الإجماع: إشكالية المفهوم بين المثالية والواقعية

603

نشرت مجلة إسلامية المعرفة مقالاً مـسهباً للدكتور قطب سانو تحت عنوان “في مصطلح الإجماع الأصولي” (العدد الحادي والعشرون) تعرض فيه لبيان مفهوم الإجماع وتاريخ نشأة هذا المفهوم وتطوره.

وقد وجدت أسرة “الرشاد” في هذا المقال محاولة أصيلة في تجديد وتفعيل هذا المفهوم وإعادته إلى دوره الذي كان يؤديه في عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشديـن، فأحبت أن تشارك الأخوة القراء هذا الطرح المقاصدي المتميز.

يعدُ الإجماع عند جمهور علماء المسلمين أحد مصادر التشريع ويلي السنة عندهم في الترتيب. فالمجتهد الباحث عن حكم الله في حادثة أو نازلة يرجع إلى القرآن والسنة فإن لم يعثر على حكم فيهما فإنه يلوذ بالإجماع للتعرف على حكم الله في تلك النازلة. وإنكار الإجماع بعد ثبوته يُخرج المنكِر من المـلة وهو عند أكثر الأصوليين حجة قطعية ويُنسب إلى البدعة أو الضلال أو الكفر من خالفه أو أنكره.

ونظراً لهذه المكانة العالية للفكرة الإجماعية في الفكر الأصولي فإن هناك حاجة ماسّة لتحقيق القول في مصطلح الإجماع وتحديد موقعه من ثنائية المثالية والواقعية في الفكر الإسلامي. وهناك أيضاً أهمية علمية للقيام بمراجعة نقدية للمعاني التاريخية والحمولات الفكرية التي حمـّل بها هذا المصطلح عبر تاريخ الفكر الأصولي. وتهدف هذه الدراسة إلى التوصل إلى ضبط علمي ومنهجي محكم لمفهوم مصطلح الإجماع ومجالات توظيفه ليغدو بذلك مصطلحاً ذا معنى واقعي ومؤثر في توجيه حركة الحياة وفق المنهج المراد لله تعالى على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة.

إن القناعة بأن نشأة مصطلح الإجماع يعود إلى العصر الراشدي على أقصى تقدير تحتاج إلى إعادة النظر إذ أنها تتضمن إسقاطاً تاريخياً لمضمون متأخر محدَث على مصطلح علمي قديم. فمفهوم الإجماع في عصر الرسالة يجب أن لا يتضمن المعاني التي أعطاها إياه العلماء في العصور اللاحقة، كما أن مفهومه في عصر الخلفاء الراشدين يجب أن لا يكون تبعاً لما آل إليه الأمر في العصور اللاحقة بذلك العصر. ومن ثمَّ فإن الاحتكام إلى المعاني الجديدة المستحدثة للمصطلح واتخاذ تلك المعاني أساساً للحكم على مدى وجود المصطلح وعدمه لا يعدو أن يكون إسقاطاً لا يقبله البحث العلمي النـزيه.

وإذا أردنا البحث عن تاريخ نشأة مصطلح الإجماع فتحسن البداية بمعرفة المعنى اللغوي لهذا المصطلح وهو الوصول إلى اتفاق ناتج عن تشاور أهل العلم والمعرفة والدراية في قضية أو نازلة من النوازل. وانطلاقاً من هذا المعنى يمكننا أن نقرر أن مصطلح الإجماع بهذا المعنى كان مستعملاً في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

فنصوص القرآن والسنة تقرر بشكل جليّ المنهج الجماعي الذي كان الرسول الكريم يتبعه في التعامل مع النوازل العامة. فإن من المتواتر عنه أنه كان يدعو ‑الصلاة جامعة‑ ليحاور الصحابة في النوازل والمستجدات التي كانت تداهم حياة الجماعة المسلمة في المدينة. فالفكرة الإجماعية كانت موجودة في عصر الرسالة وتتمثل في العلاقة بين الشورى والإجماع. فالشورى هي مقدمة ضرورية للإجماع حيث لا إجماع بلا شورى والإجماع في الوقت نفسه هو إحدى نتائج الشورى وذلك عندما يكون هناك اتفاق بين المتشاورين حول المسألة موضوع التشاور.

إن مصطلح الإجماع بمشتقاته اللغوية التي انبثقت منها المعاني الاصطلاحية فيما بعد، كان موجوداً ومستعملاً في عصر الرسالة، ولكنه لم يتم استخدامه في ذلك العصر كمصطلح علمي ينضوي تحت فنٍ من الفنون؛ بل كانت فكرة الإجماع تتمثل في تشاور أهل المعرفة والرأي ورجال القيادة والحكم في نازلة من النوازل التي تعم فيها البلوى وتمس حياة المجتمع وذلك بغية الصدور عن رأي جامع في تلك النازلة. فنشأة الفكرة الإجماعية ارتبطت بنشأة الجماعة الإسلامية كـكيان سياسي متميز بالمدينة المنورة يوم قامت للمسلمين دولة في يثرب.

وقد تمثلت فكرة الإجماع في تبني المنهج الجماعي في القضايا والنوازل والمستجدات التي تعم فيها البلوى وتشمل جميع أفراد الأمة حديثة التكوين. وكان لهذا الإجماع دور كبير في الاستقرار والأمن الذي طبع سياسة الأمة في تلك الفترة. فعموم الأمة كانت تتحمل تبعة الرأي الجماعي الذي يشكله أهل الشأن والدراية بموضوع الإجماع.

وفي عصر الخلفاء الراشدين كان منهج الخلفاء والصحابة امتداداً للمنهج النبوي في معالجة الأزمات والنوازل وكان منهجهم انعكاساً للتربية النبوية التي ربى النبي الكريم أصحابه عليها خلال سنوات البعثة.

فكانت سياسة الصدّيق أبو بكر في مواجهة الأحداث والنوازل أن يجمع الصحابة ويستشير أعيانهم وأولي الأحلام منهم ثمّ الصدور عن الرأي الذي يتوصل إليه أهل العلم والمعرفة والدراية. وأما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فإن منهجه في معالجة النوازل العامة هو ما أكده الإمام أبو عبيدة في كتاب “القضـاء” عندما قال: وكان عمر يفعل ذلك ‑أي مثلما كان يفعل أبو بكر‑ فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة، سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان فيه لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.

وقد نقل الإمام الدارمي في مسنده عن المسيب بن رافع واصفاً المنهج الجماعي الذي كان الصحب الكرام ينتهجونه في التصدي للنوازل العامة، وقال ما نصّه: كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحقّ فيما رأوا.

وعلى هذا يمكن القول بأن مفهوم الإجماع في هذا العصر لم يشهد تغييراً ذا بال على مستوى المحتوى والمنهج ولكنه شهد تنويعاً في استخدامه وتوظيفه في سائر النوازل والحوادث التي داهمت الحياة الإسلامية في ذلك العصر وذلك نتيجة تنوع وتتابع الأزمات والنوازل على الساحة الإسلامية.

على أن الجدير بالذكر والتقدير أن الصحب الكرام ظلوا محافظين على استخدام هذه الوسيلة في القضايا والشؤون التي تعم فيها البلوى ولم يستجرّوه للفصل في القضايا الخاصة. ولعل تكثيف استخدام الإجماع في هذا العصر هو الذي دفع الكاتبين في تاريخ نشأة الفكرة الإجماعية إلى اعتبار العصر الراشدي هو العصر الذي ظهر فيه هذا المصطلح، والحال أن معنى المصطلح ومحتواه كان موجوداً وحاضراً وفاعلاً في حياة الأمة في عصر الرسالة على مستوى توجيه النوازل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تنزل بالمسلمين آنذاك. وقد حان الأوان لأن يعاد النظر فيما تصر المدونات الأصولية عليه من اعتبار الفكرة الإجماعية فكرةً ناشئة في العصر الراشدي، كما أنه من الجدير بالمراجعة والتجاوز رأي الذين حصروا مصدرية الإجماع في العصر الراشدي دون سواه من العصور اللاحقة والسابقة.

ونظرة متفحصة في المنهج الذي كان يتبعه خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس في التصدي للنوازل والحوادث العامة خلال سني حكمهم تهدينا إلى القول بأن الإجماع أخذ يتراجع ويغيب كوسيلة لمواجهة الأزمات وأصبح أهل العلم والدراية والمعرفة في ذلك العصر في واد ورجال الحكم والسياسة والقيادة في واد آخر، وغدا ثمـّة فصام نكد وقطيعة عميقة بين رجال السيف والحكم وأهل القلم والعلم. وهنا لا بد من تسجيل التحول والتغير الذي حدث لمفهوم مصطلح الإجماع من جهة، ومجالات توظيفه واستخدامه من جهة أخرى.

فبعد أن كان الإجماع ينصبُّ على القرار الذي تتوصل إليه جماعة أهل الرأي والعلم والدراية مع رجال الحكم والقيادة في التصدي للنوازل والحوادث التي تعم الجماعة والأمة، غدا هذا المفهوم غير مستقر ولا معتبر. فقد تمّ استبعاد دور رجال القيادة السياسية في تصور الإجماع عند جماعة العلماء، وكذلك فقد استبعد رجال القيادة السياسية العلماء في قراراتهم ومداولاتهم. وهكذا فإن القرار الذي يتوصل إليه أيٌّ من الفريقين ما كان له أن يوصف بأنه رأي الجماعة، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف تعذر انعقاد إجماع في أيـة نازلة من النوازل.

ومن جهة أخرى فإن مجالات توظيف واستخدام فكرة الإجماع تغيرت وتوسعت وأصبحت يقحم بها في جميع المسائل والقضايا بغض النظر عن كونها مسائل عامة أو مسائل خاصـة. وتمّ استدعاء مفهوم الإجماع للمصادقة على أحكام مسائل وردت فيها نصوص من القرآن والسنـة حتى المتواتر منها في كل صغيرة وكبيرة تحولاً عن سيرة الرعيل الأول من الأصحاب في توظيف فكرة الإجماع للإسهام في معالجة الأزمات المتجددة والنوازل العامة الطارئة.

وأصاب مفهوم الإجماع تحول آخر إذ أصبح يعني موافقة جميع أهل العلم دون مخالفة أحد منهم، بحيث إذا كان لأحد العلماء رأي مخالف لرأي الجماعة فإن الرأي الذي يتوصل إليه الغالبية لا يعـدُّ إجماعاً ملزماً وذلك على العكس لما كان عليه الأمر في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين حيث كان يـُكتفى لانعقاد الإجماع بالرأي الذي ترجحه الغالبية والسواد الأعظم ويتم اعتماده رأياً للجماعة تتحرك بموجبه تأكيداً لوحدة الكلمة والتوجه. أما الآراء التي أدلى بها المتحاورون عند التداول والتشاور بين أفراد أهل العلم والمعرفة، فيتم التنازل عنها ‑عملياً‑من أجل رأي الأغلبية.

أضف إلى هذا أن القرار الإجماعي في عصر الرسالة وعصر الخلفاء الراشدين كان يتشكل من جماعة أهل العلم والمعرفة والدراية في المنطقة التي تنزل بها النازلة، ولم يـُؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث أحداً إثر العالمين من الصحابة القاطنين في أماكن أخرى للمشاركة في اتخاذ قرار الجماعة في النوازل التي كان يجمع لها الصحابة للتشاور والتحاور.

ولم يُؤثـَر كذلك عن الخلفاء الراشدين استدعاؤهم علماء الصحابة أو الولاة إلى المدينة للتشاور معهم والتحاور في النوازل التي اتخذوا فيها قرارات عرفت بعد ذلك بإجماعات الصحابة.

وهذا يعني أنه لم يكن ثـمّة توسع في اندراج عالمين خارج منطقة النازلة في عصر الرسالة وعصر الخلفاء الراشدين. ولكن هذا الحصر لدائرة الداخلين في تشكيل الإجماع تبدل وتوسع حتى أصبح يشمل اندراج جماعة أهل العلم والمعرفة القاطنين في أرجاء الدولة الإسلامية بغض النظر عن كون النازلة عامة لجميع الأقطار أو خاصة لبعضها دون بعض.

ومن هنا يمكن القول إن هذه التحولات في مفهوم الإجماع ومجالات استخدامه صيّرته مصطلحاً ذا مفهوم مثالي ‑غير واقعي‑وغير فاعل ولا مؤثر في تشكيل رأي موحد في توجيه الأمة عند الأزمات والنوازل.

ولا تزال حالة مصطلح الإجماع على ما كانت عليه منذ عهد التدوين إلى يومنا هذا إذ ليس هناك تجديد في الموقف من المعاني المثالية التي نسجت حوله بعد عصر الخلفاء الراشدين. وعلى هذا فإن إعادة الواقعية والفاعلية إلى مصطلح الإجماع تظل مرهونة بإعادته إلى سيرته الأولى وسيلة للتصدي للنوازل الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتجدد على الساحة يوماً بعد يوم، للوصول إلى قرار جماعي ‑أغلبي‑ ينطوي على خير ما يعلمه أهل الدراية والمعرفة في الأمة، وتجريده من المعاني المثالية التي نسجت حول مفهومه والمتأهلين له ومجالات توظيفه.

إن النقاشات التي تمتلئ بها بطون كتب الفقه والأصول حول فكرة الإجماع تعريفاً وحجيـّة، وإمكانية وقوع أو عدمه، وشروط المجمعين، وحكم نسخ الإجماع بإجماع آخر، وغير ذلك من المسائل التي لا نفتأ نرددها ليل نهار، إن تلك المناقشات تغفل ما كان للظروف السياسية والفكرية من تأثير في توليدها ولهذا فإنها تجنح إلى التكرار ولا تسهم في البحث عن الحلول العملية وعن البدائل للخروج من النظريات المثالية في تاريخنا الإسلامي. ولهذا لا بد من إعادة الوعي للمنهج النبوي في تسيير الشؤون العامة للأمة ومنهج خلفائه الراشدين في اتباع تلك المنهجية في قضايا الأمة المصيرية بحيث تستبعد دعاوى الإجماع في أية قضية فردية لا تعم بها البلوى، ويكتفى بالحديث عن الإجماع في المسائل المصيرية لعموم الأمة وجوداً وتنظيماً وتخطيطاً. أما مسائل الأفراد وقضاياهم الخاصة سواء وردت فيها نصوص أم لم ترد، فليس من المقبول اقحام الإجماع في تلك القضايا بل تترك للعلماء لإبداء وجهة نظرهم فيها بما يتناسب مع مرونة الشريعة لاستيعاب اختلاف الأحوال والأشخاص.

ويوم تعي القيادة السياسية في بلاد المسلمين هذا البعد الإجماعي في تدبير شؤون الأمة المصيرية وأحوالها العامة، فإن استقراراً سياسياً وأمنياً سوف يعم الأرجاء فتنعم به البلاد والعباد.

وأخيراً فإن ما يصادفه المرء في كتب الفقه والأصول والفروع من دعاوى الإجماع على كثير من المسائل الاجتهادية لا يعدو أن يكون دعاوى لا نصيب لها من الحقيقة والمشروعية، ومن ثمّ فإن تجاوزها باجتهاد شرعي صحيح لا يترتب عليه تفسيق ولا تبديع أو تكفير، وذلك ترجيحاً للمقولة الذهبية التي رد بها الإمام أحمد رحمه الله على غلاة دعاة الإجماع في كل صغيرة وكبيرة من المسائل الاجتهادية “…من ادعى الإجماع فهو كذاب، لعل الناس قد اختلفوا، ما يدريه؟ ولم ينته إليه، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا”.

ونأمل أن يكون في هذا التحليل الموضوعي لمعنى الإجماع تأصيل للتوجه الجماعي ونبذ الفردية في معالجة القضايا العامة. ونأمل كذلك أن لا يساء فهم هذا الطرح لمعنى الإجماع ليتخذ مسوغاً لطرح ما أجمع عليه علماء ومختصون في شأن من الشؤون قبل وضوح الحجة وقيام البينة على وجاهة الانتقال من رأي إلى آخر لأسباب موضوعية واقعية وبعد استشارة وتداول يؤكد غياب الارتجال والاستعجال.