كلمة وفاء / الراحل الجليل الشيخ الغزالي رحمه الله
إن شريط حياة الشيخ الغزالي ليرسم إلى درجة كبير شريط حياة “التجديد الفكري” في أمة الإسلام في هذا العصر . فرغم أن الشيخ الجليل ظل إلى آخر أيام حياته منافحا قويا وصلبا عن الدعوة الإسلامية وعن حَمَلَةِ راياتها على اختلاف انتماءاتهم ووسائلهم ، إلا أنه استشرف في مرحلة مبكرة من عمر تلك الدعوة بعض الإشكاليات التي يمكن أن تنجم عن شيوع عقلية التحزب والعصبية والتقليد .. فانطلق منفتحا على واقع الأمة المباشر ، واختار العمل على جبهة القلم والكلمة ، من خلال هموم الأمة وآلامها وآمالها ، رافعا على الدوام راية التجديد والاجتهاد ، ورافضا أن تكون صورة المسلم في هذا العصر صورة المُعرض عن المستقبل ، الهارب من الحاضر، والمُقيم على ترديد أمجاد الماضي واستحياء صوره التاريخية .
ولقد أكرم الله الشيخ بأن يختم حياته بكتابين أرسى فيهما قواعد أساسية ، يمكن أن تشغل الفكر الإسلامي سنين طويلة ، وهما كتاب “كيف نتعامل مع القرآن الكريم” في مدارسة أجراها معه الأستاذ عمر عبيد حسنة ، و “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث” . فلقد فتح هذان الكتابان ملفا غنيا بالطروحات الأساسية ، التي تشكل إجاباتها معالم الفكر الإسلامي المنفتح والقادر على الخطاب العالمي على المستويين الجغرافي والبشري على حد سواء .
ففيما يخص مناهج علماء الأصول ، تحدث الشيخ في مدى كفايتها اليوم ، وفي إمكان تطبيقها على علوم أخرى . كما تكلم عن مناهج المفكرين المسلمين كأمثال ابن الهيثم والخوارزمي وابن حيان ، وذكر كيف أُهملت مناهجهم المبدعة و زُهِد فيها ، في حين أن الواجب كان يقتضي أن تكون مجال اهتمام وتفكير إلى جانب غيرها من المناهج الفقهية ، فلكلٍ مجاله ودوره وعطاؤه .
ودعى الشيخ الغزالي إلى تبني آراء واجتهادات من الفقه الإسلامي الواسع ، وبغض النظر عن مصدره المذهبي ، إذا كان ذلك يصلح الواقع . وهو إذ ينعى على التشدد والإنغلاق والتعصب المذهبي ، فإنه ينعى – بالدرجة نفسها – على الذين يتكلمون بما لايعلمون ، ويُفتون بلا فقه للنص وأبعاده . معلنا بكل وضوح أن الأئمة السابقين تناولوا المسائل الفقهية (العبادية) باستفاضة لاتدع زيادة لمستزيد ، ولهذا فإنه يرى وجوب أن تتوجه عزمات البحث والتفكير إلى غيرها من المجالات ( أي إلى الواقع العملي في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ).
وفي لفتة ذهنية بارعة تعبر عن وعي الشيخ وجرأته في معالجة بعض ظواهر تاريخنا الحافل ، يتعرض إلى المقولة المشهورة بين أنصاف المثقفين الذين يفخرون بترجمة الفلسفة الإغريقية إلى العربية ، ويتساءل لو لم يكن الأولى بهم “أن يترجموا الفكر القرآني إلى لغات الأرض .. [حيث] كان هذا هو الواجب” . وهنا نراه يدعو إلى نوع من الواقعية والتعامل المرن والواعي مع الأمور ، محذرا من الخلط والغرف في مسائل الأصول والفلسفة ومنابت الأفكار ، ومدركا محورية وأهمية صفاء النبع إلى أقصى الدرجات . وهذا – بالمناسبة – محورٌ رئيسٌ من محاور تفكيره ، لو قرأه وأدرك عمقه بعض من هاجموا الشيخ واتهموه بالتساهل وتقديم التنازلات نفاقا للغرب أو استجابة لضغطه الحضاري، لتمهلوا في أحكامهم المستعجلة ، ولأدركوا درجة توازنه الفكري المميز .
وتعرض الشيخ لقضية مفصلية في حياة الأمة ، تتمثل في كيفية التعامل مع الحديث النبوي الشريف ، الذي يغلب على جموع المسلمين أخذه في اعتباطية كبيرة . وجاء بالعديد من الأمثلة التي عرض عبرها ضيق نظر كثير من الإسلاميين ( على مستوى القيادات والجماهير ) ، مفندا طرق الفهم المجتزء الذي يقطع الأحاديث عن سياقها واتساقها مع العموم القرآني والمباديء العامة للإسلام .
وفي مسألة أخرى يكثر فيها الجدل ، تحدث الشيخ – رحمه الله – في شأن المرأة المسلمة ، فعرض نماذج مشرفة لما كانت عليه تلك المرأة ، ثم أورد نماذجَ تمثل عوارض المرض في كتابات بعض السابقين ، و في ممارسات بعض أهل هذا الزمان على حد سواء . ولنستعرض مثالا واحدا يلخص أسلوبه وخصائص تفكيره ، يقول : “فلننظر إلى السنة ، و لنستبعد منها ما التصق بها من الواهيات أو المتروكات . إن مصاب الإسلام في المتحدثين عنه لا في الأحاديث نفسها . نَبِيُّنَا يوصي بأن تذهب النساء إلى المساجد (تَفِلاتٍ) أي غير متعطرات ولامتبرجات ، ولكن (القسطلاني) في شرحه للبخاري يرى أن تذهب النساء إلى المسجد بثياب المطبخ ، وفيها رائحة البقول والأطعمة” (ص6 ، قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة) .
وكما ذكرنا ، فإن هذا المثال يعكس إلى درجة كبيرة خصائص فكر الشيخ الغزالي وأسلوبه . فهو من ناحية يدعو إلى التمسك بعزة وقوة بالسنة الصحيحة . إلا أن عنده – في نفس الوقت – الجرأة على قول الحق ونقد بعض شخصيات تراثنا إذا ظهر خطؤها ، بغض النظر عن كونها بارزة أو مغمورة ، على أن يكون ذلك من غير تجريح ، أو رمي للتراث بجملته في غياهب النسيان .
لقد أكرم الله الشيخ بقلم سيَّالٍ وعاطفةٍ غامرة ، ومنَّ عليه بعلمٍ غزيرٍ وتجربةٍ زاخرة . فكانت هذه (التركيبة) مصدر حِدةٍ في الشعور و قوةٍ في التعبير لديه ، أدت به إلى بعض المواجهات والمعارك الفكرية التي شهدتها الساحة الإسلامية بين حين وآخر . ولئن كان الكمال لله وحده ، والعصمة لرسله ، وليس ذلك لأحد من البشر ، فإن اتفاق الأضداد من أبناء هذه الأمة على مواجهته أو مهاجمته ربما يُظهر – والله أعلم – صوابية وسَبْقَ كثير من آرائه وأفكاره .
فمن جهةٍ نرى أفكاره تقتحم خطوط الجمود والتقليد الراكدة في حياة الأمة ، فَتَرُجَّ الأرض تحت أقدام الحرْفيين والماضويين الغافلين ، من الذين أزعجهم مَن يريد أن يخرج عليهم وعلى مناهجهم فينظر إلى مقاصد الدين وأصوله ، وإلى عموميات القرآن و كليات الشريعة الكبرى ، كضابطٍ يَحكُمُ على ما يجب أخذه وتقديمه من ناحية ، وعلى مايتحتم علينا رفضه وإنكاره والإعراض عنه مما وصلنا من تراث السلف من ناحية أخرى .
وعلى صعيدٍ آخر ، نجد تلك الأفكار تقض مضاجع المهزومين ممن فقدوا هويتهم وانتماءهم ، و ادَّعوا نَسَباً للثقافة والفكر ، وخُيِّلَ إليهم لِوهلةٍ أن في أفكار الشيخ التي تدعو إلى الاجتهاد والتجديد والانفتاح مدخلا اعتادوا ارتياده ، لفك ارتباط الأمة بدينها ، وتمييع انتمائها الحضاري المتميز . فكان أن خاب فألهم وانتكست آمالهم ، وهم يرون منه المرة تلو المرة مواقف صلبة وثابتة تدور مع مصلحة هذه الأمة ودينها ، وترتفع دوما إلى مستوى المسؤلية فوق كل ملامح الترغيب والترهيب . ليعودوا – بعد مرحلةٍ من الإطراء بدعوى اعتداله وتوازنه وعقلانيته – إلى شنِّ أقسى أنواع الهجوم والافتراء عليه ، والتحريض ضد نشر أفكاره عبر ما أسموه بفتح قنوات الإعلام الحكومي لدعاة التطرف والإرهاب .
واليوم ، وقد مضى الشيخ – رحمه الله – إلى بارئه وأفضى إلى ماقدم، لايسعنا غير الدعوة إلى مزيد من القراءة العميقة الهادئة لما تركه لنا من تراث زاخر ، يجمع معالِمَهُ وملامحه شعارٌ واحد وعنوان واحد ، وهو أن الإسلام جاء دِيناً يُصلح حياة الناس ويعمر دنياهم وآخرتهم ، فكل ماخرج عن ذلك وأوقع الناس في الفساد وضنك العيش وتسلط الظلم والعدوان ، فليس من الدين ، والإسلام منه بريء ، مهما ادعى فاقدوا الهوية والانتماء من جهة ، وحَمَلَةُ النصوص (بدون فهم وفقه) الواقفون على الأطلال من جهة ثانية ، وكأن أهل الفريقين جميعا يائسون من قدرة الإسلام العظيم على إصلاح الحاضر والمستقبل ، وعلى توجيه جهد البشر – كل البشر – لتحويل مسيرة الحضارة الإنسانية العالمية ، والتي هي نتاجٌ مشترك بين الشعوب والأمم ، بحيث تليق أكثر مما هي اليوم ، بكرامة الإنسان ورفعته وشرف قدره بين المخلوقات، بل و بإنسانيته المعتبرة في جميع الشرائع والمعتقدات .
1996/1416