مدخل الإيمان بين العقل والتجربة الدينية

324

من الثوابت الوجودية في الاجتماع البشري منذ عصر الكهوف إلى عصرنا هذا أنّ النقاشَ حول الدين إثباتاً أو إنكاراً نقاشٌ حاضر في كل زمن، وأنّ أقلام الفلاسفة وعقول المفكرين وأرواح المتصوفين ما زالت منذ فجر التاريخ تبرهن لنا أنّ الدين ظاهرة بشرية شديدة العمق في حياة الإنسان وشديدة الغموض أيضاً، وأنّ أسئلة الثقافة بعكس أسئلة الحضارة كما يرى بيجوفيتش، فأسئلة الثقافة تعود دوماً إلى الوراء بحثًاً عن الإله لتروي حاجة نفسية وروحية في حياة الإنسان، وأسئلة الحضارة تسير غالبًا إلى الأمام لتروي حاجة عملية وخدَمية في حياة البشر.

إنّ كثرة الكلام في الدين بل ربما التضخم الحاصل في الكلام من جانب العلماء والدعاة أو من جانب المؤسسات الدينية الرسمية؛ يطرح علينا سؤالاً مهماً: هل الإيمان مما يُتصوّر ويُدرك ذهنياً وفكرياً وكلامياً أو مما يتذوق ويعاش حياتياً؟ بمعنى آخر هل التحولات الفكرية والذهنية تؤدي بالضرورة إلى تحولات دينية حقيقية في حياة الإنسان؟

وهذا السؤال ليس القصد منه التفكير ضمن ثنائيات مأزومة كثنائية العقل والقلب، ولكن القصد منه إدراك مفارقة هامّة تبيِّنُ جهدَ المتكلمين في العقيدة الذين أرادوا تحصين الإيمان من الشبه والاعتراضات، وتبيِّنُ أسلوبَ القرآن ومنهجه في بناء العقيدة.

هذه المفارقة وضّحها الفيلسوف الشاعر محمد إقبال في كتابه “تجديد التفكير الديني” في نقده لمنهج المتكلمين واعتمادهم على النظر المجرّد فقط في بناء العقيدة، فقال إنّ القرآن يقوم على مصادر أخرى غير التفكير النظريّ المجرّد الذي كثيرًا ما يُقصي المحسوس، فهو يقوم على مصدرين مهمّين أيضًا هما: الدعوة إلى التأمل في آيات الطبيعة وفي آيات التاريخ، وهذا ما يميّزٌ أسلوب القرآن -بنظر إقبال- في بناء الحجة والعقيدة عن أسلوب الفلسفة اليونانية المجرّدة، فالإنسان في تأمله وتفكّره يرى آيات تدلّ على الله تعالى في “الشمس” و”القمر” و “امتداد الظلّ” و “اختلاف الليل والنهار” و”اختلاف الألسنة والألوان” و “تداول الأيام بين الناس”، ويرى الآيات في ذاته ونفسه “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”، أي يصبح وجود الله تعالى أمرًا نكتشفه بأنفسنا وفي أنفسنا لا أمام أنفسنا فقط، وبذلك يعيش الإنسان تجربته الإيمانية الذاتية التي تعني حضوره مع الله وتحسّس هذا الحضور وتذوقه روحيًا.

قد يبدو المشهد تعارضاً بين العقل والقلب في بناء الإيمان وقد يبدو لنا للحظة الأولى أنّ المدخل العقلي مدخل يُضعف الإيمان لأنّه يجعل الإنسان يفكر بعقل غيره وبحجج أرسطية جاهزة وجافة، وقد يبدو لنا أنّ مدخل التجربة الإيمانية وإدراك حضور الله تعالى من خلال الذات أنه الأرسخ والأوفق لأسلوب القرآن!

لكنْ ليس هذا ما أراده إقبال بالضبط، فليس الغرض التفكير ضمن ثنائيات كما ذكرت، ولكن هو التفكير ضمن مقامات ومستويات، وحتى نفهم ما يستشكله إقبال على المتكلمين بصورة دقيقة لا بدّ من دراسة مسألة فلسفية كبيرة وهي ما مفهوم العقل؟ وما حدوده؟ وهل العقل جوهر كما هو عند كثير من الفلاسفة من أرسطو إلى كانط؟ أو هو فعالية تشمل القلب وتتكئ عليه كما هو عند -طه عبد الرحمن- فيكون العقل بالنسبة للذات كالبصر بالنسبة للعين؟ هذا يحتاج إلى تفصيل طويل ومقال خاص، لكن من أجل الاختصار يمكننا فهم كلام إقبال من خلال استحضار مقامين اثنين من مقامات التعامل مع الإيمان والتعامل مع اكتشاف وجود الله تعالى في الذات أو أمام الذات: المقام الأول: هو مقام الإثبات وهو مقام يوظَّف فيه العقل من أجل إيصال حقيقة وجود الله والدلالة عليها، والمقام الثاني: هو مقام الثبوت وهو مقام ينطلق من القلب والشهود والذوق في إدراك وجود الله وتحسس عظمته في النفس والكون.

بمعنى آخر يمكننا أن نفهم بناء الإيمان على شكل مستويين متداخلين: المستوى الأول هو مستوى الأفكار والذهنيات الدينية أي (العقائد) وهذه مدخلها العقل، فالعقل حاضر بلا شك في بناء الإيمان، والمستوى الثاني هو مستوى التجربة الدينية التي تعني مثول الإنسان أمام الذات الإلهية واستشعار حضورها في ذاته من خلال التأمل والنظر في النفس والكون وهذه مدخلها الشهود والذوق والقلب، وهذا المستوى هو ما يعطي عمقاً حقيقياً للإيمان في النفس، وتشير نتائجه إلى أنه المستوى المسؤول عن كيفية تشكيل أعمال الإنسان وعن الشعائر التي يؤديها.

وإن التعامل مع كل مستوى على أنه بنية منفصلة أو العمل على إقصاء المستوى الثاني أي مستوى التجربة مشكلة كبيرة نعيش اليوم وطأتها، وهذا ما قصده إقبال في نقده للمتكلمين، إنّ طرفَي كلّ علاقة عادة هما الذات والموضوع، والتصنيفات الناتجة من الخلافات الذهنية بين الأشاعرة والماتريدية والسلفية والمعتزلة لاستحواذ لقب أهل السنة أو لقب الفرقة الناجية تصنيفات بعيدة كل البعد عن الذات وعن التجربة الإيمانية التي هي منهج القرآن في بناء العقيدة، بل لعلها بعيدة كل البعد عن إرواء حاجة الإنسان الروحية والنفسية، لأنها لا تؤسس الإيمان في النفوس بقدر ما تؤسس لمقولات إيمانية جافة ولتصنيفات عقدية.

تؤكد التجربة الإيمانية أنها توجّه نحو أعماق الذات لتوطيد الإيمان فيها وأنها هجرة نحو النفس لفهمها واكتشافها ثم تجاوزها نحو الإله الخالق، وتؤكد أيضا أنّ التحولات الظاهرية الفكرية والاجتماعية والسياسية لا تؤدي بالضرورة إلى تحولات باطنية أو إلى إحياء ديني في نفوس الناس، لذلك نحن بحاجة إلى جانب هذه التغييرات الظاهرية أن ندرك تركيبة الإيمان الغامضة، وأنّ موقع الذات منها لا يمكن تهميشه لحسابات المجتمع والموضوع، وأنّ وعي الإنسان بالمجتمع والعالم يبدأ من وعيه بذاته واستبصار العالم بنفسه، وهذا ما فعله الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه “إحياء علوم الدين” الذي استصحب به الجهد نحو علاج النفس وأمراضها والتأمل فيها مع استصحابه لمستوى العقائد والشعائر والأعمال، وكأنه يقول لنا هذه دوائر متصلة ببعضها، وليست بنى منفصلة، واتصالها هو الإحياء الحقيقي للدين.

إنّ التعامل مع الذات الإنسانية في هذا الزمن الحديث على أنها هامش للعالم الخارجي، أو بعبارة “المسيري” تشييء الإنسان أي التعامل معه على أنه شيء أو على أنه آلة تخلو من صراعات ذاتية وتخلو من المعاناة هو ما يجعل الإنسان الحديث يبحث عن موقع ذاته من هذا العالم وعن تلبية حاجتها النفسية والروحية، وإنّ القلق الوجودي للإنسان يزداد مع ازدياد التغول البشري وبالتالي ازدياد حاجته للأمان النفسي، وإن بحث الإنسان عن الانتماء للمعنى يزداد في محيط العزلة واللامعنى، وإنّ إحساسنا بفشل الأحلام الصغيرة في عالمنا يستدعي إيماناً بالأحلام الكبيرة، وهنا تبزغ شمس التجارب الإيمانية المتنوعة والمختلفة، كتجربة البلاء والألم، وتجربة الحب والأمل، وتجربة الانجذاب والهيبة.. وهذا ما يستدعي من باحثي العقيدة والإيمان التعاطي مع هذه التجارب على أنها أسئلة الحاضر الملحة للإنسان.

يمكننا أن نقول لولا التجربة الدينية لكانت الشعائر من صلاة وصيام وحج أعرافاً وعادات اجتماعية، ولولاها لتحول وجود الله إلى مقولة فلسفية ومنطقية لا روح فيها ولا شعور، ولولاها لظلت حاجة الإنسان إلى ما يروي ظمأه الوجودي والروحي حاجة ناقصة غير مروية.