مـفـهــوم الــحــــرام ومكونات الاجتماع الإنساني

115

{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35].

بهذا الخطاب من الله سبحانه وتعالى ابتدأت رحلة الإنسان لتحقيق ما أراد الله من هذا المخلوق المتميز. وأراد الله سبحانه أن تكون البداية في الجنة حتى يبدأ الإنسان مهمته على الأرض وقد تزود بما يلزمه من خبرات ودروس تعينه على أداء مهمته والاستقامة على متطلباتها. لقد علم الله سبحانه وتعالى أن هذا المخلوق لا يستطيع إنجاز مهمته في الدنيا إلا إذا تحلى بالقدرة على ضبط النفس وكبح جماح رعوناتها وشهواتها، فبدأ سبحانه بالمهم من الدروس والخبرات والاستعدادات. وكان مفهوم الحرام أو المحظور الممنوع هو البداية، وكان تجاوز الحرام الممنوع ومخالفته هو الأمر الذي تجلت فيه غواية الشيطان وعداوته.

وقد اكتشف العاملون في التربية وعلم النفس أن الإنسان عندما يتحرك دون ضوابط وحدود لمجال حركته يصيبه التمزق والتوتر ويتورط في نشاطات مدمرة مؤذية لنفسه وللناس من حوله. فمعرفة حدود الحركة الآمنة تعطي الاستقرار والطمأنينة، وضياع الحدود أو غياب علامات مجال الحركة الآمنة هو أصل كل ظلم وعدوان وفساد. فعندما يسير الإنسان راكباً عربته في طريق ليس فيه علامات السير أو تخطيط مسارات المرور وحدود أو جوانب الطريق، يصاب بالفزع الذعر وتراه مضطرباً وغير قادر على قيادة عربته بسهولة ويسر وخاصة عندما يحلّ الظلام ويصادف من يسير بالاتجاه المعاكس. إنه المثال الواقعي الذي يمثّل إحساس من فَقَد معنى الحدود وفَقَد معنى الحرام أو الممنوع في حياته فهو أبداً في محاولة لتجريب كل ما يُزيّنه له الشيطان من أوهام النشّوة واللّذة والمتاع ليصطدم بفطرته ويختل ميزان حياته بعيداً عن الحياة الطيّبة المستقرة.

ونظراً لأهمية مفهوم الحرام أو الممنوع في تربية الإنسان وانضباط سلوكه واستقامة حياته، فلا بدّ من معرفة ما قد يحيط بهذا المفهوم من مبالغات أو أخطاء.

وأول ما تَجِب معرفته أنّ الله سبحانه وتعالى هو صاحب الخلق والأمر وأن توحيد الله تعالى يقتضي تفرده سبحانه بالحاكمية والتحليل والتحريم. وليس لأحدٍ غير الله أن يدّعي حقّ التشريع والتحليل والتحريم وتقرير القيم والموازين، إلا ما كان من قبيل السياسة العامة لإقرار السلم الأهلي ومراعاة السلامة العامة كقوانين السير والمرور وترتيبات نظام البناء والمرافق والخدمات العامة. فادّعاء حقّ التشريع هو الشرك وهو العدوان على توحيد الله تعالى وتفرده بالألوهية.

وكذلك لا بدّ للمرء أن يعلم أنّ الله تعالى لا يأمر وينهى بشكلٍ اعتباطي، فالله سبحانه منّزهٌ عن العبث فلا يأمر إلا لحكمةٍ ولا يَنهى إلا لمصلحة تتعلّق بالإنسان واستقامة حياته في الدنيا. فالله سبحانه لم يحرّم ولم يمنع الإنسان إلا من كل ما يؤذيه أو يعود بالنقص والاضطراب على حياته. فأصل المحرمات والممنوعات هو كل ما يخالف الفطرة ويناقض الحياة الطيبة المستقرة. وقد وصف الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما هو من خصائص الشريعة الخاتمة {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فالحرام الممنوع هو كل ضارٍ مؤذٍ خبيث مستقذر وكل ما خالف الفطرة وينفر منه الطبع السليم. ويمكن تفصيل هذه القاعدة بقولنا إنّ الله سبحانه حرّم كلّ ما يعود بالنقص والخلل على أحد عناصر ومكونات الاجتماع الإنساني والمتمثلة في الرؤية الكونية (الدين) والحياة ونظام الأسرة والنشاط الفكري والعقلي والثروات والأموال.

فالتوحيد لله سبحانه وتعالى والإيمان به متفرداً بالخلق والأمر لا يشاركه أحد في فعل أو تأثير أو تدبير، ولا يملك غيره تقرير القيم أو التشريع، يمثّل الحقيقة الكونية الكبرى التي بلغتها الرسل ودلّ عليها كلّ ما في الكون. ولهذا كان الشرك بالله هو الممنوع المؤكد والخطيئة الكبرى لأنه يمثّل الجهل بالله والتطاول والعدوان على مقتضيات تفرّده بالألوهية سبحانه وتعالى.

وكذلك فقد خلق الله سبحانه الحياة وكلف الإنسان أن يرعاها ويزكيها ويمنع عنها كل ما يدخل عليها التلف أو النقص والخلل. ولهذا حرّم الله سبحانه القتل والفساد في الأرض والعدوان على متطلبات الحياة المستقرة من كرامة وغذاء ولباس ومسكن وأمن وخدمات.

وكذلك خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من ذكر وأنثى وجعل استمرار الحياة واستقرارها في مجتمعات مترابطة متعلقاً بنظام الأسرة. ولهذا حرّم الله سبحانه كل التصرفات التي تشكّل عدواناً على مؤسسة الأسرة من الزنا ومقدماته وكل ما يَصرف الناس عن الزواج من بدائل شيطانية لقضاء الشهوة بعيداً عن مسؤوليات تقوية الروابط الاجتماعية والإنجاب ومعاناة التنشئة والتربية.

وكذلك زوّد الله سبحانه وتعالى الإنسان بالقدرات الفكرية والعقلية ليتمكن من استثمارها في معرفة خالقه وتفهم هدايته، وليتمكن كذلك من اكتشاف قوانين وسنن الكون فيُسخر موجوداته وطاقاته لتزكية الحياة. ولهذا حرّم الله سبحانه كلّ ما يدخل الخلل على وظيفة العقل وقانون السببية فيه، فحرّم المسكرات والمخدرات وحرّم الكذب والسحر والكهانة والتنجيم وحرّم القول بغير عِلم، وحضّ على طلب العلم ونشره واستخدام وسائل المعرفة وطلب الدليل والبرهان عند الاحتجاج.

وكذلك خلق الله سبحانه وتعالى الأرزاق والنعم وسخر كلَّ ما في الكون للإنسان وشرع ما تستقر به الحياة من حقوق وشروط للمبادلات والأعمال ليتأصل العدل وتنشط حركة الإنسان في عمارة الكون. ولهذا حرّم الله سبحانه كل ما يدخل الفساد على الأموال والثروات ويمنع من توفيرها وتوزيعها بالعدل، مثل العجز والكسل والسرقة والغصب والربا والغشّ والاحتكار.

ومن هذا العرض المختصر قرّر العلماء القاعدة الشرعية المطردة أنّ الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي الأمر بالمنع والاجتناب. وأنّ الله سبحانه وتعالى ما حرّم شيئاً إلا وفيه مفسدة ومضرة غالبة. فالحرامُ هو كلُّ عملٍ فيه ضرر وفساد وظلم لكيان الإنسان الفردي أو الجماعي.

ولا بدّ من التنبيه أنّ الحرام اصطلاح ذو وزنٌ ثقيل في ميزان الله. وقد تورّع العلماء عن الإسراف في استعماله إلا بدليلٍ واضح لا مجال فيه لتأويل أو اجتهاد. ويقرر العلماء أنّ تحريم الحلال هو أشدُ ضرراً من اقتحام الحرام؛ فالحرام مصادمٌ للفطرة والطبع السليم مما يحمل العقلاء على تركه واجتنابه عند النصيحة والتذكير. أما الإسراف في إطلاق وصف الحرام على مخالفة الآداب أو المندوبات أو الأعراف والعادات، فإنّه يخفف من رهبة اقتحام الحرام وقد يصل بالناس إلى التورط في الحرام الحقيقي. ولذلك أطلق العلماء ألفاظ الكراهة أو مخالفة السنة أو عدم التفضيل عند النهيّ عن ما يقدح في كمال المروءة من مخالفات لا ترقى إلى درجة الحرام. فهناك أشياء وممارسات كثيرة مما يضر أو يُخلّ بالأدب والذوق واللباقة ومحاسن العادات، لا بدّ من الحثّ على تركها وتجنبها دون اقحامٍ لمصطلح الحرام.

ولا بدّ من التنبيه إلى أنّ الفعل المباح قد يصير حراماً ممنوعاً عند الارتباط عُرفاً بما يؤذي ويشين. فعندما يدلّ لبس قميص ذي لون أحمر -مثلاً- في بيئة من البيئات على الانتساب إلى الحزب الشيوعيّ يصبح لبس هذا اللون ممنوعاً لارتباطه عُرفاً بأمرٍ ذي دلالة يتبرأ منها المؤمن. وكذلك عندما يدلّ لبس السراويل الفضفاضة على الانتماء إلى العصابات المتناحرة والخارجة عن القانون يصبح لبس هذا النوع من السراويل حراماً لارتباطه عُرفاً بما يشين ويؤذي في السمعة والخُلُق. وكذلك عندما ترتبط الموسيقى والمعازف في بيئة من البيئات بسلوكٍ هابط يُشجع على الفواحش ويدعو إليها، تصبح المعازف حراماً لارتباطها عُرفاً بسلوكٍ غير أخلاقي وغير مقبول. فلا بدّ من النظر عند ورود ما يفيد التحريم من أقوال العلماء وفتاواهم إذا كان الفعل المحظور ضاراً مؤذياً بغض النظر عن الظروف والأعراف أو أنه يتصل بعرفٍ سائد في بيئة أو عصرٍ وزمان.

وختاماً لا بدّ من التنبيه إلى أن نموذج الحياة الغربية الذي يكتسح العالم اليوم بما في ذلك مجتمعات المسلمين، يجعل من اللذة والمتعة والبهجة، أهدافاً للحياة وفي الجوّ الثقافي الذي تفرضه الرؤية الكونية الغربية يصبح الترفيه والترويح يكاد ينحصر في شرب المسكرات أو المخدرات والعلاقات بين الرجال والنساء التي لا تراعي ضوابط الحشمة وتركز على المتعة الحاضرة ولا يلقي بالاً للآثار المدمرة على نظام الأسرة. ويشعر من يعيش تحت تأثير الجوّ الثقافي الغربي ووسائل إعلامه وموارد التسلية والترويح فيه أنه محاصر بالحرام فكل ما حوله حرام وممنوع ويلاحقه الشعور بالإثم عندما يطلب شيئاً من الترويح والتسلية. فإذا أضفنا إلى هذا ما يعتاده الناس في مجتمعات المسلمين من الإسراف والمبالغة في استعمال وصف الحرام على بعض المخالفات للآداب أو الأعراف والعادات، أدركنا أن هناك مشكلة حقيقية يعيشها الناس وخاصة الشباب اليافعون حيث تحصرهم هذه المؤثرات فيستسهلون اقتحام الحرام الحقيقي لتصورهم أن لا مجال لحياة نظيفة في هذا العصر الذي غلب عليه الحرام وندرت أو اختفت إمكانيات الترويح والترفيه الحلال.

ومن هنا تبرز أهمية البحث الجاد عن وسائل الترفيه والتسلية والترويح بنشاطات نظيفة راقية تخاطب العقل وتشوّفه للحكمة والمعرفة وتتفاعل مع النفس وتطلعها إلى معالي الأمور ونفرتها من السفاهة والسخافة والتفاهة التي تميز أنشطة الترويح في الثقافة المادية. وتتأكد ضرورة البحث عن البديل الحلال في مجتمع الوفرة والسعة حيث تزداد ساعات الفراغ عندما اختصرت الآلات والأجهزة الكثير من الوقت لتأمين قضاء الحاجات الأساسية للأسرة وما كان يحيط بهذه النشاطات من قنوات للتواصل والتكافل والتسلية.

فالنشاطات الرياضية ومنافساتها التي تشجع على الإتقان والإنجاز، ونشاطات الرحلات والاستمتاع بجمال الطبيعة وسحرها، والنشاطات اللغوية من قراءة الكتب الفكرية التي ترقى بالعقل وتوسع المدارك، أو القصص والروايات من الأدب الراقي النظيف وقراءة الشعر وتذوق خيالاته الجامحة وصوره الممتعة، والأناشيد والأهازيج التي تجمع نداوة اللحن مع رقيّ المعنى وغير ذلك من النشاطات والهوايات العملية والألعاب التي تحرّض التفكير والتذكر والتي ترقى بالنفس وتجدد نشاطها وتحببها بمعالي الأمور، ولا تجعل وقت الفراغ فرصة للهبوط والتردي في مهاوي التفاهة والاستجابة الساذجة لنداء شهوة. فتلك أمثلة على نشاطات حلال لا بدّ من تشجيعها ونشرها لاستنقاذ الشباب من التصور المغلوط أن لا متعة ولا تسلية إلا مع الهبوط الأخلاقي والتورط في التفاهة والسفاهة. وبالإضافة إلى ذلك لا بدّ من الإشارة أنّ الترويح والتسلية يجب أن تكون محطة استراحة واستجمام لا دار إقامة وسكن. ونكهة إضافية في الطعام وليس الطبق الأساس الذي يمدنا بالغذاء. فالواجبات أكثر من الأوقات ولا بدّ من حمل النفس على الجدّ والإنجاز ومعالي الأمور واكتساب الخبرات والمهارات مع البعد عن حياة الاسترخاء والكسل.