من التدافع إلى التعارف
الحديث عن الحوار في القرآن هو حديث مبارك من شأنه أن يضع البشرية على سكة الفعل الحضاري المنشود الذي يجعل ولد آدم قادرين بالفعل على الإنجاز الذي من أجله ذرؤوا في هذه الأرض لكي يعبدوا الله عزّ وجلّ ولا يشركوا به شيئاً ولا تصدق فيهم رؤية الملائكة حين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
الحوار آلية أساسية في السير قدماً بالبشرية نحو تحقيق مشروعها الكامل الذي يتحقق عبر الزمن.
الحوار مسألة ينثّ بها القرآن الكريم وينبع من جميع أجزائه وأحزابه وسوره وسياقاته. والحوار هو العملية التي تشكل المرقاة من مرحلة التدافع {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] إلى مرحلة التعارف {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
لقد عاش أقوام في الأدغال وتفقهوا في التعامل مع الأرض في جانبها المتوحش واكتسبوا خبرة وحكمة بفعل عيشهم في هذه الأدغال. وهناك قوم فيهم كثرة في العدد – كاليابان – عاشوا في أرض ضيقة غير أليفة فهي تميد بهم وتكثر فيها الزلازل فاكتسبوا حكمة معينة بفعل عيشهم في ذلك المكان. وهناك آخرون عاشوا في مناطق باردة، وآخرون عاشوا في مناطق حارة، وآخرون عندهم التوابل وآخرون ليست عندهم، وآخرون ينبت في أرضهم نوع من الخشب يمكنهم من صناعة العجلات وآخرون ليس عندهم ذلك، وآخرون عندهم نوع من الدواب تختلف عن دواب غيرهم فهم يتعلمون من ذلك أشياء مختلفة؛ فالتعارف إذن هي مسألة تمكن البشرية من تجسير الصلات فيما بينهم وتمكنهم جميعاً إن أرادوا وابتغوا إلى ذلك السبل المناسبة واللائقة من الارتقاء من مرحلة التدافع إلى مرحلة التعارف.
حين يتحدث الله سبحانه وتعالى عن التدافع يتحدث عنه باعتباره سنّة لا تتخلف، وجزء من طبيعة الاجتماع البشري، لكن حين يتحدث عن التعارف يتحدث عنه بصيغة الأمر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فاللام للعلة والغائية، فمن أدرك حكمة التنوع في الخلق وعلته وغايته كان عليه أن يسعى لامتلاك مقدمات وأخلاقيات التعارف الذي لا يمكن أن يتم بدون حوار.
وجاءت سورة الحجرات لتسجل كثيراً من آليات الحوار ومقدمات الحوار للوصول إلى التعارف. لقد بدأت السورة بخطاب المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ فادعاء امتلاك المعرفة وادعاء امتلاك الحق بكل ما يحمله هذا الادعاء من تبجح وتطاول، يقطع الطريق على إمكانية الفهم والتلقي عن الله ورسوله من ناحية، ومن ثمّ يمنع بدء أي حوار جاد، وأي جدوى من الحوار والحديث مع من لا يعرف التواضع ولا يفتح قلبه للفهم ولا يعترف للمخالف بإمكانية الصواب؟
وأما خفض الصوت فإذا كان من ناحية يعبر عن احترام مقام القيادة ومقام النبوة فإنه بلا شك يمثل في مجال التواصل خلقاً حضارياً ينأى بالمتحاورين عن هياج المشاعر والعواطف ويعينهم على التركيز على المعاني والحجة والبرهان ونقاط الاتفاق.
ولا يخفى ما لخلق الصبر والروية وعدم الاستعجال من أثر على امتلاك مقدمات التحاور والقدرة على الاستماع والفهم.
وأما منهجية التثبت والتحقيق وعدم الجري وراء الإشاعات والظنون، فهي في حقيقتها الركيزة الأساسية للمحاورة والتواصل وتبادل الآراء وتقليب وجهات النظر. فمنهجية التثبت والتحقيق تزرع الثقة وتساهم في هدم الحواجز بين المتحاورين لتأخذ عملية الاقناع والبيان مداها.
وتأتي التوصية بمحاولة الإصلاح والانحياز للعدل ومواجهة البغي لتؤكد على امتلاك العقلية القادرة على التبصر في حقائق الخلاف بين الناس وتحري إمكانيات تحقيق العدل والقسط، ولا يخفى ما لهذه العقلية من أثر كبير على امتلاك مهارات المحاورة والاتصال.
ثم تأتي الإدانة للسخرية والتهكم واللمز والتنابز بالألقاب لتضع الاحترام المتبادل كأساس للتواصل والحوار والمناقشة بعيداً عن آليات التكبر والعجب وآليات استخدام إشعاعات الحرمان ضد الأفكار والأشخاص.
حتى إذا وصل السياق إلى ذم الغيبة – والغيبة هي ذكر أخيك بما فيه مما يكره – شبهها بأكل اللحم الميت {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، لكي يصل بالبشرية تربية بخصوص الغيبة إلى درجة من القرف والنفور تشبه النفور من اللحم البشري الميت. وهذه مرحلة ومستوىً لا يمكن بلوغه إلا إذا أُخذت النفس بالتربية الصارمة وبالتدريب الجادّ.
إن تجاوز مرحلة التدافع إلى مرحلة التعارف لا يمكن أن يحدث إلا بهذه الآليات التي استعرضتها سورة الحجرات كمقدمة للتعارف ومقدمة للحوار الذي يمثل الخطوة الأولى على طريق التعارف.
إنّ التعارف يمكننا من استغلال الوجهات المختلفة المتوجهة جميعاً إلى قبلة واحدة؛ فلكل باحث عن الحق نصيب يقل أو يكثر من الصواب، واختلاف الوجهة لا يضر كما لو كنا حول الكعبة نتوجه نحو قبلة واحدة، فكذلك إذا نظرنا إلى مسألة التعارف وآليات التعارف باعتبارها اختلافاً في الوجهة ونشداناً للحق، فلا بد من استعمال الآليات التربوية التي تمر من مرحلة القول إلى مرحلة التربية على الفعل حتى نصل إلى حقيقة التعارف، وهذا تحدي مفروض على البشرية.
إننا اليوم في أوطاننا وخارج أوطاننا نعاني من حرج الصدر تجاه الآخر وتجاه الرأي الآخر، نعاني من سيادة مرحلة التدافع وعدم رؤية الروزنة والنافذة التي ترتقي بنا إلى مرحلة التعارف، لا لشيء إلا لأننا لم نسود القرآن ولم نستنطق القرآن بالقدر الكافي وهذه هي آلية الطرد إلى أعلى، نظرنا إلى القرآن باعتباره مقدساً فطردناه نحو الرفوف في حين أن القرآن جاء ليُفهَم ويُتدبر؛ فرب العزّة يقول لائماً للبشر {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] إذ لا حجة للبشر أن لا يتدبروا القرآن وهو ميسر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، لكي نستنطقه ونستهدي به نحو التي هي أقوم كما قال جلّ وعلا عن هذا القرآن.
إن مسألة الحوار لها جمالياتها التي تستشف من النظر في طريقة القرآن، لكن هناك واجبات تلقى على عاتقنا بعد الاستبصار والوعي لهذه الجماليات وهي واجبات التطبيق وواجبات النهوض لرفع ظن الملائكة بالبشر ومعانقة ظن الله سبحانه {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] حتى لا نسفك الدماء ولا نفسد في الأرض، فهذا الإفساد وهذا السفك يبدأ من الضيق بالآخر والضيق ذرعاً برأي الآخر.
فلا بد من الالتفات إلى هذا الأفق من النظر.
05-1424 هـ / 07-2003 م