في زيف الاستدعاء الحداثيّ للتراث: محمد أركون مثالًا

597

تمثل قضية الحداثة، في العمق، إحدى أهم القضايا التي شغلت المفكرين العرب، باختلاف انتماءاتهم، وتصوّراتهم، في آخر مئتي سنة. ومن بين القضايا المنهجية اللافتة في مقارباتهم لـ “الحداثة” وإشكاليّاتها في العالم العربيّ والإسلاميّ؛ حديث بعضهم الدؤوب عن ” تأصيل الحداثة ” في إشارةٍ إلى أنّ “تلك الحداثة لم تزدهر بالشكل الصحيح والمفترض، لأنها غُرست قصدًا أو عن سوء تقدير خارج تربتها الجماليّة، واعتنت بالمستورد، والمنقول، والمترجم، أكثر من عنايتها بالأغصان النابتة من جذور تراثيةٍ؛ لا تقل حداثة عن المعاصر”.[1] لأجل ذلك عمد غير واحد من المفكرين للبحث عن الأصول التراثيّة، للفكرة الحداثّية، في عالمنا العربيّ، بعيدًا عن أصول “لقيطة” وأخرى “هجينة” تحتم على هذه الحداثة التماهي مع التأطير الغربيّ لها.[2]

وبذلك تحوّل الحديث في هذه الحداثة؛ أي الحداثة العربيّة من “حداثة بلا جذور” إلى “آباء الحداثة العربيّة”.[3] والحاصل أنّ دوافع هذا البحث التراثيّ، له مسوّغات عديدة، منها أنّ “الحداثة الغربيّة”، انبنت في العمق على تراثها “اليونانيّ ‑ المسيحيّ”، وإذا كان الأمر كذلك، فلِمَ لا يكون البحث عن “الحداثة العربيّة”، استمدادًا، واستنباتًا، من تراثنا العربيّ، جريًا على الغرب، وحداثته.[4] ولا يُستبعد وفقًا لـ ‑عبد الجليل الكور‑ أن يكون هذا الاستمداد والاستحياء لتراثنا الكامن في عديد مفكريه، وفلاسفته أن يكون اجتهادًا وتمرينًا مُثمرًا ومفيدًا ليس فقط بإظهار المديات البعيدة للفكر العربيّ الإسلاميّ، وإنما أيضًا باستدراك ما فات الفكر الحداثيّ الغربيّ، بل وتعميق جوانب التناقض والخلاف فيه.[5]

في هذا الصدد، برزت محاولات عديدة يمكن الاصطلاح عليها بـ “تتريث الحداثة”، من أمثال: الرشديون الجدد؛ عاطف العراقي ومراد وهبة الخ واستدعائهم لـ (ابن رشد)، ومحمد أركون واستدعائه الثلاثيّ لـ (التوحيديّ، الجيلانيّ، مسكويه)، وكذا فعل أبو يعرب المرزوقي مع الثلاثيّ (ابن تيمية، الغزالي، ابن خلدون)، ومثلهم رشيد الخيون ومحمود إسماعيل واستدعائهما لـ (الإسماعيلية، إخوان الصفا، الخ)، وأدونيس وعلي حرب لـ (الغنوص الصوفي)، وغالي شكري مع (المعتزلة) ..الخ

تساؤلاتٌ منهجيّة في طبيعة الاستدعاء
تفرض هذه المحاولات الاستدعائيّة/الإحيائيّة مع الاختلاف البيّن بينها؛ تساؤلاتٍ منهجيّة عديدةٍ في طبيعة هذه الاستدعاء التراثيّ.

أولًا: هل يمكن لهذا الاستدعاء تحقيق كفايةً وظيفيّةً في تلبية مطامح الحداثة على ضوء التراث؟ يشير محمد الشيخ وعلي أومليل وغيرهما أنّ الوعي بحدود المفكرين، والسياق العام الذي نما فيه اجتهادهم، يجب أنْ يسبق الاستعادات الموهومة هنا وهناك، والتي قد تفصح عن عمل إيديولوجيّ أكثر من أيّ شيء آخر.[6]

ثانيًا: إلى أيّ مدى يمكن لهذا التراث المُستدعى التعبير عن الضمير الحيّ، والنابض لهذه الأمّة المرادِ تحديثها. يشير عبد الجليل الكور إلى أنّ الذي قد يتم في مثل هذه الحالة، استخراج كوامن التراث وفق “موجهات خفيّة”[7] تقوم باستدبار تراثٍ حيٍّ، وإحياء تراثٍ ميّت!

ثالثًا: بناءً على النقطة السابقة، هل يمثّل هذا الاستدعاء إيمانًا حقيقيًّا بقيم هذا التراث، أم المسألة لا تعدو عن كونها بحثًا عن إمضاءٍ يُوقّعه هذا التراث المستدعى؛ مصادقًا على واقع الحداثة، كما آل حالها في الغرب، من غير التفاتٍ إلى طبيعة المجتمعات المسلمة؟ وهنا السؤال عن قدرة هذه الاستدعاءات على تخليق “حداثةٍ إسلاميّةٍ” كما يقترح طه عبد الرحمن، أو “حداثةٍ بنائيةٍ” كما يقترح الكور في تعبيرٍ أدق من تعبير طه.[8] وهل المجتمعات العربيّة تمثل بدعًا من الأمم التي أنتجت “حداثة بنائيةً” من غير خصامٍ مع ميراثها العريق كما حصل الأمر مع النمور الآسيويّة واليابان والهند وغيرها من الدول المعروفة!

رابعًا: هل حقًا يُعبّر هذا التراث عن قيمٍ حداثيّةٍ كامنةٍ في تأويلات مفكريه، وفلاسفته، أم إنّ الأمر مجرد استيهاماتٍ وتخرّصاتٍ، نخلعها على التراث، بعد تأويله تأويلًا معتسفًا؛ يفصح عن واحدةٍ من اثنتين: إما سوء الفهم، أو الرغبة في إساءة الفهم!
هذه التساؤلات المنهجيّة الذي ألمحنا إليها في معرض مساءلة “تتريث الحداثة”، تحتاج إلى تفصيلٍ، وتمثيلٍ دونه الدراسة المُطوّلة، والبحث المنهجيّ، لكن حسبنا في هذه المقالة الموجزة؛ التمثيل على نقطةٍ واحدةٍ من هذه التساؤلات الأربع، من خلال طريقة تعامل محمد أركون المنهجيّة مع ثلاثة مفكرين، أسهب من إيراد أسمائهم في كتبه. واختبار التساؤل الرابع المتعلق بمدى صدقيّة تعبير هذا التراث عن هذه القيم الحداثيّة، من خلال استعراض طريقة تأويل محمد أركون المخاتلة لهؤلاء المفكرين.

محمد أركون والتمثيل الثلاثيّ
يحوي مشروع محمد أركون الفكريّ في جرابه العديد من المفردات التي سعى المفكر الجزائريّ إلى بلورتها، وإنضاجها، بداية من محاولة اكتشاف التيار الأنسنيّ الذي يتمحور حول الإنسان وهمومه ومشاكله، كما تجلّى بحسبه عند أبي
حيان التوحيدي، ومسكويه، وابن سينا، وأبو حسن العامريّ، وعبد القادر الجيلانيّ، وليس انتهاءً بغايته القصوى في إعادة قراءة العلوم الإسلاميّة على ضوء المناهج الإناسيّة، واللسانيّة، والسوسيولوجيّة، والتاريخيّة الحديثة.[9]

أركون وأبو حيان التوحيديّ
بحسب محمد أركون فإنّ كتاب التوحيدي “الإشارات الإلهيّة” يكشف عن “التوتر التثقيفي”[10] للعلاقة بين الإنسان والله. وموقف التوحيديّ هنا ‑بحسب أركون‑ يذكرنا بموقف “الفيلسوف المسيحيّ باسكال في القرن السابع عشر. فكلاهما ‑أي التوحيديّ وباسكال‑ يعتنقان نزعة إنسانيّة مشابهة في ظل العلاقة مع الله. فالله بحسب تصورهما ليس ذلك الذي {لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون} كما ورد في سورة الأنبياء من القرآن. إنه ليس العاهل المطلق الذي يقدم الشرع للإنسان مقابل تقديم هذا الأخير الطاعة الكاملة له. لا. إن الله الذي يتحدث عنه التوحيدي وباسكال هو ذلك المحاور الحر، الضروري، المولّد للدلالات والإشارات التي لا غنى عنها للعقل الباحث عن المعنى باستمرار، وبنوع من التوتّر القلق والخلّاق”.[11] وبحسب شارحه وتلميذه الأبرز فإنّ قصد أركون المتعلق بالتوحيديّ يتحدد في قطع الأخير مع “العلاقة الفوقيّة، علاقة الطرف الواحد، علاقة السيد والعبد، أو الحاكم المطلق والرعيّة أو بين الأب والابن”.[12]

إذًا بحسب أركون فإنّ أبو حيان قصد توسيع دائرة العلاقة بين الله والإنسان التي تقوم على الحدّية التراتبيّة والتي تأتي على صورة (الله= سيد، رب/ الإنسان= طائع، عبد). لينقلها أبو حيان إلى قيم أرحب غير قائمةٍ على قيمة العبوديّة ضرورة، عبر ما سمّاه أركون بـ “التوتّر التثقيفيّ”. مساهمًا في ذلك بما بات يُعرف بـ “تأنيس/أنسنة الإله”. وهنا لا يعود الله ذاك الذي {لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون}!
بدايةً فإنّ حديث أركون عن علاقة حواريّة بين الله والعبد يمكن تأصيلها قرآنيّا؛ فالحرية أو الإرادة، رفقة العقل، هي مناط التكليف. أما استدعاء مثنويّة السيد والعبد الهيجليّة وسحبها على هذه العلاقة فلا يصحّ، ذلك أنها تقوم على فهم مؤدّاه أن الحيوان يتغذّى على الأشياء بينما يتغذّى الإنسان على رغبات الاخرين، ومن هنا مخاطرة السيد بحياته أحيانًا كي يظفر باعتراف الآخرين، باختلاف العبد الذي يؤثر أن يمنح الاعتراف لقاء الإبقاء على حياته بحدّها الحيوانيّ. وهكذا يغدو الجدل الهيجلي إنسانيًّا، وتاريخيًّا بخلاف الشأن الإلهي، المتنزه في عليائه.

ومن الغريب في استحضار أركون لكتاب الإشارات الإلهيّة، هو عدم إيراده أيّ نصٍ من نصوص الكتاب الذي حققه أستاذ الفلسفة عبد الرحمن بدوي، وصدر في القاهرة في خمسينيات القرن الماضي، وأعادت تحقيقه الأستاذة اللبنانيّة‑الأمريكيّة وداد القاضي في سبعينيات القرن الماضي في بيروت.[13]
أركون الذي قدّم نفسه عبر أكثر من أربعين عامًا بوصفه “مؤرخ أفكار” متوسلًا بـ”ترسانة مفاهيميّة” تعج بالأسماء، والعلوم، والمناهج، والأدوات، جعلت الحاجة إلى معجم المفاهيم الأركونيّة[14] أمرًا ضروريًّا؛ يتغافل عن نقل نصٍ واحدٍ يؤيد دعواه في تصوير “التوتّر القلق والخلّاق”[15] لعلاقة أبي حيان التوحيدي مع الله في الإشارات الإلهية. خصوصًا إذا عرفنا مركزيّة حضور التوحيديّ في نص محمد أركون، الذي ينعته بـ “أخي، وأبي… الذي لو حرقت معه لن أعترض”[16] والذي تكرر حضوره في غير واحدٍ من كتبه، خصوصًا في نصوصه عن الإنسيّة العربيّة. رسالته في الدكتوراه التي تضمّنت حديثًا مسهبًا عن التوحيديّ: “النزعة الإنسية في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي” وكتابيه “الأنسنة والإسلام” و”معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية”.[17]

وعلى أيّة حال من قرأ الكتاب ‑أي كتاب التوحيدي‑ عرف أنّ كلام أركون عنه لا يجاوز التخليط والتخرّص. إذ الكتاب تعبيرٌ بليغٌ عن:
1- محنة التوحيديّ وتقلّبه في شقوته، وكفره بالبشر من أهل زمانه، بعد انقلاب الأصحاب، وذهاب الأحباب.[18]
2- التنسّك الصوفيّ الذي لازمه التوحيديّ في آخر حياته، واقترابه من أحوال المتصوفة، من خلال مناجاته، وأشواقه الروحيّة، والتي تباينت بين “الإشارات الإلهيّة” المتعلقة بكرم الله، وفضله، و”الأنفاس الروحانيّة” المتعلقة بسعي الإنسان، ومجاهداته.

ومنذ أوّل رسالةٍ بثّ فيها التوحيديُّ شجنه، إلى آخر كلمة في الكتاب نقف على رجلٍ عارفٍ بالله، فانٍ في خدمته، ساعٍ للقبول، والدخول في الرضا الإلهيّ. وهذا ما يلخصه بدعائه: “اللهم اكفنا مؤنة قولٍ لا تراد به، وغائلة معنى لا تصح فيه، وغبَّ أمرٍ لا تكون عنده. اللهم اصرف عنّا الشيطان وتغويله، والهوى وتسويله، والباطل وتعليله، وأرنا منك الحقّ لنتوخاه بتوفيقك ولطفك اللذين هما تمام كل شيء وبهجة كل شيء”.[19] [20]
ولا تتوقف مراوغات أركون عن التوحيديّ على كتاب الإشارات الإلهيّة، بل تنسحب على كتابٍ آخر لم يصلنا منه ‑حتّى الآن‑ سوى عنوانه. والحديث هنا عن كتاب/رسالة: “الحج العقليّ إذا ضاق الفضا عن الحج الشرعيّ”.[21] يُعلق أركون على عنوان الكتاب فيقول: “عنوان هائل لا يكاد يُصدّق وبعد الاطلاع عليه [أي على العنوان] لا نستغرب لماذا اتهموه بالزندقة. ففي رأيه أن المسلم إذا لم يكن يمتلك المقدرة المادية على أداء الحجّ بإمكانه أن يحج وهو في بيته. كيف؟ عن طريق الروح والفكر والعقل”.[22] ويعلل أركون ضياع الكتاب بـ “موقف الفقهاء والأرثوذكسية الإسلامية [الذين] اعتبروا ذلك بمثابة الهرطقة المطلقة”.[23] في حين يرى أركون أنّ الكتاب يعبر عن “الغنى الفكري والروحي لرجل فهم باطن النص المقدّس ’ القرآن’ “.[24]
وعلى الرغم من فقر المراجع التراثيّة في الحديث عن هذا الكتاب، إلّا أنّ أركون يجعله نصًّا عظيمًا. وإذا كُنّا لا نأتمنه على نصٍ موجودٍ بيننا، فمن باب أولى ألّا نأتمنه على نصٍّ غائبٍ عنّا. يقول فهمي جدعان ناقدًا محمد أركون في إحدى مقالاته: “… هي رسالةٌ تجمّل محمد أركون برسمها في بعض المراوغات والأحابيل التي جرى عليها، وذهب به تمييزه المكرور بين “الموتوس” و”اللوغوس” إلى أن جعل من “الحج العقلي” “حدثاً قرآنياً”، ومن “الحج الشرعي” “حدثاً إسلامياً”! وذلك في غيابٍ تامٍّ عن مضمون الرسالة وعن فلسفة التوحيدي”.[25]

وعلى ذلك نورد بعض الملاحظات حول هذه الرسالة؛ أولاها: إنّ فكرة الرسالة لها مصاديق كثيرة عند المتصوفّة. والتفريق بين حجّ الشريعة، وحجّ الحقيقة معروفٌ عند القوم.[26] ومرّده إلى أمرين: 1- اهتمام المتصوفة بالحقائق الروحيّة، والمقاصد والغايات والمعاني الخفية والدقيقة في العبادات، ولا يعني انشغالهم بهذه المعاني الروحيّة تجاوزهم للمعاني الفقهية والشرعية. وعلى ما وصلنا من سيرة التوحيديّ، فإنّه حجّ ماشيًا على رجليه مع جماعة من النُسّاك في منتصف القرن الرابع الهجريّ، مع “جماعة من إخوانه الصوفية سنة 354هـ”[27]! لأجل ذلك لا يجيز المتصوفة الطريق لمن كان ضعيف الفقه أو خفيف الديانة، ومحاولات الوصل، ونفي التعارض بين الفقه والتصوف تمثل جوهر المشروع الفكرّي للعديد من المتصوفة كالإمام أحمد الرفاعي، والغزالي، وزرّوق وغيرهم.[28] وحاصل الفكرة عندهم أنّ للحج مقاصد وغايات من لم يبلغها فلا حج له على التحقيق، وهم بذلك يأخذون فكرة المعنى إلى أقصاها، لأن المقصد في النهاية من الحج تزكية النفس، وترقّيها ولذلك قيل:
إذَا حَجَجْت بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتٌ ** فَمَا حَجَجْت وَلَكِنْ حَجَّتْ الْعِيرُ”.

وهذا ما يوضحه الأثر المرويّ عن أبي يزيد البسطامي في طريقه إلى الحج، حيث أوقفه أحدهم وقال له: إنّ الذي ذهبت تطلبه يا ابن طيفور، تركته في بسطام !وقالوا: “… ربّ واقف بعرفة وما عرفه” إلى غير ذلك من الأقوال التي ملخصها: عرفة عند الفقهاء “مكان” وعند العارفين “مكانة”.[29]
2- صعوبة ومشقة وجلبة الوصول إلى الحج، والذي من أبسط كُلفه إتلاف المهج قبل الوصول (قطّاع طرق، نهب، ضواري، وسيول، والحر الشديد ونقص الماء… الخ)، فالبلايا والبلاقع
التي تنتظرهم في المسير كثيراً ما كانت تزجرهم عن السعي والتلبية، فاستعاضوا عن الحج الحقيقي بالحج الروحي كتسلية لهم عن عجزهم في الوصول وبلغة المراد. وهذا الأمر من الأسباب التي جعلت علماء كبارًا يمتنعون عن زيارة الحجّ كابن حزم والقاضي عياض، الذي يقول في ذلك:
“لَوْلا العَوَادِي وَالأَعَادِي زُرْتُهَا** أَبَدًا وَلَوْ سَحْبًا عَلَى الوَجَنَاتِ”.
اتهام التوحيديّ بالزندقة، لم يكن سوى عند بعض المؤرخين، والفقهاء، كما أشار محمد كرد عليّ، كابن الجوزي وغيره، في حين نجد البعض الآخر من الفقهاء والمؤرخين، لا يوافقون على مقولة ابن الجوزيّ، كالإمام السبكيّ، وابن النجار، والنووي، الذي نعته بصاحبنا؛ أي مشاركًا لنا في الفقه. وأسباب هذه الزندقة راجع إلى نقده إلى أهل الرياسة، والفقه، والكلام، والحديث في زمانه، خصوصًا أهل الرياسة الذين أذاعوا خبر زندقته، بعد نقده إياهم في كتابه “مثالب الوزيرين”؛ الصاحب بن عبّاد وابن المعتمد![30]

أركون مع الجيلاني ومسكويه
بإزاء ما قام به أركون في تعامله مع التوحيديّ الذي ينطبق عليه ما يسميه بول ريكور بـ”القصد في إساءة الفهم”، نجده في حالة الجيلاني يطبق الأمر ذاته. في الأولى على طريقة “تأويل المتمحلين”، وفي الثانية على طريقة “تحريف المزيّفين”. حيث يقوم بتحريف واضح وصريح لنّصٍ شهيرٍ مأثورٍ عن الجيلاني يقول فيه ‑بحسب ما نقله ابن تيمية، وابن القيم عنه‑ : “كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه رَوْزَنة ‑فتحة‑ فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعًا للقدر لا من يكون مُمسكاً”.[31]

مع محمد أركون تمّ اختزال النص، وحذف دلالة القدر منه، لتصير العبارة: “نازعت الحق بالحق للحق”[32] في محاولة لتأطيره على اعتباره نزعة إنسانية في التراث، حيث “العقل ينازع العقل بالعقل لإفادة العقل”.[33] يقول أركون: “… وأنا أقلد حرفيًا عبارة جميلة ذات بُعد أنطلوجي للحكيم المسلم عبد القادر [الجيلاني] الذي يقول: نازعت الحق بالحق للحق”[34] وهكذا تحول الفضاء الدلالي للنص من حديث عن فلسفة القدر إلى حديث عن إنسيّة تراثيّة. والحال، عند أركون ومن سار في ركابه، العمل على أنسنة وأرخنة كل شيء ما خلا العقل الحداثي الذي يرسّمونه ثابتًا بنيويّا مباينًا للتاريخ وإن زعموا خلاف ذلك بدعوى أن العقل الحداثي يرفده عقل نقدي ‑العقل ينازع العقل بالعقل لإفادة العقل‑ يحرّره من الآثار الميتافيزيقية ويبقيه في سياق زمني. وتغدو الغاية توحيد البشر على العقل الحداثي لا القول بوحدة البشر.

وما قام به مع التوحيديّ، والجيلانيّ، تابعه مع ابن مسكويه، الذي جعل مشروعه، مشروعًا تأسيسيًّا إنسانيًّا على الضد من المشروع النبويّ/الإلهيّ، وذلك من خلال استلهام ابن مسكويه للتراث الإغريقيّ! يقول أركون: “سعى إلى عرض الطريق الإغريقيّ نحو وحدة البشر، أي إلى استبدال الالتزام الجماعيّ لمجموعة مكلفة من طرف نبي أو خليفته بالالتزام الفرديّ للإنسان العاقل”[35] خصوصًا في كتابه الحكمة الخالدة.[36] غير أنّ قراءة واعيّة لنصوص ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق وحواريته مع التوحيديّ، تبعدنا عن الإسقاطات الإيديولوجيّة عند محمد أركون.[37]

أين المشكلة؟
بعد هذا العرض، نحسب أنّ هذه الاستدعاءات الأركونيّة لتراثنا العربيّ تنبئ عن مشكلتين؛ الأولى في التطبيق والأخرى في المنهج. وبالحديث عن مشكلة التطبيق، نجد في الاستدعاء الأركونيّ لبعض نصوص المتصوّفة، للمصادقة على النزعة الإنسيّة مدخلًا للحداثة، يتعارض مع فكرة الحداثة أو النهوض، ليس فقط من جهة افتراق لغة التوحيديّ، وابن مسكويه، والجيلانيّ عن لغة أركون الحداثية، وافتراق لغة أركون عن لغتهم التراثيّة، وإنّما وهن المنطق الصوفيّ وقدرته على تحريك المسلم، وتشغيل فاعليته الحضاريّة، وهذه الفكرة جعلت العديد من المفكرين والفلاسفة يتخذون موقفًا من التصوف بناءً على عدم قدرته على بعث فاعليّة البشر، لاشتغاله ببناء ذاته، لا العالم، خصوصًا وأنّ قلّةً من المتصوفة يعودون من لحظات الفناء والذهول، إلى البقاء والوعي. وهذه الملاحظة تتكرر بداية من ملاحظات ابن رشد العمرانيّة في نقده المتصوفةَ، وليس انتهاءً بآراء محمد إقبال المتأخرة التي صاغها شعرًا، ونثرًا في أعماله.
وشاهد ذلك ما نراه اليوم، من الاستثمار السياسيّ للصوفيّة الذي يهدف لتحويل المجتمعات الى أجسادٍ طيّعة بالتعبير الفوكوي، تنقاد لرغائب الطبقة الفاسدة، والمستبدة في عالمنا العربيّ، بعد تدجينها، وقبولها بقوى الوضع القائم، والرضا بالواقع الرديء. وهو عين ما سمّاه محمد إقبال ذات مرّة “الانتحار بالسُبحة”!

وأمّا بخصوص المشكلة المنهجيّة، يتأكد لنا تشكيك بعض المفكرين[38] في حقيقة استيعاب أركون أدواته ومناهجه وتقنياته البحثيّة التي يوردها في كتبه. وفيما يبدو أنّ حديثه الدؤوب عنها وزعمه تطبيقها في كتبه لا يعدو عن كونه “سرد ويكيبيديّ” لهذه الأدوات والتقنيات والمفاهيم التي تتصل بعشرات المناهج بداية من الحوليّات الفرنسيّة: بروديل وغولوف، وليس انتهاءً بعلم النفس التحليليّ: فرويد ولاكان.


وختامًا يقول المفكر المغربيّ عبد المجيد الصغير في تقييمه لإنتاج محمد أركون: “إن أعمال أركون لم تستطع التخلص من التبشيرية والاستشراقية القديمة، بل إنه قد أضاف إلى تلك الطروح أسلوبًا استفزازيًا مليئًا بالقدح والتجريح والقذف. ما ينم عن العجز عن تقديم البديل مع الركون إلى التكرار و“التبشير” بالعلوم الإنسانية والقراءة الحداثية بعيدًا عن ضوابط القراءة مع الغفلة عن الخصوصيات التاريخية والفكرية. ما يجعل كل أعمال أركون عن الفكر الإسلامي نموذجًا ممتازًا للفكر الإسقاطي البعيد عن الضوابط المنهجية المراعاة في العلوم الإنسانية عامة، وبخاصة إذا أدركنا طغيان النزعة النسبية لديه، والتي تكرسها الرؤية العلمانية التبسيطية للأديان”.[39]

المراجع:

[1] محي الدين اللاذقاني، آباء الحداثة العربية، دار جداول، بيروت، 1998، المقدمة.

[2] أمينة الغصن، حداثة بلا جذور، دار الفارابي، بيروت، 2004، المقدمة.

[3] الإشارة هنا إلى الكتابين السابقين، كتاب الغصن، واللاذقانيّ.

[4] كما يقترح اللاذقانيّ في مؤلفه آنف الذكر.

[5] عبد الجليل الكور، الإسلام يسائل الحداثة، دار عالم الكتب الحديث، إربد، ص12.

[6] ينظر:
*
علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011.
* محمد الشيخ، رهانات الحداثة، دار الهادي، بيروت، 2007

[7] الكور، مرجع سابق، ص13.

[8]– المرجع نفسه.

[9] ينظر:
* كيحل مصطفى، الأنـسنة والتأويل في فكر محمد أركون، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2011.

[10] أركون، النزعة الإنسية في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي، دار الساقي، بيروت، 1998، ص18-19.

[11] المرجع نفسه.

[12] المرجع نفسه.

[13] مؤخّرًا صدرت طبعة جديدة عن دار آفاق، القاهرة لكتاب “الإشارات الإلهية” لأبي حيان التوحيدي، من تحقيق خميس حسن، وعليها نعتمد في الإحالة هنا، لاستدراكها بعض أخطاء بدوي، والقاضي في إخراج الكتاب.

[14] الإشارة هنا إلى كتاب:

* محمد مستقيم، مفاهيم أركونيّة: المشروع النقدي للعقل الإسلامي، محاكاة والشركة الجزائرية السورية للنشر والتوزيع، 2013.

-[15] أركون، النزعة الإنسية، المرجع نفسه، ص18-19.

[16] محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، دار الساقي، بيروت، ط6، 2012، ص248.

[17] ثيمة النزعة الإنسيّة أهم موضوع فكري، وبحثيّ اشتغل على إنضاجه محمد أركون في أعماله. يُنظر كتاب كحيل مصطفى آنف الذكر.

[18] الإشارات الإلهيّة، خميس حسن، دار آفاق، القاهرة، 2017، نصّ الغريب (الرسالة الثانية عشر).

[19] الإشارات الإلهيّة، خميس حسن، دار آفاق، القاهرة، 2017، ص101.

[20] توضيح الطبيعة العرفانيّة، واللغة الصوفيّة في نص الكتاب ممّا لا يتسع له المقام، ونكتفي بالإحالة هنا على بعض النصوص الأثيرة في الكتاب: (الرسالة 1،5- 8،10، 15، 22، 29، 40، 53.. الخ) وللمزيد:
* محمد المسعودي، اشتعال الذات: سمات التصوير الصوفي في “كتاب الإشارات الإلهية”، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2007.
* أيمن أبو زيد، عبقرية النثر العربي: دراسة لغوية تحليلية في كتاب الإشارات الإلهية في ضوء علم اللغة الحديث، العلم والإيمان للنشر والتوزيع، مصر، 2008
.

[21] يتحدث البعض عن وجود نسخٍ مخطوطةٍ منها في الجامعات الأوربيّة، وقد علمت عن شخصين شرعا في تحقيقها، كلٌّ لوحده: عبد الرحمن الحلو، وهو لبنانيّ، ومحمد الخطيب، وهو سوريّ. وقد تواصلت معهما، لكنّ أيًّا منهما لم يُجب.

[22] محمد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، دار الساقي، 2011، المقدمة.

[23] محمد أركون، الفكر الإسلامي..، مرجع سابق، ص247

[24] المرجع نفسه.

[25] فهمي جدعان، في ظلال التوحيدي وعقابيل الفريضة الخامسة، العربي الجديد، 2019.

[26] دساتير إلهيّة: رسائل محمد بن سليمان المستغانمي الصوفيّ، ت: بومدين بوزيد، دار الكتب العلميّة، 2007، ص157.

[27] أحمد عبد الهادي، أبو حيان التوحيدي: فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، دار الثقافة للنشر، مصر، 1997، ص130.

[28] ينظر:
*الأخضر القويدريّ، الفكر التربويّ الصوفيّ، دار نينوى، سوريا، 2010، فصل: أحمد الرفاعيّ.

[29] ينظر:
*علي محمد أبو الحسن، لبيك ربّي، دار الهداة، جدة، 2007.

[30] للمزيد حول دعوى زندقة التوحيديّ:
* نادية تيحال، تهمة الزندقة عند أبي حيان التوحيدي، مجلة الأثر، الجزائر، 2007.

[31] أضواء على الشيخ عبد القادر الجيلاني وانتشار طريقته، عبد الباقي مفتاح، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2014، ص6.

[32] حوار مع محمد أركون، مجلة العربيّ، الكويت، عدد: 550، سبتمبر 2004.

[33]المرجع نفسه.

[34] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، دار الساقي، 1998، ص293.

[35] هذه ترجمةٌ لمقطعٍ بسيطٍ من كتاب النزعة الإنسيّة في الفكر العربيّ، قام بترجمتها المغربيّ بنسالم حمّيش، وضمّنها نقده لمحمد أركون في كتابه “في الإسلام الثقافيّ”. ينظر:
* بنسالم حمّيش، في الإسلام الثقافيّ، الدار المصريّة اللبنانيّة، 2016، ص259-268.

[36] ينظر:
* محمد أركون، النزعة الإنسيّة…، مرجع سابق، ص266 وما بعدها.

[37] ينظر كتاب حمّيش آنف الذكر.

[38] التشكيك بقدرة أركون على ضبط، ومعرفة هذه العلوم، والأدوات، من الملاحظات التي أثارها نُقّاد أركون، مثل بنسالم حمّيش، وعبد المجيد الصغيّر وغيرهما.

[39] من تقديمه لكتاب الحسن العباقي: القرآن الكريم والقراءة الحداثية: دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون، دار صفحات، سوريا، 2009.