهذه الدراسات تبنت منهجية اسقاطية في تعاملها مع الواقع الاجتماعي هذه المنهجية التي تتجاهل البنية التفضيلية للمجتمع والتاريخ وتعتمد طرائق استنتاجية في البحث واستقراءات بسيطة للواقع الاجتماعي . ويناقش في هذا السياق اطروحات سيد قطب رحمه الله في كتابه ” معالم في الطريق ” بما يوضح الخلل المنهجي في الغياب للتحليل الاجتماعي وآليات التغيير وقوانين حركة التاريخ .
ويدعو في نهاية العقل إلى التكامل المنهجي في الدراسات الاجتماعية لتجاوز الطبيعة الاختزالية الثاوية في المنهج الوضعي والمنهج الاسقاطي . هذا المنهج التكاملي الذي يعتمد المقدمات العلوية التي تشكل الأساس المعياري للبحث العلمي ، ويعتمد استقراء المقاصد الكلية للفعل الاجتماعي الإسلامي والعمل على فهم طبيعة العلاقات الاجتماعية من داخلها وبناء نظريات وتطوير جهاز مفاهيمي يتحقق الاتساق الداخلي والقدرة على تفسير الوقائع الاجتماعية .
~ ~ ~ ~ ~
إنه كتاب يستحق القراءة والمدارسة ، وهو يمثل في بابه دراسة رائدة على طريق تفعيل العقل المسلم بنظام مترابط متداخل يتجاوز الاختزال والنظريات الجزئية والاكتفاء بإعمال العقل في أحد نظم الوجود وإهمال النظم الأخرى . إن النهضة الثقافية والفاعلية الحضارية التي نطمح إليها لا تبنى إلاّ باعتماد النزعات العلوية التي تحفز الفرد والمجتمع إلى الجد والاجتهاد لتحقيق قيم العدل والعلم والتعاون والإحسان والتكافل لتتفاعل مع القدرات العقلية لتحويل المثل السامية إلى نماذج تنظيمية ووسائل عملية تتجاوز النظرات التجزيئية للعقل الوضعي والعقل التراثي على حد سواء .