قيم المجتمع الأمريكي: نحو فهم الآخر

172

أثار طرح صموئيل هنتنغتون “تصادم الحضارات” جدلاً عريضاً على الصعيدين السياسي والأكاديمي، وأصبح كتابه اليوم شائع التداول لأنه اُعتبر مفسراً للأحداث العالمية. وقد رد عليه الكثير من الكتّاب وأثارت الردود جولة أخرى من الردود، وليس من غرضي أن أستعرض هذا السجال العلمي بل غرضي أن أسجل نقطة منهجية أجعلها مدخلاً لما أريد أن أطرحه في هذا المقال.

إن مشكلة رئيسة في طرح هنتنغتون تكمن في الخلط بين مستويات التحليل. وذلك لأن فكرة وجود أنماط حضارية متمايزة ليست فكرة جديدة، والنموذج الحضاري يوجه الفعل الحضاري باتجاهٍ ما ويعطيه طابعه وصبغته فيتجلى ذلك في الأدب والفن والمعمار وغيرها. فالنموذج الإغريقي مثلاً يفترق بشكل واضح في فنونه وآداب أهله عن فنون وآداب الحضارة الصينية أو الحضارة الإسلامية وأهلها. وإنه إذا كان هذا واضحاً ومفهوماً فإنه يجب الانتباه إلى أن مفهوم النموذج الحضاري مجرد واسع الاستيعاب ولا يمكن تصويره كمعمل للتعليب الثقافي. فالنموذج الحضاري الواحد ينتج تجليات متعددة، فالصوفية والفقهية القانونية مثلاً نشأتا ضمن مناخ حضاري واحد وكذلك الرواقية والنفعية نشأتا في مناخ حضاري مختلف آخر. أي أن القول بتميز النموذج الحضاري لا يمنع من وجود التنوع (المتباعد في ما بين أشكاله أحياناً)، وإن كان هذا التنوع ذاته ينصبغ أيضاً بصباغ مستمد من خصوصية حضارية.

وانطلاقاً من هذه الملاحظة فإني أشير إلى ثلاثة إشكالات منهجية في طرح مفهوم تصادم الحضارات: الأولى هي الإغفال الكامل للتنوع الداخلي ضمن كل حضارة، والثانية تكمن في رحابة مفهوم الحضارة وشموله بحيث لا يصح معه الإهمال التام للتلاقح بين الحضارات، والثالثة -وهو ما يهمني في هذا المقال- استخدام هذا المفهوم التحليلي لتفسير ظاهرة على مستوىً آخر. وهنا لا بد من بعض التفصيل.

إن لكل مفهوم تحليلي دائرة أو مجال يصح استخدامه فيها، ولا يصح تعميم النتائج المتعلقة بمجال ما لتشمل أموراً متعلقة بظاهرة أخرى في مجال آخر. فلو طورنا مفهوماً حول كيفية انتشار الجراثيم وتكاثرها في الدم فإنه لا يصح على الإطلاق أن أستخدم هذا المفهوم لتفسير انتشار الجراثيم في بيت المريض. ولو طورت مفهوماً لتفسير الصراعات الإثنية فلا يصح استخدامه لتفسير الخلافات الأسرية، ولو وقعنا على بعض التشابه بين هذين المسألتين فإنه يعتبر تشابهاً عابراً لا يستقيم به التفسير العلمي وإن كان يمكن إيراد ذكر التشابه على سبيل المجاز وتقريب الفهم. وعلى هذا فإنه يصح أن يطرح مفهوم التباين الحضاري كتفسير للتوجهات الثقافية أو النمط السياسي والاقتصادي العام، ولكن لا يصلح أن يستخدم في تفسير الفعاليات والوقائع العملية السياسية والاقتصادية إلخ. ولكن يمكن تعقب أوجه التباين بين نموذجين حضاريين في أمر ما لدراسة الأبعاد التي يدخلها في حسابه كل منهما وشدة التركيز على هذا الأبعاد. وحين يلتقي نموذجان حضاريان في مسرح تاريخي واحد فالذي يحدث عملياً ليس التنافر المطلق بل التلاقح والتأثير البطيء المتبادل علاوة على التنافر.

والخلاصة أن الذي لا يصح منهجياً هو استخدام مفهوم الحضارة لتفسير صراعات سياسية أو تنافس اقتصادي (محلي أو إقليمي) مع تجاوز تحليل أفعال وتصرفات المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأثر ذلك على إدارة الصراع، ولا سيما إذا وصف بالحتمية. والتخالف الحضاري قد يشير إلى شهوة الصراع واستساغته أكثر من الأسباب الداعية له والموصلة إليه. ولا يخفى أن نغمة صراع الحضارات تُعجب السياسي أحياناً لأنها تعطي المبرر الأخلاقي لأفعاله الناشزة، كما تجدر الإشارة الى أن معظم أدبيات الحركة الإسلامية تقع في هذا الفخ المنهجي فيطرحون التاريخ طرحاً مؤدلجاً مثل ما يفعل غيرهم.

*        *        *

              وأحب في هذا المقال أن أعالج مسألة سوء التفاهم الثقافي بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، مع الإدراك الكامل للتنوع الشديد في كليهما. وسأعالج بالخصوص الثقافة الأمريكية محاولاً تشخيص قيمها كما تراها هي نفسها، وهذا ليس من باب الدعاية لمن لا يلزمه مزيد دعاية بل من مدخل منهجي يحاول أن ينظر إلى الثقافة من داخلها ويفهم أفراد القيم ضمن منظومتها من غير إقحام مسبق لمعيارية من الخارج. ولذا فإني سوف أعمد هنا لشرح القيم الاجتماعية الأمريكية للمساعدة على فهم المنظومة الثقافية من غير محاولة التقييم أو التفنيد. وإذا كان المسلم يشعر أن الغرب يسيء فهمه وفهم قيمه فإن ذلك مبني جزئياً على فهم الغرب لنفسه وخياله عن ذاته، أي أن فهم التركيبة القيمية الأمريكية وكيف تنقدح في ذهن ونفس أهلها تساعد في فهم عجزهم عن فهم شعوب العالم الاخرى.

وسوف أعتمد هنا تصنيفاً للقيم الأمريكية كان قد اقترحها ويلسون عام 1970 والذي مازال يستخدم كمادة تدريسية، مؤكداً رغبتي في التجرد وإثبات رأي الآخر.  وأنبه ابتداء أن مدخل القيم لا يمكنه تفسير كل شيء في حياة المجتمعات، بل لا يمكنه تفسير أي ظاهرة بتمامها، وجلّ ما يقدمه هو وصف التوجه العام (مثله مثل مفهوم الحضارة) وكيف يصبغ الأمور ويؤقلمها، وبالتالي فإنه قد لا ينطبق على كل أفراد المجتمع. كما أنبه أنه كثيراً ما يكون هناك تناقضاً بين القيم التي يدعيها مجتمع ما، وتتجلى الخصوصية الثقافية في كيفية التعامل مع هذا التناقض.

الفردية والحرية

تشتهر هذه الخصلة بأنها تميز الأمريكي وتعد صبغة أساسية في كيانه الاجتماعي وتطبعه بنفور من أي ضابط أو قيد، وكأن صورة القارة الكبيرة التي تفسح المجال لكل فرد أن يفعل ما يشاء دون اكتراث بالآخر قد تجسدت في قيمة عليا لما يجب أن تكون عليه الأمور في أي مجال وعلى أي صعيد. ويحسن تتبع انعكاسات هذه القيمة المجردة في مجالين أولهما مجال عام يتعلق بالنظر نحو دور الحكومة في الحياة العامة والآخر مجال خاص يتعلق بالعادات الأسرية.

ومعروف أن الأمريكي يراوده الكثير من الشك في الحكومة والحاجة إليها، ويميل إلى ضبط الأمور من غير تدخل كبير من (العم سام). ويشهد لذلك الميل الكبير إلى تأليف الجمعيات اللاربحية حيث يصعب أن يتخيل المرء نشاطاً أو هوايةً أو اهتماماً ليس له جمعية تضم مجموعة من المهتمين. ولا يقتصر ذلك على الهوايات الشخصية والاهتمامات الاجتماعية بل يتعداه إلى قضايا كبرى سياسية أو اقتصادية أو علمية حيث ترى هذه الجمعيات نفسها رديفاً ضرورياً للحد من سلطة الدولة وتدخلها في شؤون المواطنين. أما السلطة فإنها بطبيعة الحال تحاول مدَّ نفوذها وإطلاق صلاحياتها، ولكنها تجد نفسها بحاجة إلى تلك الجمعيات اللاربحية. والذي جرى أن تركيز هذه الجمعيات على اهتمامات خاصة أورثها خبرة عالية ومعرفة تقنية متقدمة لا تستطيع الحكومة الاستغناء عنها. وانقسمت الجمعيات في علاقاتها المتبادلة مع السلطة إلى قسمين: القسم الأول يتعلق بالهوايات والخدمات الاجتماعية والتي تحددت علاقتها مع الحكومة بأن تعفى من الضرائب مقابل ما تقوم به من خدمات ترفع بعض العبء عن كاهل الحكومة أو تبرر عدم اكتراث الدولة بالنهوض بهذه الخدمات. وقد ساهمت هذه الجمعيات في استيعاب المشاعر الإنسانية ‑دينية أو علمانية‑ فتأسست منظمات خيرية لمساعدة الفقراء والمنكوبين في فترة الوهدة الاقتصادية الكبرى مثل منظمة (جيش الخلاص Salvation Army)، أو مؤسسات ترفيهية رياضية مثل المؤسسة الشهيرة (YMCA) بقصد تخفيف وحشة المدينة على المهاجرين من القرى ومن خارج أمريكا. ويمكن أن ننظر إلى هذه الجهود على أنها نوع من المأسـسة للأبعاد الخلقية بحيث يتوقع من الحكومة أن تتحرك وفق الأبعاد المصلحية البحتة مقابل تخصص الجمعيات بتقديم “خدمات” أخلاقية. وقد تطالب هذه الجمعيات الحكومة ببعض الإصلاحات بين الحين والآخر، ولكن معظمها لا يشكل تحدياً خطيراً على الحكومة باستثناء التي تتبنى فلسفات اجتماعية مغايرة.  ويذكر هنا أنه ساهم وجود هذه الجمعيات في ترسيخ الفئوية الأخلاقية في أمريكا، فلم يعد هناك مصدراً واحداً يمثل الضمير الجماعي.

وأما القسم الآخر من الجمعيات اللاربحية هو المؤسسات المهنية التي تهتم بالمسائل الفنية والتي شكلت علاقة مختلفة مع الحكومة. وذلك أنها لم تحظ بالإعفاء الضريبي فقط بل أصبحت تمول بالمنح والأعطيات من الدولة للقيام بالبحوث والدراسات. ويدخل تحت هذا القسم عدد كبير من الجمعيات العلمية في الطب والهندسة والبيئة والفيزياء وكثير من جمعيات الدراسات السياسية والاقتصادية والتي أصبحت تعدّ خزانات فكرية (think tank).

والخلاصة أنه قد تطورت العلاقة بين هذه الجمعيات وبين السلطة إلى علاقة تناغم ودعم متبادل انعكست على المستوى الفردي في تأكيد شعور الفرد وممارسته لحرية الحركة في جو يتيح له أن يتبنى الفكرة التي تحلو له وأن يدافع عنها وأن يفسح لها مجال للوجود والتعبير على المستوى العام مهما كانت خصوصيتها.  وعلى المستوى المجتمعي فإنه أصبحت الحكومة ذاتها تعتمد على هذه الجمعيات لتطوير حلول لمشاكل تواجهها، ويعدّ هذا الأمر من أهم مصادر المعقولية في تنظيم الحياة الأمريكية والذي أعطى تصريف مجرى الحياة مرونة غريبة. وأضرب مثالاً أن المنظمة اللاربحية نادي السيارات الأمريكي المشهور بالـAAA (ومهمته الرئيسة تقديم خدمات معلوماتية وعملية للمسافرين، والتي تضمنت فيما بعد توفير تأمين ضد الحوادث) له صلاحية تجديد لوحات السيارات والتي تتولاها أصلاً مؤسسة حكومية. ومثل هذا التماهي بين القطاع المدني والحكومي غريب من نوعه في الدولة الحديثة، وربما تتفرد فيه أمريكا.

هذا فيما يتعلق بالحياة العامة، فإذا انتقلنا إلى الحياة الخاصة فنرى أنه تتجلى قيمة الحرية والفردية بشكل مركزي في الأسرة وفي طرق التربية. فتتوجه جهود الأسرة إلى تنمية ذاتية الفرد أكثر من تشكيله وصهره في بوتقة جماعية، حيث تدعو أساليب التربية الأمريكية إلى إعطاء الطفل رسالة “أنا” عند التوجيه نحو تصرف مرغوب فيه بدل تقرير رسالة “قيمة”. فمثلاً على حسب المذهب الأمريكي في التربية إذا أراد الأبوان الاعتراض على ضوضاء الأولاد يجب أن يقولوا للولد “أنا يؤلمني رأسي من الضوضاء” بدل قول “الضوضاء أمر غير مرغوب فيه”، وأن يقولوا لتصرف نشاز من الأولاد في البيت “أنا لا أقبل هذا في بيت” لا أن يقولوا “هذا عيب” أو “هذا أمر غير لائق اجتماعياً”.

وضمن محاولة تنمية شخصية الأولاد يرى المذهب الأمريكي وجوب التأكيد على التفوق الفردي. فيشعر الأهلون أن عليهم مديح الطفل وإبداء الإعجاب بمهاراته باستمرار، ويعتبر الذهاب لمشاهدة لعبة رياضية للابن أو البنت نزهة عائلية يأخذوا فيها معهم فطائر الأكل والشراب، بل ويعتبر الأهل الذين لا يذهبون لمشاهدة حفلة يشارك فيها أبناؤهم في المدرسة سيئون ولا يقومون بحق أولادهم. ولعل من أبرز تجليات قيمة الفردية هو الاحتفال بأعياد الميلاد وتوقع الفرد أن يحتفل الجميع بهذا الحدث العظيم! وبالطبع لا يقتصر ذلك على الصغار بل يتعداهم ليشمل الكبار والشيوخ.

ولا بد من التنبيه إلى أن قيمة الحرية والفردية لا تعني الفردانية، بل إن مما يميز الأمريكي أنه (لاعب فريق) كما يقولون، أي أنه على استعداد كبير للتأقلم مع المجموعة واللعب حسب شروطها. ويقال على سبيل النكتة أنه لو رميَ ثلاثة أمريكيين من السماء لألفوا جمعية لتقرر سبيل نجاتهم جميعاً.

المساواة

ليس من المبالغة القول أن الأمريكي مهووس بالتساوي. وقيمة المساواة الأمريكية ليست مساواة في النتائج أو تقريباً من الفروق بقدر ما هي مساواة في الفرصة المتاحة لتحقيق المراد. وعلى سبيل المثال فقد اعتبر مجرد السماح لدخول السود في مؤسسات المجتمع تحقيقاً للعدالة من غير نظر إلى تعويض ما فات أو إعادة توزيع الثروات. فقيمة المساواة تتمثل في إعطاء الفرد الفرصة في النجاح استناداً إلى الجهد الشخصي. وبالتالي فإن التفاوت الاجتماعي في المال أو الجاه يُعزى إلى مواهب الشخص ودأبه في عمله، وتقع مسؤولية الفشل على الفرد لعجزه وكسله لا إلى ظلم المجتمع له، وإلى التقصير الشخصي لا إلى الحواجز البنيوية والثقافية في وجه المقصرّين. وما تحدى هذه المسلمات الاجتماعية إلا التيارات اليسارية وحركات حقوق الإنسان التي تتبنّى فلسفات مخالفة. وبهذا تأسس التساوي الاجتماعي في أمريكا على مفهوم التساوي الفرصيّ، وأُعطي مشروعية وقبولاً نفسياً. واقتضى هذا النوع من المساواة أيضاً إزاحة المعايير القيمية بناءً على أنها ستكون متحيزة إلى جماعة معينة. فمثلاً تعد موسيقى الصخب والصراخ والضوضاء تعبيراً صادقاً عن ذوق شرائح المجتمع الدنيا وأن الإعلاء من قيمة الموسيقى الكلاسيكية هو تحيز لصالح ما يسمى بالطبقات الراقية، وأن المسلسلات التي تحتفل بالسيوبة الأخلاقية هي وصف صادق لبعض شرائح المجتمع، فمثلاً مسلسل الرسوم المتحركة “Simpson” ذو المستوى التعاملي الدنيء  ينظر إليه أنه يصف حقيقة حال العائلة الأمريكية التي لا تمثل أكثر من أفراد اضطروا للعيش تحت سقف واحد بعيداً عن مثاليات الأفلام الأسرية القديمة التي كانت تعكس قيماً أخلاقية تعرف باسم الـ”قيم العائلية” (ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد من ينـزعج من هذه الأفلام).

ونظراً لأن المساواة التي يجلّونها هي مساواة تطابقية (غير تكاملية) فقد أصبح النظر إلى الفروق بين الرجل والمرأة رجعية رغم عمق هذه الفروق. وأصبح الحس الأمريكي يرى أن مجرد ذكر الفروق يعد ذريعة لتهميش المرأة. ولذلك فإنه لا يستغرب أن الثقافة الأمريكية وتطبيقاتها تتوجه نحو تمكين الجنسين من تحقيق أهداف ونهايات متماثلة متطابقة، وليس ذلك على مستوى العلم والمعرفة فحسب بل على مستوى المهنة والحركة اليومية كذلك. وتتفاعل خصلة التساوي التطابقي مع قيم الإنجاز والثراء المادي وغيرها من القيم لتشكل نموذج حياة يرى ضرورة فتح كل مجالات الحياة ليتنافس فيها الناس رجالاً ونساءً بلا أي إشارة إلى خصوصيات كل جنس منهما (رغم أن هذا يتناقض جزئياً مع قيمة الفردية)؛ فيعتبر مثلاً تخفيف الشروط البدنية على عاملات الإطفاء مسألة مرحلية، وأن عدم السماح للجنديات بالمشاركة القتالية تفريقاً مجحفاً discrimination). وبالطبع فإن التزاحم بين الجنسين غالباً ما يكون مدفوعاً بضرورة معاشية لا تستطيع معظم النساء التخلي عنه بسهولة، بغض النظر عن الوصف الحالم له. وإذا كان على المرأة أن تفجر طاقاتها إلى أقصاها فإنه يصبح مقبولاً أن تستثمر النساء خصوصياتهن الأنثوية في سبيل النجاح المهني سواء كان ذلك في السلوك الشخصي أو في رهن الحياة لمهنة مرتكزة إلى خصال أنثوية بحتة، كل ذلك مع الإقصاء التدريجي والساخر للبعد الأخلاقي المرتبط به. ويكتسب هذا التصرف قبولاً اجتماعياً ومشروعية قانونية، بل ويصبح انتقاده اعتداءً على حقوق الإنسان (وأنبه هنا إلى أن معالجة موضوع المرأة وإعطاءه حقه من التحليل لا يتسع له هذا المقام ولكن كان لا بد من التنويه إليه لصلته الأكيدة، وأُتبعه باحتراز مهم في أن تصور كل امرأة أمريكية عاهرة غاوية هو أمر في غاية السخف، وذلك بغض النظر عن الموقف من هذا النمط من المساواة التطابقية في السلوك الاجتماعي).

ولعل نظرة سريعة إلى نظام التعليم في أمريكا تساعد في فهم تجليات قيمة التساوي في الواقع. وذلك أن الحصول على الشهادة العلمية أصبح يعتبر حقاً للجميع حيث تمثل الشهادة العلمية جواز المرور للحياة المريحة. وفي أمريكا لم يأت هذا التوجه انطلاقاً من حاجات المجتمع بل اعتبر من جملة حقوق الإنسان التي ناضلت الحركات الإثنية من أجله. وفي عام 1972 سنّ التعديل الدستوري الذي يفرض نسب قبول متساوية للذكور والإناث في المؤسسات التعليمية، وذلك من جملة المنطق العام الذي صاغ التعامل مع قضايا السود. 

وقد طبع مفهوم التساوي طرق التعليم ومناخ التدريس، فترى المعلمة أن واجبها الأول هو الاستجابة لكل لفتة يبديها الطالب وتشجيعه عليها بدرجة أكبر من التركيز على البعد المعلوماتي في التدريس. وقد أجريت دراسة علمية جادة لمقارنة معلمي مدينة شيكاغو الأمريكية ومدينة بيجين العاصمة الصينية فوجدت أنه اعتبر 50% من المعلمين الصينيين أن “الوضوح” يمثل أهم صفات المعلم بينما اعتبر هذا 8% فقط من الأمريكيين. وتنعكس النسبة تماماً عند السؤال عن ضرورة “الحساسية أو الإرهاف” عند المعلم حيث اعتبرها 43% من الأمريكيين أساسية مقابل 9% من الصينيين. كما أنه سرت في المدارس الأمريكية لسنوات عديدة فكرة ما يسمى بــ”الترفيع الاجتماعي”، أي ترفيع الطالب بغض النظر عن كفاءته العلمية وذلك من باب المساواة وفتح الباب للجميع، ومتأثرة بمناخ الستينات المعروف (وبالطبع فإني لا أرسم هنا علاقة سببية مباشرة بين القيم الاجتماعية والنظام التدريسي، فلذلك علاقة بالفلسفات التربوية الشائعة آنذاك ولكني أريد مجرد الإشارة إلى أن هذه التطبيقات لم تحدث في فراغ ثقافي وأن تطبيقات القيم تحظى بتأقلمات اجتماعية).

ومن تجليات مفهوم المساواة خصلة الرأفة بالمتعلم حتى في مرحلة ما بعد الدراسة الثانوية سواء في العلاقة غير الرسمية بين المدرس والطلاب أو في التوقعات الاجتماعية. فمثلاً تقتضي أعراف التدريس قبول أعذار الطالب الجامعي لتخلفه عن أداء مهمة ما بسبب انشغال شخصي أو عائلي، أو على شكل ضمِّ مواد اختيارية للمنهاج الدراسي (بعضها هامشي جداً) وإعطائها نفس الدرجة من الاعتبار رغم تباين جدّيتها تبايناً شاسعاً. وغني عن البيان أنه ليس في هذا أي دلالة على تفوق النظام التدريسي الأمريكي مطلقاً، بل إنه يستبعد صلاحيته في سياق ثقافي آخر. وكل ما أحاول الإشارة إليه هنا هو اتساق هذا النشاط الاجتماعي المهم مع طبيعة القيم السائدة.

الإنجاز والمنافسة

             تمثل هذه القيمة ثالث أهم قيم المجتمع الأمريكي وأظن أن من الصعوبة إيراد مرادف عربي دقيق لهذه القيمة ولهذا أجدني مضطراً للاتكاء إلى المصطلح باللغة الإنكليزية achievement and competition. إن تلك القيمة تعبر عن الشعور الكامن والذي يدفع الفرد للإنجاز وتسجيل علامة ما، إنه منطق تحطيم الأرقام القياسية ومنطق التنافس. وبالطبع فإن الرياضة هي خير معبِرٍ عن هذه القيمة وعن الحيز الذي تأخذه من مخيلة وحياة الفرد الأمريكي. وقد سبقت الإشارة إلى أن تشجيع الوالدين لأولادهم في مسائل الرياضة مهم إلى حد كبير لأنهم يرون أن الحياة حلبة رياضة كبيرة وأن هناك تشابه بين أنواع العمل وأنواع الرياضات فهناك الرياضة الخفيفة وهناك تلك التي تهشم الدماغ، ولكنها جميعاً تشترك في خصلة التنافس. 

و لعل من الطريف ملاحظة تقاطع قيمة التنافس مع النظام التعليمي. فالنظام التعليمي في أمريكا متمحور إلى حد كبير حول التنافس وتحصيل العلامات، رغم إجماع الباحثين في التدريس وأصوله أن العلامات ليست مقياساً جيداً لإمكانيات الطالب. وتنفع الإشارة أيضاً إلى تضارب القيم وتناقضها أو كيف يعكس الواقع تقاطعاً لعدد من القيم في آن واحد. فمن جهة يميل نظام التعليم إلى تدليل الطالب وتحمُله واعتباره ولداً صغيراً يحتاج إلى الرعاية والعطف ولو كان في المرحلة الثانوية، ومن ناحية أخرى يقبل المنافسة الفردية ولا يعتبرها ضارّة بالصحة النفسية للمتعلم. ويصل الأمر إلى أن قبول الطلاب في الجامعات يتعلق جزئياً بتحصيل الفرد بشكل متميز في ناحية ليس لها علاقة بالعلم بل تتعلق بالهوايات والرياضات، وكأن سبارطا اليونان ما زالت تعيش في مكونات العقلية الأمريكية. وقد قرع باب منـزلي مرة شاب يافع في المرحلة الثانوية يطلب التبرع لبرنامج رياضي في مدرسته ليتمكن هو من السفر إلى ولاية أخرى والتنافس مع فريقها! والطريف في الأمر أنهم لا يعتبرون ذلك تسولاً بل يعتبرون أن التبرع لمثل هذا الطالب عمل خير. وأخيراً فإنه لا يخفى أن علاقات الرجل بالمرأة موسومة بهذه القيمة الاجتماعية ليس على مستوى فرص العمل فقط، بل وعلى مستوى العلاقة الزوجية في كثير من سلوكيات الشح الفردي، بل حتى ينعكس نمط الإنجاز في العلاقات الجنسية والتعامل مع الغريزة البشرية والتي تتباعد عن التعاطف رغم كل القشرة الرومانسية التي يُتغنى بها.

وتنعكس قيمة الإنجاز في صياغة نمط العنف الأمريكي أيضاً. وأسهل مجال لملاحظته هو الرياضات التي تهش للعنف… ولكن يمكن ملاحظته أيضاً في نمط الترفيه. فمثلاً يندر أن تجد شاباً أمريكياً عنده القدرة النفسية للذهاب لشاطئ البحر للتأمل، بل يذهب للعراك مع أمواجه فوق خشبة التزلج أو لركوب الدراجة المائية النارية، وبطريقه يلوث البحر والبحيرة بالضوضاء وعادم الغاز ويسمم الأعشاب والأسماك. ويمكن ملاحظة نزعة الإنجاز العنفي حتى في التقليعات الرائجة مثل انتشار السيارات التي تسمى سيارات رياضة وخدمة (SUV) وإعطائها السائق شعور السيطرة على الطريق وعدم التأثر بالصدمات قياساً بالسيارات الأخرى الصغيرة. والغريب أن يرقى شأن هذه السيارات ذات الهدف التجاري/الصناعي أصلاً لتصبح موضة نسائية، وكأن هذا النوع من السيارات أتاح للنساء وسيلة يُدثـّرن بها نعومة غير مرغوبة فيها ثقافياً في حلبة الإنجاز التنافسي، ولتمتلئ شوارع الصباح بسيارات تزن كل منها طنّين لتوصل 50 كيلوغراماً إلى المدرسة.

وبالطبع ‑وكما هو معروف‑ فلقد انعكس العنف الإنجازي تاريخياً في مسألة استجلاب الرقيق من أجل التسريع في المشاريع التنموية، ولا يخفى أنها أورثت مشكلة اجتماعية هائلة أصبحت عقدة المجتمع الأمريكي ما زال عاجزاً عن حلها لعجزه عن التعامل مع جذورها القيمية.

*   *   *

وبعد الفراغ من التعليق على أهم ثلاثة قيم تصوغ الفعل الاجتماعي الأمريكي، سأعمد إلى ذكر ثلاثة قيم أخرى – باختصار- لها دورها ومساهمتها أيضاً:

الـعـمـلـيــة

تعرف الثقافة الأمريكية بولعها بالأمور العملية سهلة التنفيذ وتركيزها على اليسر والسهولة وتمرير الأمور، وكأن الحياة الأمريكية تستبطن خوفاً من الرسميات والشكليات الإنكليزية فتحاول باستمرار الابتعاد عنها. وقد برزت هذه النـزعة قديماً في تاريخ أمريكا في المعاملات الاقتصادية وفي الاختراعات العملية الصغيرة، وما زالت أمريكا تقود الركب في تصميم وإنتاج المريحات الصغيرة وكأنها تعكس تقاطع قيمتي الفردية والعملية، فلا تتحمل أعصاب الأمريكي التعامل مع شيء مركب معقد إذا كان بالإمكان تسهيله وتبسيطه. والأمثلة على هذا لا تنتهي من مواصفات الأبنية وآلات بيع المرطبات وآلات سحب النقود وفكرة الحاويات التي تنقل البضائع بالشاحنات وفوق البواخر. ولا تقتصر العقلية العملية على المنتجات وأدوات الاستعمال، بل يمكن تعقبها في طرق التعليم. فمثلاً تتسم طرق تدريس الحساب والرياضيات في أمريكا بالتدريب على سلسلة خطوات تحتاج إلى حد أدنى من التفكير المجرد وتتكئ أساساً إلى إجراءات ميكانيكية للوصول إلى الجواب (ومثل ذلك تعليمات إجراء حسابات قسيمة ضريبة الدخل السنوية). وأخيراً فإنه لا بد من الإشارة إلى أن قصر النظر الذي يعرف به الأمريكيون ليس منفصلاً بالكلية عن خصلة التوجه العملي وتضخمها.

الـتـقـنـيـة والــتـقـدم

تشك الثقافة الأمريكية بكل قديم وتهش لكل جديد ضمن إيمانها بإيديولوجية التقدم المستمر والصاعد دوماً، فلا تدع هذه الثقافة شيئاً إلا قلبته وحركته من مكانه دون التفكير في مدى الحاجة إلى ذلك أصلاً. وكثيراً ما يأتي التغيير من جراء فسح الفرصة لأي لاعب في حلبة المجتمع أن يرمي قدحه ويجرب حظه، ويقترن هذا بحد أدنى من التخطيط العام وبعيد المدى. ويغلب على التخطيط الأمريكي أن يتمثل بخطة تنفيذية وليس بخطة استراتيجية تحسب التبعات البعيدة إلا ما كان من مؤسسات تهتم بالآثار البعيدة لناحية ما ‑مثل البيئة‑ وتضغط لتحريك المصالح نحو ذلك. وبالطبع فإن الافتتان بالجديد ويعشق التكنولوجيا وتطبيقاتها الفارهة يدفع الناس إلى أن لا تفكر ملياً فيما إذا كانت كلفة هذه التقنية مجدية اقتصادياً على مستوى المجتمع.  واللطيف ملاحظة كيف تتعارض هذه القيمة أحياناً مع قيمة العملية التي تحدثنا عنها، لأن بعض الحلول التقليدية القديمة فعالة لحدّ بعيد ولا تحتاج إلا إلى تعديل طفيف أو ملاءمة الوضع الجديد. وقد تتعقد الأمور أحياناً من المبالغة في الاعتماد على التقنية ولكن الثقافة تعتقد بأن المنتج يتحسن مع الزمن ويصبح معقولاً ولا ترى أن الارتهان لهذه المنتجات يأخذ من حرية الإنسان ووجوده. ونظراً لوجود إمكانية مادية عالية تأخذ هذه المنتجات أولوية اجتماعية، ولا يفكرون عادة بأن إدخال تقنية جديدة دون تهييء اجتماعي قد ينتج عنه بطالة ونكسات عائلية… رغم تأكيد البحوث الاجتماعية على هذا. وقريب من هذا اعتقاد هذه الثقافة بأن تكنولوجيا الحرب يمكن أن تحل المعضلات العالمية مع قدر ضئيل نسبياً من الجهد السياسي.

النجاح المادي والاستهلاكية التجارية

يُقاس النجاح في هذه الثقافة بالنجاح المادي إلى حد كبير، فإذا انفردت كلمة success فإنها تعني النجاح المادي فقط. ولكن لا يأخذ النجاح المادي صورة الكنـز وتكديس الأموال والنفيس من المتاع بل يميل إلى التوظيف في الفعاليات الاقتصادية وإلى الاستمتاع الآني والذي يأخذ شكلين مختلفين حسب الشريحة الاجتماعية والمستوى الثقافي. فالشريحة العليا تميل إلى استثمار أموالها في فعاليات اقتصادية والتمتع من خلال مواردها أو التسهيلات الترفيهية التي تقدمها الشركات التي يرتبطون بها أو يساهمون في سن قوانينها وأعطياتها. أما الشرائح الدنيا التي غسل دماغها بالدعايات المتواترة والتي آمنت بأن الفقر هو قدرها اللازب فلم يبق لها حظاً من أمل إلا في ورقة يانصيب أو في اقتناء قطعة استهلاكية ترفع بها عثرتها وتستنقذ عزها المسحوق.

ومن اللطيف ملاحظة الرواج الشعبي للدين الدعائي الذي يغمر شاشات التلفزيون وتنجذب إليه جموع البسطاء، ورغم ارتباط هذه الظاهرة بالتطور الفكري للبروتستانتية ولكنه يرتبط من وجه آخر بقيمة النجاح المادي وإعلاء قيمة التكنولوجيا. فالطريقة التي تتم بها دعوة الناس لا تختلف كثيراً عن أية دعاية تجارية أخرى والتي تعتمد على إقناع المشاهد بأن حل مشكلاته الشخصية يكمن في اقتناء هذا المنتج أو ذاك. وكأن الذين يشاركون في مهرجانات الدين الدعائي يرون غناهم في غنى الواعظ الثري. والعجيب كيف تتأقلم خصلة المادية والنجاح مع خلق التبرع لهذه الاستثمارات العاطفية الدينية وكيف يسمون النشاطات العبادية “خدمة”. وتقدر بعض الإحصاءات أن الفرد الأمريكي يتبرع بمقدار 2.5 % من دخله لمنظمات لاربحية علمية أو دينية أو خدمات إنسانية، وإن كانت بعض هذه التبرعات تذهب إلى منظمات يستفيد منها المتبرع بشكل أو بآخر لخفض ضريبته. فمثلاً ممكن أن يتبرع جدٌّ متمكن مالياً لنادي الموسيقى الذي تذهب إليه حفيدته مقابل أنه يقتطع قيمة ما تبرعه من دخله الخاضع للضريبة. وتمثل هذه الطريقة الأمريكية لفعل الخير نمطاً يشعر فيه الفرد أنه قام بخدمة إنسانية وحصل بنفس الوقت فائدة جانبية ما.

*        *       *

وبعد، فقد أردت من هذا المقال التعريف بأمريكا كمجتمع لا كدولة ولا ككيان سياسي. وتكلمت بالخصوص عن أهم قيم هذا المجتمع وخياله حول نفسه محاولاً رصد النمط الثقافي ومستعيناً بأمثلة واقعية، وإن لم يكن المقصود الوصف التفصيلي أو الإحاطة بالواقع. وأحسب أن هذا المدخل يساعد على التفاهم الثقافي ويصب في خانة الحوار الحضاري بعيداً عن التمركز حول النفس والرؤية العدوانية للآخر.

03-1423 هـ / 05-2002 م