شذوذات داعش – قل هو من عند أنفسكم

200

في الوقت الذي يبدو فيه المتطرفون الإسلاميون من أتباع ما أطلق عليه لقب داعش و أمثالها قساة جفاة متعطشون لسفك الدماء، يؤرّق كل مسلم غيور سؤال ملحّ يتعلق بسبب هذه الظاهرة و خلفيات تلك المواقف المتعصبة المتعنتة.

و في البداية ندرك أن هناك عدوان شامل على الأمة، و لا يستبعد المرء احتمال أن تكون هذه الزوبعة من تشويه صورة الإسلام و المسلمين حلقةً من حلقات الكيد للإسلام و أهله و الفتنة عن دين الله و رسالته الخاتمة التي تمثل الملاذ الأخير للبشرية للوقوف في وجه العلمانية المادية الشاملة التي لا تقيم وزناً للبشر و أرواحهم و حقوقهم إذا انتموا إلى مجتمعات أو دول خارج إطار الثقافة الغربية المركزية و سيطرتها المطلقة. لا يستبعد المرء أن يكون كل ما يراه و يسمعه هو من تخطيط و تمويل و تسليح الأعداء المتربصين الذين يملكون الإمكانيات الهائلة للتجنيد و التمويه و التنظيم و الإخراج و توجيه الرأي العام، بحيث يبدو كل شيء طبيعياً و أن سياساتهم في التعامل مع تطلعات الشعوب المسلمة هي رد فعل منطقي بريء لتطرف المتطرفين و شذوذ المتعنتين.

لا يستبعد المرء هذا و لا يستطيع أن ينفيه بيقين، و لكن الوقوف عند هذا التفسير يؤدي إلى العطالة و استحكام اليأس و القنوط و هو بالإضافة إلى ذلك مخالفة للتوجيه القرآني في النظر إلى المشكلات. فبعد هزيمة المسلمين في أحد نزلت الآيات من سورة آل عمران للتعليق على أحداث المعركة و الإشارة إلى دروسها و عبرها. بدأت الآيات ببيان طبيعة العدو – لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم و ما تخفي صدورهم أكبر – و انتهت الآيات بتقرير المنهج في النظر و الاعتبار ((أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم ))، فلا مطمع في أن يغير العدو من طبيعته في الكيد و دفع المؤمنين إلى ما يوقعهم في الحيرة و الاضطراب و الخبال. و لا فائدة في تمني أن يأتي الحل و الفرج من قبل من هذه صفته و خلقه و طبيعته، و لكن الحكمة كل الحكمة و التدبير كل التدبير في محاسبة النفس و تدارك مواطن القصور و استكمال مواضع الخلل و معالجة الثغرات التي قد ينفذ منها العدو بخبث و ذكاء.

و من هذا المنطلق نظرت في قوله تعالى : ((و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله)) و تملكتني الدهشة و الإستغراب عندما وجدت أن معظم المفسرين يثبتون لهذه الآية معنى يبرر التطرف و العدوان و يسيغ الإكراه غلى الدين و يفتح باباً واسعاً من الفتنة عن دين الله. أثبت المفسرون أن معنى الفتنة في الآية الكفر و الشرك، و أن معنى الدين في الآية الطاعة و الخضوع، و على هذا يكون معنى الآية أمر للمؤمنين بقتال الكافرين و المشركين – لمجرد كفرهم و شركهم – و حتى لا يكون هناك طاعة و خضوع إلا لله و شرعه.

و عند التفكير في هذا التأويل تبين لي فساده من عدة وجوه :

 – من القواعد القرآنية الحاكمة قوله تعالى : ((لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي))

و قد بين العلماء أن الله سبحانه لم يُجرِ أمر الإيمان على الإجبار و القسر و لكن على التمكين و الاختيار . و نحوه قوله تعالى ((و لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)). و قد أشار الرازي في تفسيره إلى هذا المعنى بقوله : إنه لم يبق بعد ايضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان و يجبر عليه، و ذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار ابتلاء، إذ في القهر و الإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء و الامتحان .

و قال ابن عاشور في تفسيره : و نفي الإكراه خبر في معنى النهي، و المراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام . أي لا تكرهوا أحداً على اتباع الإسلام قسراً. و جيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً. و هي دليل على إبطال الإكراه على الدين بسائر انواعه ، لأن أمر الإيمان يجري على الاستدلال و التمكين من النظر و الاختيار.

و الأصل أن يتعدى فعل أكره بالحرف ( على ) كما في قوله تعالى ((و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء)) . و في العدول عن حرف (على) و استعمال الحرف (في) إشارة إلى أن الإكراه ليس من طبيعة الدين و لا من طريقته، لأن الدين استسلام و خضوع و التزام طوعي بما أمر الله به أو نهى عنه، فليس من الدين ما يتنافى مع الخضوع الطوعي و الالتزام الذاتي من الإجبار و القسر و الإكراه و الذي يولد النفاق و التحايل.

فإذا امتنع الإجبار و الإكراه على أصل الدين و هو الإيمان، فامتناعه على ما دون ذلك من الآداب و المندوبات و الفضائل أولى و آكد . و عمل النبي صلى الله عليه و سلم يدل دلالة واضحة على منع الإكراه . فقد ثبت نهيه للأنصار الذين تنصر أو تهود بعض أبنائهم في الجاهلية أن يجبروهم على الإسلام . و لم ينقل عنه صلى الله عليه و سلم أنه أجبر أحداً على شيء من أمر الطاعات و العبادات إلا أن يكون متصرفاً بمقام القاضي في حكوماته بين المتنازعين.  و لا أدلّ على التوجه إلى منع الإكراه في أمر الطاعات و العبادات من التعليق القرآني الذي نزل بعد الأمر بترك البيع عند النداء في صلاة الجمعة في حق أولئك الذين انصرفوا عن الصلاة إلى البيع في حضور النبي صلى الله عليه و سلم : ((و إذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها و تركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين)). و لم يثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم زاد على ذلك شيئاً من تأديب أو تعزير .

 – و الأمر الآخر أن تأويل الفتنة في الآية بالكفر أو الشرك يؤدي إلى معارضة فاضحة لقضاء كوني أراده الله تعالى في بناء الكون و هو وجود الكفر إلى جانب الإيمان و الشرك إلى جانب التوحيد ليتم معنى الابتلاء. فالأمر بإزالة الكفر و الشرك من الأرض يتعارض مع الإنكار الواضح الذي ورد في الآية التي أثبتت قضاء الله الكوني و ما أراد أن يمتحن عباده به بقوله : ((و لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)).

– إن تأويل الدين في الآية بمعنى الطاعة و الخضوع فيه معارضة واضحة للنهي عن الإكراه. فليس هناك إكراه أشد و أشنع من التهديد بالقتل. و الالزام بالطاعة و الخضوع يتعارض كذلك مع القضاء الكوني الذي أراده الله تعالى لامتحان عباده بأن مكّنهم من الاختيار و أقدرهم على المخالفة و العصيان. ” فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر “.

 – و معنى الفتنة هو التعذيب و الإيذاء،  و ذلك مثل قوله تعالى ((إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم و لهم عذاب الحريق)). و يؤيد ذلك ما روي عن عروة ابن الزبير قال : كان المؤمنون في مبدأ الدعوة يفتنون عن دين الله، فافتتن من المسلمين بعضهم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، تآمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فهذا هو المراد من الفتنة، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة. فالأمر بالقتال و الإذن به يعتمد على وجود مبرر القتال و هو رفع الفتنة و الإيذاء و التعذيب بسبب الإيمان و الاعتقاد .

– و الدين في سياق هذه الآية هو المحاسبة والمكافأة و الجزاء و مثله قوله تعالى ((مالك يوم الدين)) فحرية الرأي و حرية الإعتقاد مطلب إنساني لا بد من حمايته، فالجزاء و المكافأة على الكفر أو الإيمان هو من شأن الله تعالى يحاسب عباده و يجازيهم على إيمانهم أو كفرهم في الآخرة، و ليس هذا من شأن العبيد.

فتأويل الآية بهذا الوجه لا يزيل التعارض مع آية ((لا إكراه في الدين)) أو التعارض مع القضاء الكوني في الإبتلاء بوجود الكفر و الإبتلاء بحرية الاختيار فحسب، بل يجعل الآية مما يؤكد منع الإكراه و الإيذاء بسبب الإيمان و يجعل رفع الفتنة هو السبب المقبول لمباشرة القتال، مما يتوافق مع مقاصد الدين و يضع رسالة الإسلام – كما أرادها الله سبحانه – رسالة تحريرية للإنسان بحماية أخص ما يميز إنسانيته و المتمثل في حرية الفكر و الاعتقاد.

و كذلك، لا بد من وضع مسألة الردة عن الدين في إطار منع الإكراه، فالتهديد بالقتل هو الإكراه الذي يجب رفعه و منعه. و لذلك ذهب المحققون من العلماء إلى أن الحكم بقتل المرتد ليس بسبب الكفر بل بسبب الإنحياز للعدو المحارب، و هو المعنى المقصود في الحديث النبوي ( التارك لدينه المفارق للجماعة ). فإذا سلمت الردة عن معنى الخيانة والإنحياز للعدو المحارب (مفارقة الجماعة) و التي تشكّل جريمة سياسية يعاقب عليها القانون في كل الدول، فليس للردة من عقوبة في الدنيا غير ما يترتب على الكفر من أحكام فردية تتعلق بالآخرين مثل أحكام الزواج و الإرث و الذبائح و غيرها .

إنه لا بد من المراجعة الجادة لكثير من القضايا الشائكة التي دونها علماء السلف مستريحين لما كان ينعم به المسلمون من أمن و منعة و غلبة فلم ينتبهوا إلى تحرير المسائل التي كان الواقع العملي للمسلمين في مجتمعاتهم يؤصل فيها السماحة و التسامح و حرية الإعتقاد و العبادة. فلما قضى الله أن تكون الدولة لغير المسلمين – و تلك الأيام نداولها بين الناس –  ظهر عوار تلك الآراء و بدا أنها تند عن خصائص الشريعة و كليات القرآن، و تفقد المسلمين رسالتهم الإنقاذية الإنسانية، و تسمح للمعتوهين من المتشددين و الغلاة أن يقدموا نموذجاً من السلوك الهمجي يحسب على الإسلام.

 

29-10-2014 / 06-01-1436