ملاحظات حول الخطاب العقدي في السياسة

242

غالبا ما تنقسم المواقف بناءً على رؤية كل فرد للواقع من زاوية مطلقاته في الذهن، فيتمّ إسقاط هذه الرؤية الإطلاقية على سير الأحداث في الواقع وجعلها تتماهى معه حتى يكون الحكم المعبر عنه من خلال الموقف معللاً بذاته.

هذه الرؤية المستمدة من التصورات الذهنية تشكل حكماً على من يدخل في نطاقها وهي في الوقت نفسه نظرية تشرح سيرورة الواقع الشديدة التعقيد وتبرر بهذا الشرح ذاته طبيعة أحكامها الأولية في حقه.

ليست التصورات الذهنية نتاج التأمل العقلاني الصرف، فهي تتفاوت من مستوى إلى آخر، فيها خليط عجيب من اللاعقلانية والعقلانية على صعيد واحد، مسلمات انطباعية من البيئة مع حقائق يقينية هنا وهناك، يتداخل فيها النفسي مع الاجتماعي، ويكون للزمن والظرف قدرة فائقة على حفر آثاره المعرفية داخل هذه البنية التصورية.

في الغالب تستمد هذه التصورات الذهنية، كفكرة أو مسلمة أو عقيدة، حجيتها اليقينية في التسليم والاقتناع “العقلي” من الحميمية الوجدانية بحكم المعطى الطبيعي، وهذا ما يجعلها هشة وصلبة في الوقت نفسه، فهي هشة أمام البرهان العقلي والعلمي، وفي الوقت نفسه صلدة ومثابرة بعناد في الرفض والدفاع عن وجودها بحكم المشاعر الحميمية والألفة الانتمائية.

من السهل رد هذه المواقف ورفضها لعدم علميتها في الحكم، لكونها متحيزة بالطبع، وهذا طبيعي ولا غرابة فيه، بل الغرابة في توقع الإنصاف والحياد في شأن ذي تعلق حميمي على مستوى رؤية الإنسان لجواب سؤال: من يكون؟

فالعاطفة الحميمية لا يملك العقل سلطان عليها وهي لا تحيل إلا إلى ذاتها، ويفيدنا علم الدماغ المعاصر بأنها مستوى من مستويات الإدراك العقلي.

تتبع علل تكوّن هذه التصورات الذهنية لدى العامة من خلال تراكم السببية الخطية من التاريخ القديم وبخلاف مطالبة الدين لأتباعه للتحرر من التحيّز إلا على قاعدة الانحياز للحق من خلال الاقتناع الحر، يكون تتبعاً سقيماً؛ لكون سيرورة الحركة التاريخية لا تعرف المسار الخطي المباشر.

من نكون؟

هذا السؤال الذي إذا لم يجب عنه العمل، انشغل النظر بملء فراغ العمل بما يجب أن يكون عليه، والملاحظ أن التعويض من النظر لقصور العمل هو آلية نفسية للمتعاجز والقاعد عن العمل أصلاً، فالانشغال النظري يكون من مدخل الترف عند التفوق، ويكون من مدخل “الاجترار” لذاته اللفظية طالما لم يحقق مصداق ذلك في الواقع.

انفصلت التجربة عن القيمة في واقعنا المعاصر، كما انفصل الواقع عن المثال العقدي مما ولد أزمة وجودية، فيها الواقع يملك الواقع فيها آليات فرض تصورات تخالف التصورات القيمية المعهودة للأمة، واستطاع بحكم عوامل تفوقه المستمد من الآخر أن يفرض طقوسه الموحدة للإنسانية على صعيد الاستهلاك الخادم لقيمه الوجودية، الأمر الذى دفع الناس للعودة إلى خصوصياتها الثقافية والعقدية لمحاولة التميّز فيما بينها تحت سقف التوحد الاستهلاكي.

وفي رأيي، أن التميّز يكون له احتياج معنوي يبلغ مرتبة الضرورة ليس كتعبير عن أنانية الإنسان الذاتية وسعيه لحيازة الحقيقة كما يحوز الأشياء المادية فقط، بل لتوازنه الداخلي وإمكانية استمراره في الحياة من خلال الاطمئنان الوجودي لحقانيته وصوابه بواسطة ما يضفيه على انتمائه العقائدي كاحتكار مخصص له لا مجال للاشتراك فيه أو كونه مشاع عام للإنسانية.

هذه الرغبة في التمايز بفعل عوامل تطور السوق وهيمنة منطقها المادي، جعلت الدين وفى وفي قلبه العقيدة هو قاعدة الانفصال عن الغير وتحقيق الذات المتميزة، أي أن عودته هي تعبير عن الهوية المفتقدة في وحدة النمط الاستهلاكي، وليست تجديد في الجواب الميتافيزيقي لأسئلة الوجود.

فالعودة نتاج أزمة، الحاضر فيها يتطلع للمستقبل من خلال الماضي.
هذا ما يفسر الانشغال بالشكل والمظهر على أنه حقيقة المخبر، لأن الهوية تعبيرات مظهرية للخارج، تملك الدلالة عن مدلولها بالرمز والشكل، فتنحط عندها مستوى الأفكار والتصورات إلى مستوى الدلالة الحسية، فالعمق لا يتجاوز السطح، والباطن له شكل يجب أن يكون عليه في الظاهر ليصح به ما في الداخل!

هنا تلتقى تلتقي وتتقاطع دروب السالكين وراء غاياتهم، في الخطاب العقدي للمعارضة السياسية كأساس للتحليل السياسي ولتحديد موقفهم تجاه الخصم من منطلق مسلمات التصنيف العقدية، كما من منطق اللعبة السياسية للدولة الذى يسمح باستخدام قضايا لاهوتية وميتافيزيقية كغطاء على حقيقة صراعها الجيوسياسي والجيواستراتيجي.

وهذا التلاقي له دلالة خطيرة نشتق منها الآتي:

١- أن الدولة ككيان واقعي وكفكرة حقيقية هي عبارة عن قشرة خارجية هشة في خضم الصراعات الحادة، سرعان ما تنكسر بسهولة أمام الهجمة الخارجية، نموذج العراق وليبيا ماثلان عياناً، فرعب الطاغية لمعارضيه وقسوته في الإمساك بالمجال الداخلي لا علاقة لها بهيبة الدولة وقوتها.

٢- أن السلطة السياسية وليس الدولة هي من تستعين بهذه الاستخدامات لديمومة وشرعية بقاءها كممثل للدولة، فسيادة الخطاب العقدي في النزاع السياسي يشرع بقاء السلطة وهيمنتها عليه كممثل لنفس هوية العقيدة المتشابكة مع خصومها، تصبح هنا السلطة اللادينية الفؤاد ذاتها دينية اللسان والخطاب.

• الدولة تمثل الإجماع العام للأمة، أي القواسم المشتركة بين الجميع وهذا يتطلب تحقق الحد الأدنى اللازم من الحقوق للعيش الكريم أو ما نسميه الحقوق الأساسية الثابتة للإنسان بحكم كونه إنسان، أما السلطة فهي القوة الحاكمة بفعل ميزان القوة في صراعها مع القوى المنافسة.

٣- لا يصح أن يُفهم أن عودة الخطاب العقدي وانتشاره نتيجة تآمر السلطة، ففاعلية الخطاب في وجدان الناس حقيقة مسلّمة بها وتوظيف هذا الخطاب في التعمية دليل على أهميته ومركزيّته بالنسبة لباقي القضايا؛ فسيادة الخطاب العقدي التعبوي ليس أداة ووظيفة قوى السلطة في الاستخدام إلا في بُعد من أبعاده المركبة وبطريقة استغلالية لا قدرة لها في تخليق الظاهرة ذاتها من العدم، فهو كذلك إحساس حقيقي معاش بانفعال في الواقع الشعبي، وانتماء للاحتماء من الأخطار وأولها خطر تغول السلطة ضده – أي أنه علاوة على طمأنينة الإيمان الداخلية المتولدة من الاعتقاد بكون الشخص على الحق، هناك وظيفة اجتماعية تولدت من التوحش السياسي تتمثل في الحماية الخارجية بفعل آلية الانتماء إلى جماعة / أمة العقيدة وهو كذلك تأويل للواقع وأحداثه المتسارعة بمماثلته بأجناسه من صور الذاكرة التاريخية، كما يشكل رد فعل متراكم يستلهم القوة من كونه صاحب الحق والحقيقة.

٤- طبيعة الخطاب وظرفه تحيلنا إلى مسألة الهوية، وهذه عادة هي أرضية العمل السياسي، مما يجعل الخطاب في واقع احترابه وتشابكه يستهدف ترسيخ للهويات الناشئة على حساب الهوية المعطاة تاريخياً التي ينظر لها بصفتها انحراف عن الحقيقة؛ فاللغة تعبير عن جوهر خارجي سياسي يتصور بأنها مرآة لحقيقة الداخل الطبيعي الثابتة جوهرياً.

فالهوية تتحدد ببعد واحد هو الدين الذى يشمل كل مناحي الحياة، فالسياسة ليست عندئذ إلا مخارج لما يقرر في الداخل النصي تجاه الآخرين من سلوكيات وأحكام يجب أن يلتزم بها المتديّن كدلالة على التزام الإيمان، وهذه العلاقة من الداخل باتجاه الخارج، مسار أحادي لا إمكانية فيه للسير عكسياً، فلا ندية أو تساوي حتى يكون لكل سيره ومساره، بل خضوع لمن هو جدير بالقيادة بحكم كونه كون أصوله وتقريراته من المقدس.

• التحليل السياسي في الخطاب العقدي يجعل الظواهر المركبة شديدة التعقيد، بسيطة وثابتة جوهرياً منذ الأمد لأن السياسة خطط في تحقيق العقيدة / اللاهوت.
• ما يجعل الظواهر بسيطة في الخطاب العقدي هو ثنائية الحق /الباطل كعنوان في مقاربة الظاهرة، فيكفى فيكفي أن تكون باطلة من مدخل مفارقتها لمنظورك حتى تختزل تعقيداتها التكوينية وتشابك علاقاتها إلى بعد واحد هو طبيعة الاعتقاد لتكون عندئذ بسيطة بحكم كونها باطل.

٥- لا يمكن أن تستخدم أداة ما إلا إذا كانت لها يقيناً فاعلية ورصيد اجتماعي تنشده الجماهير، وهذا الاستخدام الأداتي لا يجعل أصل القضية زائفة، لكن توظيفها يراد به الزيف السياسي، فالدولة ليس من غاياتها النهائية تحقيق الهوية القومية التي يجب أن تكون الساحة التي يرفع عليها بناء الدولة، ولكن السلطة السياسية تَخَلَّق وتربي مجتمعها على الهوية التي ترتضيها، فالهوية صناعة مركبة تتوسل إليها السياسة بواسطة السلطة، فلا غرابة أن تصدى الفقهاء والعلماء قديماً للسلطة في اقترابها من العقيدة بعد افتراقها عن أصول العقد، لأن الإكراهات قاعدة السلطة في الفرض بغض النظر عن الحجة والاقتناع.

٦- هذا النمط من البنية العقدية الذى يعمل كمحدد للهوية في صراعها السياسي يفرض بحكم أبجدياته نمطاً معيناً من الحلول تعرفها قبولاً السياسة وتنبذها رفضاً العقيدة، فلا تصالح بين المتخاصمين على صعيد العقيدة إلا بالإبادة أو الإخضاع المهين أبداً، لا حلول وسط بين الحق والباطل إلا بغلبة الحق، وكلا في خطابه التعبوي على حق ويحوز الحقيقة في وعيه بغض النظر عن صحة ذلك نظرياً.

٧- في ظل هذه اللغة تتحدد للسلطة طبيعة وظيفتها، وتصبح الدولة بفعل التماهي بينها وبين السلطة ذات وظيفة عقدية محددة بمضمون الخطاب العقدي وبالتالي فمرتكز شرعية هذه السلطة يتقيد بتحقيق مضامينه واقعياً لأنها أصبحت أسيرة لهذا الخطاب عند استخدامها له مما يجعل التقلب عنه فيما بعد مهمة شديدة الخطورة على السلم الاجتماعي .

٨- الهوية على المستوى الجمعي قضية مباينة للهوية الفردية، أو ليس هناك مطابقة حرفية بينهما، وإن كان الإطار الجمعي هو وعاء الانتماء الفردي، لكن استخدام التصور العقدي في الصراع على وجهة وجوهر الهوية الجمعية يجعل القناعة والاقتناع الفردي الخالي من الإكراه قضية لا معنى لها؛ فالهوية هنا تفرض فرضاً كمعبر عن الجماعة في صراعها، والصراع ذاته لا يسمح بالحياد، لأن الحياد فيه يقتضى الفناء، فحتى لو كنت مخالفاً لهذا الاستخدام ستبقى في وعى وعي أعداءك عدواً لهم بحكم هويتك التي لم تختر، لهذا لا معنى للاقتناع كمدخل للفكرة، والأمان هناك في أحضانها، فهي مملوكة بالانتماء الإكراهي للجماعة.

٩- فرق من حيث الأثر، بين اللغة الوصفية واللغة الأدائية، فالوصف في اللغة هو مجرد تعبير عما هو كائن واقعاً، أما الأداء فهو بلغته إنشاء لواقع في الخارج بعد أن تقرر في الداخل الاعتقادي، وهذه خطورة هذا الجانب من اللغة، فأنت لا تصف في الاحتراب إلا ما تبغ بوصفك أن تهدمه وتنشأ واقعاً مخالفاً له ومطابقاً لصورة اعتقادك.

فالدلالة الوصفية في المفردات والمصطلحات العقدية هي دلالات أدائية تنشأ واقعاً بتلفظها، يعنى يترتب على اللفظ أحكام واقعية هذا من جهة الأصول الشرعية، أما من جهة اللغة فتفكر في قول القاضي أو (المأذون) في قضية أو حتى في مسألة عادية كالزواج، بعد استيفاء الشروط، أليس حكم الشرعي لحظتها وهو لفظ منشأ لحالة لا ينشئها لفظ مماثل من غيره من الناس. كذلك الأمر وأخطر في هذا النمط من الاستخدام اللغوي من جهة الوظيفة الأدائية.

١٠- المراهنة على الدولة كغاية في قوامة الشرع عند استخدام الخطاب العقدي، يستوحي قيمته الأصلية من التسليم للقوة بالقدرة على تأسيس الإيمان.

١١- الهوية تكون لدى الإنسان مركبة، لكنها في التوظيف العقدي هي هوية بسيطة لأنها لا تعترف لبقية الأبعاد الأخرى بأية صلاحية في تقرير ما يجب وما لا يجب؛ فالمنظور العقدي يرى الكل بعيون عقيدته وأحكامها، والسؤال هل الهوية معطى طبيعي أم مكون ثقافي مصطنع؟ بمعنى هل تلد الهوية بولادتنا أم أننا نكتسب الهوية بالتنشئة؟

فالمنظور العقدي يترتب عنه أحكام أخلاقية تمس خصوصيات الفرد، وهي أخلاقية لديه لكونها صدرت عن المقدس في أوامره ونواهيه؛ فأخلاق الدين تكون أخلاقية بحكم تحقيق مراد الله في طلباته، فلا أخلاق خارج محددات الطلب الإلهي، بل الأخلاق في تنفيذ ما يجلب رضى الخالق وفق إيمان الشخص به.

وهنا نجد أن حركة الأخلاق في الواقع قد ابتعدت عن أخلاق النص الدينية من جهة دلالة الأمر، بمعنى أن الأخلاق المعاصرة لا تستند إلى الدين في تحديد واجباتها، بما يجعل أخلاق الدين مستهجنة خلقياً بالنسبة للأخلاق المعاصرة. فالقتل في الدين من أجل الدين له مبرراته الشرعية عند البعض، لكن القتل من أجل الدين مرفوض ويعدّ جريمة في الأخلاق الحديثة.

١٢- الهوية نفسها التي تتحدّد بمقوم الخطاب العقدي، ليست إلا الهوية المصطنعة ثقافياً، أي أنها ليست معطى طبيعي بالولادة،

في الخطاب العقدي قضية الهوية من حيث كونها جنسانية لا جنسية مولود طبيعي للسياق الخطابي التراثي، فتتكون بالأداء الخطابي العقدي ومحدداته المتراكمة تاريخياً، فلأنه يبتغى يبتغي بعث الهوية على أساس الدين وحده، كان الدين عندئذ هو تدين الجماعة عبر التاريخ، فالهوية تعبير عن استمرارية الحقانية المتوارثة من جيل إلى آخر على مستوى التقليد والإتباع والاتباع.

١٣- نصل بهذا إلى ملاحظة عملية تتمثل بالتديّن المفارق للدين أخلاقياً؛ فالتديّن الشائع يسهل ملاحظة أنه تديّن مفارق في واجباته عن الواجبات الأخلاقية، فسوء الأخلاق قضية متناسبة طردياً مع انتشار التديّن للأسف الشديد وهذا أيضاً طبيعي رغم المفارقة، لأن التديّن هنا متميز عن الدين والإيمان، فهو منظومة عقدية أي بنية عقلانية معقدة ومتشكلة تاريخياً و طبقياً فوق مسلمة الإيمان، هو ميراث الأباء الآباء في اجتهاداتهم وتقريراتهم بما يلائم سقفهم المعرفي، والميراث يتعصب له فحقه حق وباطله كذلك حق.

إذا أدركنا أن الغايات هي تراكم الوسائل إليها، نكون بهذا الخطاب العقدي في التوظيف السياسي قد جعلنا المستقبل من جنس حاضرنا البائس. فأخلاق الفرد الناجمة عن حسن التربية قضية خاسرة إذا لم تتمكن من جعل البنية الاقتصادية والسياسية ذات مردودات أخلاقية تدعم أخلاق الفرد وتهذبه.

لكن أخلاق السلم تنافر أخلاق الحرب، واستدعاء الخطاب العقدي وتوظيفه من طرف السلطة يدلّ على العزيمة في جعل الجريمة في شكل قصاصٍ شرعي بغرض تأجيل أجلها إلى أمد طويل.

هنا يبرز بوضوح مرامي توظيف الخطاب العقدي، فباطل وجرائم الحكم الذي ينتمي إلينا غير ذات عبرة لأنه منا، ولأنهم بحكم كونهم هم يستحقون ذلك؛ فالسياق الخطابي للعقيدة يخلق الأجواء المبررة لأي فعل كان حتى لو كان جرائم تقشعر لها الأبدان، فالضرورة لها أحكامها القاسية.

08-08-2016/11-05-1437