“منـاهـجـنا الـفـكـريـة “تحت ضوء القمر

611

النظر في المواقف تجاه إثبات الشهر القمري يشير إلى مناهج التفكير الشائعة بين المسلمين فيما يخص المسائل الشرعية.

فهناك – أولاً – من يهشّ لقضية الحساب تحت لافتة مكتوب عليها بأحرف دعائية كبيرة “عصر التقدم” . والعلم بالنسبة لهؤلاء جنّيٌ عجيب الطباع ، مليءٌ بالمفاجآت اليومية القادرة – حسب تصورهم – على الحكم في كل شيء على الإطلاق ، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، ومن عالم الخلق إلى عالم الأخلاق ، ومن حلبة الملاحظات المحسوسة بالأبصار إلى فضاء الإرهاصات المكنونة في الصدور . فالعلم عندهم وحيٌ جديد ، وربما وحيٌ ناسخ … وبعبارة أخرى : فإن احتفال هؤلاء بقضية الحساب ليس احتفالاً بالمعرفة البشرية التي مكّننا بها المولى بما أعطى الناس من ملكات العقول ، أو احتفالاً بالعلم كأداة تمكننا من معرفة أعمق .. وإنما هو احتفالٌ بالتطبيقات العلمية كهيلمانٍ قاطع يحجب كل ما سواه ويلغي أي مستوىً لفضاءٍ معرفي آخر . إنه احتفالٌ بأن الإسلام هو أيضا (hi-tech) مع غيابٍ لمعنى التدين .

وهناك العمليون البراغماتيون ، الذين يرحبون بإثبات رمضان حسابياً لأنه يُسهِّل عليهم حجز قاعات الصلاة والاحتفالات ، وتنظيم الأنشطة وترتيب السفر في الطائرات ، وطباعة التقاويم الرمضانية قبل وقت معقول ، وإدراج يوم العيد في اللوائح العالمية لأيام عُطلِ الأديان ، وما شابه ذلك من الاعتبارات . وهذا الهمّ عندهم أصلٌ له أولوية سابقة لمفهوم الصوم كعبادة أو لوجود النص . وليس المقصود من هذا الكلام عدم أخذ العملية والواقعية بعين الاعتبار عند تعاملنا مع التشريعات ، فاليسر في تطبيقها مطلوبٌ لا شك فيه ، ولكن على أن لا يكون ذلك الاعتبار – من ناحيةٍ منهجية – نقطة بدايةٍ وانطلاق .

وهناك الغائصون في كتب الفقه ، يمسكون بمصباحهم الخافت ويبحثون في أقبية التراث عن عبارةٍ أو شبه عبارة يمكن أن تُؤَوّلَ لصالح الحساب أو عدمه أو إبطاله . وهم في حيرةٍ من أمرهم لمن يتحزبون ، لهذا المذهب أو ذاك ، ولأي وجهٍ أو قولٍ في المذهب الواحد يجب أن يذهب ترجيحهم .

وهناك من تجاوزوا الحواشي بل وتجاوزوا المتون ، ونظروا في النصوص وتفكروا في مفهوم الرؤية أصلاً ، وفي معناه في القرآن ، ووجدوا أن لفظ الرؤية لا يُطلق دوما على الرؤية العينية البصرية بل على المعرفة واليقين .. ورأوا أن التأويل في الحديث كثيرٌ منتشر إذا اقتضت القرينة ، ورأوا في الحساب قرينةً موجبة .

وهناك من تُؤرقهم قضية وحدة المسلمين ، ويرون في مسألة حسابه الشهر الكريم فرصة لتقوية شعور التماسك وتسهيل أمر التواصل . وذلك أنه – ولأولِ مرةٍ في تاريخ البشرية فيما نعلم – يمكن لإنسانٍ في مشرق الأرض أن يكلم إنسانا في مغربها ، وأحدهما صائمٌ والآخر مفطر . وهؤلاء تُحرجهم وحدة اللحظة تلك وآنيّةُ الزمان هذه ، وتُحرك في قلوبهم الشك حول صحة الصوم أو الإثم في الإفطار ، ومن ثُمَّ تتحولُ مكالمة التواصل هذه إلى مكالمة تفارق أو على الأقل توترٍ وعدم ارتياح .

ولقد كان الجواب المعتاد على مثل هذه المسألة أن كُلاًّ يصوم حسب محلّته .. ولكن مفهوم المحلّة نفسه تخلخل ، سواء بسبب امتداد المدن والتصاقها، أو بسبب اصطناعية الحدود الجغرافية التي تُحددُ المحلة ، أو لعدم انطباق المحلة على الانتماء الشعبي/ القومي / القبَلي .

وعلى هذا ، ووفق هذه التصورات ، تردد المسلمون في اعتبار قضية الحساب ، وإلى أي مدى يمكن اعتبارها ، فانقسموا في ذلك إلى فريقين . ففريقٌ يرى أن إثبات الشهر يجب أن يكون بالرؤية ، على أن نستعمل الحساب كـ “ضابط” يحرسنا من الخطأ أو التلفيق . فإذا غمَّ القمر أو لم يرهُ أحد لا نُثبت الشهر ، ولكن إذا رآه أحد نعود إلى الحساب ونرى هل وُلد القمر أصلاً أم أن الشاهد كان واهما . فإذا كان القمر قد وُلد حسابيا أثبتنا الشهر ، وإلا حكمنا على الشاهد بأنه كان واهما فيما رآه .

أما الفريق الآخر ، فقد خرج برأي – يتبناه الأكثر ون اليوم – أسموه “إمكانية الرؤية” . فمن المعروف أن القمر يجب أن يغرب بعد الشمس حتى يُعتدّ به ، ولكن إذا غرب القمر بعد الشمس بفترةٍ قصيرة (أقل من حوالي عشرين دقيقة) فإن من غير الممكن رؤيته بسبب وهج الشمس الباقي . ولذا قال هؤلاء : نأخذ بالحساب لا من جهة ولادة القمر وبدء الشهر فلكيا ، وإنما ننظر في ساعة غروبه ، فإذا غرب بعد فترة مديدة (مثل ساعة كاملة) أثبتنا به الشهر وإلا فلا نثبته . أي أن هذا الفريق لا يقول بالحساب الفلكي وإنما بما يمكن أن نسميه “الرؤية الفلكية” ، فلو غُمَّ علينا وغرب القمر بعد فترة مديدة أثبتوا الشهر . والحقيقة أن مفهوم “الرؤية الفلكية” هذا أغلق باب الخلاف حول وجوب الرؤية بأُمِّ العين أو الرؤية باستخدام المناظير ، ولكنه فتح باب الخلاف في تقرير ما هو الحد الذي نعتبر فيه الرؤية ممكنة . ذلك أن راصداً ماهراً يمكنه بسهولة رؤية القمر بعد نصف ساعة من غروب الشمس إذا وافت الشروط (مثل صحو الطقس وزاوية القمر) ، فهل نعتبر نصف الساعة على أنها الحد المطلوب ، أم نقول بأربعين دقيقة أو أكثر ؟ والإشكالية أنه كلما مدَّدنا طول هذه الفترة لتكبير عامل الأمان ، أصبح احتمال الرؤية أكبر ، لأن حجم القمر عندها سيكون أكبر ومكوثه في السماء سيكون أطول زمانا . وبهذا ، يفتح لنا هذا التوجه احتمال العودة إلى نقطة الصفر ، لأننا نصبح عندها بحاجةٍ إلى مجلس يقرر ما هو الحد المقبول من زمنٍ بعد الغروب . ومن ثم تتحول مشكلتنا مرةً أخرى إلى مشكلةٍ سياسية تنظيمية لغياب القادر على الحسم في هذا الأمر بشكلٍ يقبل به ويتفق عليه الجميع . إضافة إلى أن هذا الأمر سيطرح – غالباً – احتمال صوم رمضان ثلاثين يوما في أكثر الأحيان ، إذا أُخذ الاحتياط في كل مرة في إطالة الفترة للتأكد من احتمال الرؤية .

والأمل أن يكون القارئ الكريم قد أدرك – بعد هذا العرض – مناسبة عنوان هذا المقال ، وكيف أن قضيةً مثل إثبات شهر رمضان تكشف تهافتنا الفكري إلى أبعد الدرجات .

وإن المرء ليتعجب من عدم قدرتنا على تجاوز المستوى المعرفي لمن سبقنا . لقد وضع سبحانه وتعالى الآيات الكونية لنعلم {عدد السنين والحساب} ، وجعل {الشمس تجري لمستقر لها} ، والقمر قدره سبحانه وتعالى {منازل} ، وأمرنا أن نسير في الأرض “نتفكر” بها و “ننظر” فيها . وإذا كان حظ العلمانية في “كشف” أسرار هذا الكون أن تجعل ذلك الكشف حلبةً لصراعها وميدانا لنهمها ، فإن التوازن الذي أراده الإسلام من “السير” في الأرض و”النظر” و”التفكر” لا يمكن أن يظهر على حقيقته إلا حين يوقن العقل البشري ويستشعر الضمير الإنساني أن هذا الكون العظيم هو في آنٍ واحد موضع رزق مسخرٍ للإنسان ، ومكمن دليلٍ على العبادات من الصوم والصلاة والحج ذي الأشهر المعلومات والزكاة الحولية التي لا يمكن أن تنفك مواقيتها عن مقاصد الشريعة سواء في التيسير على العباد أو في حفظ التآلف في الصوم والإفطار في نفس الوقت أو في الضبط العلمي الصحيح للمواقيت . ولا عجب إذاً في افتقار المسلمين إلى القدرة على التعامل مع الكون وآياته في المجالين معا (مجال الشريعة ومجال النظر) لأنهما يقفان على أرضية واحدة .

لقد تعبّدنا الله سبحانه بالصلاة وجعل دليلها الشمس ، وأي معرفةٍ في حركة الشمس تحسم الأمر في مواقيتها . ولقد تعبدّنا الله بالصوم وجعل دليله القمر ، وأي معرفة بالقمر يجب أن تحسم القضية . إذا بدأ الليل بغروب الشمس فلكياً دخل وقت المغرب ، وإذا بدأ الشهر بجريان القمر وتحول مركزه فقد دخل شهر رمضان . ولقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الحساب الفلكي بأنه كان إذا غم عليهم يوم آخر بعد الثلاثين لم يترددوا في إثبات الشهر لأن الاحتمال الفلكي للشهر هو بين تسعة وعشرين وثلاثين يوما فقط (كما في نص الحديث) . فهذا هو “مجال الارتياب” (بالمعنى الفيزيائي) المسموح لمن لا يملك فوق ذلك من الإمكانات ، فالتكليف غير منفكٍ عن الإمكانات . ولكن المشكلة تبرز عند إيقاف التاريخ عند تلك النقطة ، فكيف يُقبل الحساب الفلكي التاريخي في إثبات أن الشهر لا يتجاوز ثلاثين يوما (أي كيف يُقبل تعامل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين مع المعرفة الفلكية في زمانهم) ، ثم يُرفض الحساب الفلكي المعاصر في إثبات دخول الشهر ؟!

 

ليس عندي كبير أمل في أن يتبع المسلمون الحساب الفلكي بشكل مطلق ، وأحسب أنهم سيتمسكون بما اخترعوه من “إمكانية الرؤية” للتوفيق أو بالأصح “للتلفيق” بين النماذج العقلية المتناقضة التي تحكم حاضرنا ومستقبلنا ، وسوف نبقى إلى فترة لا يعلمها إلا الله ننظر بعينٍ في اتجاه عالم الغيب ، وبعينٍ أخرى في اتجاه عالم الشهادة ، عاجزين عن النظر بعينين اثنين في كل الاتجاهات ، حتى نبصر ونكون من أولي الألباب والعقول.

 

مازن هاشم

رمضان 1417 هـ/ 1-1997 م