في تحرير مفهوم (النسب) و (الاصطفاء) في القرآن والسنة
لابد للدارس للقرآن والسنة وما كُتب حولهما في التراث من وقفة مبصرة تتناول بالبحث والتأمل المفاهيم والمصطلحات لسبر حقيقة معانيها في الكتاب والسنة، ولعرض ما آلت إليه هذه المفاهيم والمصطلحات في واقع الأمة نسبةً إلى تلك المعاني الأصيلة.
إن هذه العملية المزدوجة في فهم حقيقة المفاهيم القرآنية، ثم استعراض مسيرة هذه المفاهيم في واقع الأمة في جيلها الأول وما تلا ذلك من أجيال تُعتبر خطوة ضرورية لفهم القرآن والسنة من جهة، ولامتلاك المقياس لنقد التراث وضبط عملية الانتقاء والاختيار المنهجي من تفاعل أجيال الأمة مع الأصول، فلا نهملُ مشاركتهم الناضجة لتنزيل المفاهيم القرآنية على واقعهم، ولا نحملُ على الشريعة والكتاب المعصوم أفهامهم البشرية والملابسات التاريخية التي عانوا منها.
وسنحاول في هذه الوقفة القصيرة تحرير مفهوم الاصطفاء والاختيار في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونتابع مسيرة هذا المفهوم في الأمة وما آلت إليه أوضاعهما.
فالقرآن الكريم يقرر بوضوح أن الله سبحانه اصطفى من البشر أنبياءً ورسلاً كانوا موضع تزكية وتكريم وتشريف من الله تعالى فضلاً منه ومنحة من كرمه ولطفه، ليكون هؤلاء الأنبياء منارات هدى ودليل اقتداء للبشرية، يقيمون بسلوكهم وأعمالهم الحجة على الناس، ويُبرزون أطرافاً من الكمال الإنساني تستلهمه البشرية في سيرها لعمارة الكون وإقامة الحياة الطيبة في الأرض.
وتكمن المشكلة في الحقيقة في ما آلت إليه معاني الاصطفاء والاختيار عند أتباع الأنبياء والرسل إلى درجةٍ تحتاج إلى وقفة تدبّرٍ وتأمّل. فقد فُهم الاصطفاء والاختيار وما يرتبط به من تكريم وتشريف على أنه ميزاتٌ يدَّعيها الأتباع وضمانات يتيهون بها على الناس. وآل مفهوم النسب وما يرتبط به من معاني التشريف والتفضيل على المستوى الاجتماعي والسياسي والديني إلى مفهوم الاصطفاء العنصري الذي ساد ثقافات الجاهلية منذ وثنيات اليونان والرومان إلى عصبيات وعنصريات القرن العشرين!..
ويعجب المرء حين يُطالع كتب التاريخ والسنة النبوية من كثرة ما يلهج به المؤرخون من ذكر الأنساب والاحتفال بها، ولا يجد لذلك تفسيراً شافياً منسجماً مع التقرير القرآني والهدي النبوي عن حقيقة قيمة الأنساب في ميزان الله تعالى.
وكثيراً ما يتردد في كتب التاريخ والسنة النبوية مصطلحات من مثل “النسب الشريف” و “الأصلاب الطاهرة”، وأوصاف التميز والرفعة والمجد والسؤدد لبعض بيوتات العرب وبطونهم وفروع قبائلهم. ويقف المرء على ذكر لفضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه كان عالماً بالأنساب. وتكاد كتب التاريخ والسيرة تُجمع على البدء بذكر أصول العرب وقبائلهم وشجرة أنسابهم وعلاقة القرابة بينهم، دون بيانٍ لمعنى هذا ووظيفته في فهم التاريخ أو تفسيره أو علاقة هذا الاحتفال والاهتمام بحقيقة مفهوم النسب في القرآن والسنة.
فإذا تابع المرء مسيرة مفهوم النسب وانعكاساته على مسيرة تاريخ المسلمين وما أنتجوه من تراث، كان على يقين من أنه لابد من تحرير هذا المفهوم وضبطه على ضوء كليات القرآن الكريم والسنة النبوية، ليمكن بعدها الاستفادة من التراث وفهمه على حقيقته والاختيار منه بعد امتلاك أداة الفهم وأداة التنقية من رواسب الجاهلية وتعسف العنصريات المصادمة للفطرة ومنطق العدل الإلهي والحق الذي قامت عليه السماوات والأرض.
ويأبى منطق الشريعة ومنطق الفطرة والحق والعدل أن يكون معنى مفهوم الاصطفاء والاختيار وجود ميزاتٍ متوارثة وضمانات أزلية تستثني أصنافاً من الخلق من تبعات التكليف ومسؤوليات أداء الأمانة. فالقرآن الكريم يقرر أن الإنسان مكلفٌ حاملٌ للأمانة، مسؤولٌ عما أعطي من إمكانيات، محاسبٌ على اختياره وعمله، مستحقٌ للكرامة والتشريف إن أدى الأمانة وعمل بمقتضى التكليف، ومستحقٌ للعقوبة والنكال إن أهمل التكليف وخان الأمانة. ويكاد يكون من الإطالة الاستدلال بآحاد النصوص والأدلة على مثل تلك الكلية الدينية المستقرأة من روح القرآن وروح مقاصده في إصلاح الخلق، والمبثوثة في مجمل آياته الكريمة.
وانطلاقاً من هذه الكلية الشرعية، نستلهم معنى الاصطفاء والاختيار الإلهي بشكل لا يتعارض مع معاني القرآن وكلياته. فالأنبياء والرسل والصالحون من عباد الله استحقوا الثناء والتكريم والتشريف بما حملوه من أمانة التكليف وأداء حقوق ما أعطاهم الله من مواهب واستعدادات. فالتشريف لاحقٌ ومبنيٌ على القيام بحقوق التكليف، ويزيد مقام التشريف كلما صعبت المهمة وتطلبت التضحية والبذل والتجرد لله والخضوع له.
أما التشريف المنقطع عن معنى القيام بواجبات التكليف فهو المفهوم الجاهلي الذي ابتُليت به الخليقة منذ قال إبليس {أنا خير منه} [الأعراف:12]. مع إصراره على العصيان بقوله: {لم أكن لأسجد}.
والمطلع على آيات القرآن الكريم التي ذكرت الأنبياء والرسل بالتنويه وبيان الفضل والمزية يجد ذلك كله مقروناً بعبارة واضحة عن استجابة الأنبياء للأمر وقيامهم بالواجب وبذلهم وتضحيتهم وإنابتهم وإخلاصهم وكبت دواعي الخلود إلى الدنيا في بشريتهم.
والسنة النبوية طافحةٌ كذلك بمعنى المسؤولية الفردية ونبذ دعاوى الفضل والشرف القائم على النسب والقبيلة والعشيرة: “يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً”1، “من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”، “رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره”2.
فإذا انضبط معنى الاصطفاء والاختيار بالربط بين التكليف والتشريف، كان من الواجب إمعان النظر في دلالة اهتمام علماء الأمة من السلف بالأنساب وذكرها والتأكيد عليها. ونبدأ بتقرير ما قدمناه من أن الاهتمام بالأنساب عند سلف الأمة لم يكن لمعنى من معاني الاصطفاء والتمييز العنصري الجاهلي، وإنما كان له وجه آخر يليق بمكانتهم في فهم القرآن وفهم توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولعل من أنسب المداخل لفهم هذه القضية ما عبر عنه العلامة ابن خلدون بمفهوم المَنَعة، والتي تعني – في الإطار الاجتماعي والسياسي – الحماية والأمن والقدرة على دفع الأذى وتأمين النصرة والعون. فما أرسل الله من نبي إلا في منعةٍ من قومه، تحقيقاً لقدر الله في نشر الدعوة وتبليغ الرسالة.
وإذا كانت المنعة في البيئة القبلية تتحقق من خلال التناصر بالأنساب وعصبية القرابة، كان من الطبيعي لمن هيأه الله لموقع القيادة أن يكون مُلِمّاً فاهماً واعياً لمتطلبات الحماية والمنعة في البيئة التي يعيش فيها، مطلعاً على القوانين الناظمة لقيام المنعة وعدم اختلالها وتعرضها للخطر. فلقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم في مكة متمتعاً بحماية بني هاشم وعلى رأسهم عمه أبو طالب، وكان بنو هاشم يشعرون بواجب حماية واحدٍ منهم ولو خالفهم في الدين، وخرجوا إلى شعب أبي طالب أعوام الحصار، لأن المعاناة مهما بلغت أهون عليهم من الوصم بالهوان وتضييع حق واحدٍ منهم يحملهم العرف على نصرته وحمايته.
وفي ظل الوظيفة الاجتماعية والسياسية لمفهوم النسب في البيئة العربية يصبح حديث الأئمة عن الأنساب مفهوماً متوجهاً، فلا يستطيع قيادة أمةٍ هذه أعرافها من لا يحسن هذه اللغة ومن لا يعرف مداخل ومستتبعات هذا المفهوم في حياة أفرادها وجماعاتها.
وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حدثت نقلة نوعية في طبيعة علاقات الحماية والنصرة والمنعة، وأصبح المؤمنون في المدينة بعضهم أولياء بعض بغضّ النظر عن أنسابهم وقراباتهم، وانتقلت الوظيفة الاجتماعية لمفهوم النسب إلى مستوىً آخر من التكافل والتناصر وتوزيع الثروة والعون على تقلبات الزمان. فالإرث، والدية على العاقلة، والقسامة والولاء… هي مفاهيم وأحكام تمثل الوظيفة الاجتماعية لمفهوم النسب في إطار المجتمع المسلم في القرون الأولى. وكل تلك التطبيقات والتفريعات على مفهوم النسب هي مسؤوليات وواجباتٌ اجتماعية تستند إلى قاعدة الغنم بالغرم، ومبدأ التكافل والتعاون على الخير.
أما ميزات الفضل والشرف والقداسة المستندة إلى مجرد دعوى النسب، فقد كانت في تاريخ الأمة – ولا تزال – مبرراتِ تسلّطٍ على عقول العوام واستمالة قلوب الرعاع، استكثاراً للأتباع والمؤيدين والمريدين. ولابد من طرح كل ما يتصل بهذا المعنى الجاهلي لمفهوم النسب جملةً وتفصيلاً، والرجوع إلى الوظيفة الاجتماعية والسياسية للنسب، نستلهمهما من خلال القراءة الواعية للسياق الاجتماعي والسياسي الذي استعمل فيهما هذا المصطلح.
وفي عالم اليوم، تتنوع طبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسية لكل بلد تنوعاً هائلاً يصعب على الحصر. ويُعتبر مفهوم النسب والعلاقات القبلية أحد مفاتيح الفهم لحقيقة ما يجري في بعض البلاد، بينما لا يعني ذلك الأمر شيئاً بالنسبة إلى بلاد أخرى.
ونحن إذا أردنا أن نرتفع إلى مقام الاستفادة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي له من مقام الرسالة الخاتمة الشاملة العامة، فلابد من التأسّي بمقاصد فعله وأصحابه وسلف أمته في طلب المنعة والحماية وإمكان الاستمرار في الدعوة والبيان. وكان من الضروري إعادة صياغة مفهوم النسب في كتب التاريخ والسيرة، وتخليصه من ظلاله الجاهلية وانعكاساته التي عانت منها الأمة طويلاً، ليكون مفهوم النسب دليل أسوةٍ لتشكيل الوعي بمفهوم المنعة ومتطلباتها عند تغير الظروف الاجتماعية والسياسية، وتغير القاعدة المادية لتأمين المنعة والحماية والتناصر والتكافل في الأمة.
12-1417 هـ/ 03-1997 م
1 رواه البخاري في كتاب الوصايا.
2 رواه الترمذي في كتاب المناقب.