حوار في المقاصد (تعريفات)

588

تحدثنا في العدد السابق بشكل عام عن ضرورة الاجتهاد والتجديد ، وعن الارتباط الجذري بين هذين المفهومين وبين مفهوم مقاصد الشريعة . ثم تحدثنا عن بعض الجهود التي بُذلت في سبيل تبيان معنى مصطلح المقاصد وتحديد دوره في فهم الدين . وأشرنا إلى إشكالية أساسية في معظم تلك الجهود تمثلت في تأكيد معنى (الحفظ) بدلالاته السكونية التي لا تحمل معنى النماء والتزكية والحركة ، ومقدار الاختزال والحصر الذي يمكن أن ينجم عن ذلك المعنى ، إلى درجة يمكن أن تفقد معها عملية الفهم المقاصدي للشريعة كل الحيوية والطاقة الكامنة فيها ، وتفقد مبرر وجودها ومبرر البحث والدراسة فيها .

وانسجاما مع ندائنا لإخراج علم المقاصد من صورته وأمثلته التاريخية ، ومن أطره وآفاقه التقليدية المحددة ، بغية تمكينه من لعب دوره الخطير المتمثل في ردم الفجوة بين هدي القرآن والسنة من جهة ، وواقع الناس في قضاياهم ومعاشهم من جهة أخرى ، فإننا نبدأ بهذا البحث اليوم سلسلةً من المقالات المتتابعة منهجيا في هذا العلم ، نفتتحها بالحديث في تعريف علم المقاصد ، لننتقل بعد ذلك إلى مناقشة التقسيمات التاريخية الخماسية (الدين ، العقل ..) والثلاثية (الضروريات ، الحاجيات ..) وإمكانيات التعديل والإضافة عليها ..ثم نتحدث عن المُخاطَب في علم المقاصد ، وهل ينحصر الخطاب في علماء الشريعة كما أكد معظم الباحثين أم أن دائرة المخاطبين أوسع من ذلك .

إن تأصيل المقاصد الشرعية وتوسيع آفاقها ومعانيها بما يجعلها وسيلة الربط الفعالة بين واقع الأمة وهدي الرسالة الخاتمة ، مشروع طموح لابد أن نأتيه من بابه ونتوخى فيه الأناة والتمحيص . فإذا كانت محاولات تأسيس علم المقاصد لا تزال قاصرة عن بلوغ هدفها ، ومازال يلفها الاختزال والجمود على ما كتبه الأقدمون والانحصار في إطار الأمثلة التي أوردوها ، فإن أي محاولة لتوسيع آفاق المقاصد بدون منهج ستكون أوخم عاقبة ومآلا لما يمكن أن يكون في تلك المحاولة من تألٍ على الله سبحانه من خلال نسبة القصد إليه دون برهان ودراسة .

فما هو المنهج الذي يعصم من الخطأ ويضبط هذا الموضوع الخطير ؟

وأرى أن الإجابة على هذا السؤال تبدأ من تعريف المقاصد . فالتعريف يؤسس القاعدة التي يمكن أن نرجع إليها عندما نحاول توسيع المعاني لتندرج تحت ما علمناه من مقاصد الشريعة وغاياتها .

إن من الملفت للنظر أن شيخ المقاصد – الإمام الشاطبي – بدأ حديثه في أول كتاب المقاصد من الموافقات متجاوزا تعريف المقاصد ، حيث ابتدأ المسألة الأولى بقوله : “تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام ، ضرورية … وحاجية … وتحسينية … والمقاصد الضرورية ثبت بالاستقراء أنها خمسة وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ النسل وحفظ العقل وحفظ المال …” وهنا نجد أن الإمام الشاطبي يطرق موضوع المقاصد بدون تعريف أولا ، ثم يعمد إلى التسوية بين المقاصد والضروريات (الكليات الشرعية) .

وقد أشار الأستاذ إسماعيل الحسني في دراسته عن نظرية المقاصد عند الإمام ابن عاشور إلى هذا بقوله : “إذا كان للإمام الشاطبي عذر في عدم إعطائه تعريفا مضبوطا للمقاصد الشرعية … فإنه يتوجب على همة الباحث أن تتجه إلى ضبط تعريف محدد لمفهوم المقاصد1 .

أما الإمام الشيخ الطاهر بن عاشور فقد قدم حديثه عن المقاصد بقوله : “مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة ، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها ..” ثم يتابع في موضع آخر تحت عنوان “المقصد العام من التشريع” فيقول – رحمه الله : “إذا نحن استقرينا مواد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام العالم واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان . ويشمل صلاحه صلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه”2 ، ثم قال أخيرا في موضع ثالث “ولقد علمنا ما أراد من الإصلاح المنوه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل بالعبادة كما قد يُتوهم ، بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم في حياتهم الاجتماعية . فإن قوله تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } أنبأنا أن الفساد المحذر منه هو إفساد موجودات هذا العالم” .

والمتأمل في كلام الشيخ ابن عاشور يلاحظ أن هناك إضافات جديدة زيادة على ما قدمه الإمام الشاطبي في الموافقات يمكن تلخيصها بالنقاط التالية :

1. تقديم تعريف للمقاصد .

2. إدخال مفهوم أوصاف الشريعة وغاياتها العامة في تعريف المقاصد .

3. إدخال مفهوم العالم وموجوداته كدلائل تحققٍ لإظهار آثار المقاصد .

ويظهر عند التمحيص أن التعريف الأول الذي قدمه ابن عاشور إنما يتعلق بالقضايا الإجرائية التي تَلزَم الفقيه عند استنباطه للأحكام ، وهذا التعريف يحتاج إلى مزيد دراسة وتمحيص . ذلك أن موضوع مقاصد الشريعة مازال عند أكثر من كتبوا فيه امتدادا لعلم الأصول القديم ويحتاجه الفقيه الناظر في النصوص ليستنبط الأحكام ، أما ما سوى الفقهاء فمعزولون عن هذا العلم ولا يعنيهم ! ولذلك فإن تعريف المقاصد على هذا المستوى لا يزال بحاجة إلى توضيح ، لأننا نريد من التعريف أن يجعل مهمة التعرف على المدلول العملي والآفاق السلوكية – الفردية والجماعية – لمقاصد الشريعة أكثر يسرا وأسهل متناولا لغير الفقهاء .. (بالمعنى الاصطلاحي التاريخي) كما أننا نريد من التعريف كذلك أن يعطينا الفرصة لامتلاك مقياس منهجي للاختيار من تراث علمائنا وما قدموه في هذا المجال . ولنا عودة تفصيلية إلى هذا الموضوع في حلقة قادمة بإذن الله .

والملفت للنظر أن الأستاذ إسماعيل الحسني في دراسته سالفة الذكر عن نظرية المقاصد عند ابن عاشور أورد التعريف الأول ، لكنه لم يورد التعريف الثاني ولم يشر إليه على الإطلاق . في حين أننا نرى أن هذا التعريف الثاني يتضمن الإضافة الحقيقية التي قدمها ابن عاشور و التي ترسم إطارا جديدا للتعامل مع هذا الموضوع ، و تشكل مدخلا مناسبا لمحاولة الوصول إلى التعريف الشامل المطلوب. وإن كنا نلاحظ أن الشيخ ابن عاشور بحكم خلفيته الفقهية مازال مشدودا إلى معاني المصلحة والإصلاح والمفسدة والإفساد التي يمكن أن تدخلنا في دوامة هذه المصطلحات وما دار حولها من كلام بسبب نسبيتها البالغة . هذه النسبية التي تتناقض مع محاولة الأصوليين التاريخية لبناء علمٍ للمقاصد مبني على أدلة قطعية .

وقبل تحديد تعريف جديد للمقاصد ، نشير إلى أن الإمام ابن عاشور في مقدمة كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” عرّف التشريع بأنه قانون الأمة ، فأدخل بُعْد الأمة في النظر إلى التشريع ، وخرج عما حصر الإمام الشاطبي نفسه فيه عند حديثه عن المكلف “الفرد” . ولكن بُعد الأمة بشموله واستيعابه غاب عن تعريف الإمام ابن عاشور للمقاصد وإن كان قد حوّم حوله عندما ربط معنى الصلاح بأحوال الناس وشؤونهم في حياتهم الاجتماعية . ومن ناحية أخرى يبدو من تعريف الشيخ ابن عاشور للمقصد العام من التشريع أنه يتحدث عن معنى (حفظ) نظام العالم ، هذا (الحفظ) الذي يوهم بطبيعة سكونية لا تنسجم مع روح التشريع وطبيعة التكليف بالتزكية والإعمار والنماء والشهادة والتسخير ، كما عرضنا بتفصيل في الحلقة السابقة من الموضوع .

وبالرجوع إلى القرآن الكريم واستقراء آياته التي تتحدث عن موضوع المقصد من الخلق ومن التشريع نجد أمثال الآيات التالية :

{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}

{هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها}

{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}

{سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه}

{وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}

{يريد الله أن يخفف عنكم}

{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}

{ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}

{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}

ومن استقراء هذه الآيات وأمثالها يمكن طرح تعريف يُدخل بُعد الأمة والتكاليف الجماعية المنوطة بها في صلب تعريفنا للمقصد الأعلى للشريعة ، والذي يمكن صياغته عندها على أنه “إنشاء أمة ممثلة لمقتضيات الإيمان ، قادرة على الحضور الذي يمكن من الشهادة ويقيم الحجة ويبعث على الاحترام ويغري بالإقتداء ، أمة قادرة على عمارة الأرض وتسخير الكون لتكون الحياة على الأرض طيبة لا عسر فيها ولا ضنك ، تحكمها الرحمة والتخفيف والسماحة ، وتتوجه إلى البناء والعمران والتواصل والتعارف” .

وكما أشرنا من قبل ، فإن مجمل المعاني الواردة في هذا التعريف كانت موجودة في كلام ابن عاشور ، إلا أنه لم يجمعها في تعريفه المحدد الذي قدمه ، وإنما كانت متناثرة في مواضع مختلفة وتحت عناوين متنوعة .

ووفقا لهذا التعريف فإن الحياة الطيبة ممكنة إذا هيمنت عليها قيم الإيمان التي تضع الإنسان في مكانه الصحيح من خالقه ومن الكون من حوله ، والحياة الطيبة ممكنة باستقرار واستمرار الوجود الإنساني القادر على التواصل والتعاون والتسخير والإعمار .

ولا يظهر الدين إلا بوجود أمة قادرة على استحضار منهج الإيمان في التعامل مع الكون و الحياة بوضوح يقيم الحجة ، و فعالية تمكن من الشهادة ، و جدية تبعث على الاحترام وتغري بالاقتداء ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة.

وعندها تصبح التكاليف الفردية والجماعية انعكاسا لمتطلبات تكوين الأمة بالمواصفات القرآنية ابتداء من عقدة الإيمان في القلب -لا إله إلا الله – وانتهاء بآخر مقتضيات الخير في القلب – إماطة الأذى عن الطريق ، والذي يعكس الطبيعة الجماعية لمقتضيات الإيمان .

وعندما يتضح المقصد الأعلى للشريعة ، تصبح الإنسانية كلها والكون كله بؤرة اهتمام المسلم ، ينظر إلى ما يخصه من التكاليف من منظار كوني عالمي يعرف موضع مشاركته وواجبه من الصورة الإجمالية ، فلا يحقر صغيرا ولا يتجاهل ما حوله وهو يؤدي واجبه في الإعداد .

وأحسب أن مثل هذا التعريف يمكن أن يشكل الوسيلة التي تمكننا من تحرير القول في توسيع آفاق المقاصد وكليات الشريعة .

فكل مفهوم أو عمل انسجم مع المقصد الأعلى للشريعة تأصيلا وتوسيعا وتنمية وتزكية أو آل إليه أدرجناه في إطار المقاصد وما أريد بها بعد استفراغ الوسع في إثبات المناسبة والعموم والاضطراد . وكل معنى أو عمل آل إلى خلل في الحياة واستقرارها واستمرارها وأدخل عليها العسر والمشقة أو أدخل الفساد على إمكانية عمارة الأرض وتسخير الكون .. عرفنا أنه مصادم لمقاصد الشريعة مهما تسلح بالتأويلات الفاسدة .

ورحم الله ابن القيم حين قال : فكل فعل خرج من المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث ومن العدل إلى الظلم فليس من الشريعة وإن أُدخل فيها بالتأويل .

 

1996 / 1416