ظهور مصطلح الموضوعية وأفوله

778

في غمرة الكتابات الايديولوجية والمناهج السائبة وعمليات الاجترار الفكري والفهم الحرفي تتطلع أماني المثقفين إلى طروح فكرية مسؤولة تتحقق فيها شروط العلمية. ويطفو عندها مصطلح “الموضوعية” كمخلص من الاعتباطية الفكرية ولكن عدم إدراك مشكلات مصطلح الموضوعية قد يوقع في الإيهام ، مما يخشى أن يؤدي في النهاية الى رفض شامل للكتابات المعاصرة والانكفاء على الموروث التقليدي. وهدف هذا المقال هو إلقاء الأضواء على إشكاليات مفهموم الموضوعية و تحرير مجال استخدامه.

فما معنى أن تكون موضوعيا.. هل معناه أن لا تغش أو لا تتعصب لنفسك أو لرأيك، أو أنك إذا رأيت دلائل تشير إلى أمر ما لا ترميها جانبا. إذا كان هذا طيف معاني الموضوعية فإننا نستطيع أن نجيب بالجزم أن الموضوعية ممكنة في عالم البشر وأنه يمكننا بسهولة أن نفرق بين الموضوعي وغير الموضوعي. ولكن تستعمل كلمة الموضوعية من ناحية عملية بشكل سائب ضبابي.. فتارة يقصد بها أن البحث متين جيد الترتيب متسلسل منطقيا، وتارة يقصد بها أن البحث مزود بالأدلة المادية من أرقام و حوادث تاريخية، وتارة يقصد بها أن البحث ينظر من عل فلا يكترث بآراء الناس ومشاعرهم، وتارة يقصد بها نبذ الأفكار غير الممحصة التي يعتنقها الناس تجاه العديد من المسائل الحياتية.

ولقد نشأ مفهوم الموضوعية أصلا في الأجواء العلمية التي اتبعت المنهجية التجريبية بشكل مفصل ودقيق، حيث تعزل فيه العوامل التي ليس لها علاقة بالظاهرة تحت الدراسة وتبدأ بالفحص والتجريب متوخيا فهم الظاهرة بتثبيت جميع المتحولات إلا واحداً تغيره وترقب نتائج هذا التغيير. ولإثبات السببية لا بد من تحقق ثلاثة شروط:

أ‌. أن يحدث العامل المسِبب قبل الأثر المتوقع.

ب‌. أن يكون هناك علاقة ترابطية محسوسة/إمبريقية بينهما (أي عندما يحدث تغيراً في الأول يصاحبه تغير في الثاني باطراد)

ت‌. أن تنتفي التفسيرات المناهضة

وفي كل هذه التجارب تسعى إلى عدم الوقوع في قوادح الموضوعية التجريبية، ولا يخفى أن الشرط الثالث لإثبات السببية الموضوعية يفتح باب التأويل ويتعلق بإشكالية سلامة نظرية البحث لا سلامة منهجيته الإجرائية.

وهكذا يمكننا القول – مؤقتا- أن الموضوعية في العلوم المادية الفيزيائية أمر قائم وممكن. ولكن عندما جرت محاولات نقل المنهجية التجريبية للعلوم الفيزيائية المادية إلى العلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد والسياسة والسلوك تأزم مفهوم الموضوعية. وقد مضت عقود ادعي فيها أن العلوم الاجتماعية (الغربية) موضوعية لأنها – خلاف الدين- لا تستند إلى ثوابت ومسلمات سابقة وبناء على أنها جاءت نتيجة للبحث العلمي المستند إلى منهج تجريبي.. واعتبرت نتائج هذه الدراسات صواب محقق. ورغم ذلك ارتفعت أصوات الاحتجاج على هذا الفهم الصلد من قبل علماء الغرب أنفسهم وتشكلت مدرسة مناهضة لاستخدام الطرق االعلمية الفجة في الأبحاث الاجتماعية.

إلا أن المذهب الذي علا صيته وهيمن وغلب هو ذاك القائل بصحة استعمال الطرائق التجريبية في عالم الاجتماع. وبالطبع، فإننا حين نتكلم عن الموضوعية فإننا نفكر عملياً بالعامل المسبب. ولكن التحدي الذي واجه هذا المذهب هو السهولة النسبية في تحديد العامل المسبب في المسائل المادية وصعوبتها الشديدة في العلوم الاجتماعية. فمثلاً يمكننا بسهولة أن نقول أن الماء يغلي عند درجة 100 ، وأن قطعة الحديد ذات السماكة المعينة تتحمل ذاك القدر من الحمولة أو الضغط، أو أن اجتماع عنصرين كيماويين بوجود وسيط معين ينتج مركبا ما. ونستطيع التحقق من هذه الأمور بموضوعية كاملة بتكرار التجربة. ولا يخفى أنه لا يتيسر القيام بمثل هذه الاجرائيات في دراسة الظواهر الاجتماعية ولا يمكن أن نصدر الأحكام القاطعة عليها.

ولنأخذ على سبيل المثال مسألة الجريمة ولنحاول أن نفهمها “موضوعيا”. وأول ما يخطر في البال وتدعمه الأرقام هو التلازم بين نمط نفسي للشخصية والجريمة… وفي اللحظة التي نحسب أنفسنا وجدنا السبب بموضوعية تفاجؤنا التساؤلات والاستثناءات والإشكالات المنهجية في البحث التي تعكر صفو الجواب البسيط الذي يشبه المعادلة الفيزيائية: النمط النفسي يسبب الجريمة. وذاك لأن هناك كثيرون من نفس النمط النفسي ولم يتجهوا نحو الجريمة. كما أن هناك انتشار للجريمة في أجواء معينة، مما يتحدى أصل التفسير النفسي. وكان هناك من ذهب إلى تفسير عرقي يدعي الميل العضوي لعرق نحو الجريمة أكثر من الأعراق الأخرى، ولقد ساد هذا التفسير العنصري في الماضي، بل ونشرت أحد الدوريات الطبية المرموقة في الماضي بحثا تشير فيه إلى مرض يصيب المستعبدين السود مما يسبب هربهم من أسيادهم!

وإذا ركزنا على مسألة جنوح الأحداث بالذات، فإنه سرعان ما تواجهنا أسئلة أخرى. فهل للبيئة التي عاش فيها الفرد أثر في دفعه نحو الجنوح. وإذا كان الجواب بالإيجاب فماذا نعني بالبيئة؟ هل هي تربية الوالدين أم هي تفكك الأسرة ومعدلات الطلاق أم هي المدارس و طرق التعليم. وهنا نشعر أننا وضعنا أيدينا على مفصل هام وعامل حاسم.. وذلك لأنه تمت دراسات رقمية كثيرة والتي تظهر تلازماً طردياً بين الترك الرفضي للمدرسة وبين احتمالية الجنوح. ولكن تعترضنا مشكلة تحديد السببية في هذه العلاقة… فما الذي سبب الآخر؟ هل ترك المدرسة هو الذي دفع إلى الجنوح أم أن إغراء الجنوح هو الذي سبب الحنق والملل والضجر من الدراسة وهجرها. أم هل هناك سبب قابع متخفٍ ســبّب كلاً من ترك المدرسة والجنوح؟

وهنا يبرز احتمال تفسير غير فردي للظاهرة. هل من الممكن أن يكون السبب هو عدم مناسبة المناهج وطرق التدريس لشريحة اجتماعية معينة مما يسبب نسب عالية من الفشل متفشية إلى جانب الجنوح. أم لعل السبب الخفي وراء هذا وذاك هو الفقر لأن هناك أيضاً علاقة طردية بين الفقر والجنوح. ولكن غالب الفقراء ليسوا من الجانحين … فكيف نخرج من جملة هذه العوامل المتضافرة بمعادلة مطردة متماسكة ؟ وطبعاً لو كانت عناصر هذه الأمر مادية لأمكن دراستها في المخبر، ولكن دراسة البشر الأحياء تفرض محدوديات مختلفة.

لقد تعلمت العلوم الاجتماعية – بعد عناء كبير وبعد فترة من التكبر أو الاعتداد بالنفس – أنه تواجهها دوما مشكلة جهة السببية، فهناك علائق ترابطية بين كثير من أزواج المتحولات ولا نستطيع أن نجزم دوما باتجاه السببية. أو أننا نُغلّب اتجاهاً على آخر بناء على المنطق السليم وليس بناء على التجربة العلمية الموضوعية! وعلى هذا بدأ الشعور الواعي بأن قضية الموضوعية في العلوم الاجتماعية ليست من نوع الموضوعية في العلوم الطبيعية، و لا يعني هذا أن الدراسة المتأنية والمتعمقة ليست ممكنة في الأمور الاجتماعية وإنما يعني أن هناك دوما تدخل للإنسان يضيف إلى البحث الإجتماعي بديهيات ومسلمات يتخذها نقطة البداية و الموجه للبحث و التسجيل و الإستنتاج.

والحقيقة أن العرض السابق للمسألة بسطها بشكل كبير، فالسببية في الظواهر الاجتماعية تتميز بدرجة كبيرة من التراكب والتداخل. أي أن قولنا أن الفقر سبب للجريمة لا يشابه قولنا الحرارة تسبب غليان الماء لأن الفقر بحد ذاته ليس عاملا واحدا نستطيع أن نحدده بسهولة، بل هو عامل مركب وهو نتيجة لكثير من العومل المتشابكة. ولكن بسبب عقدة تقليد علم الفيزياء وقعت العلوم الغربية الاجتماعية في فخ الاختزال.. فكل دراسة تحاول أن تختزل العوامل المسببة إلى بضعة عوامل لأن هذا الذي يمكنها من دراستها وفق الطرق الإحصائية التي تستعمل في العلوم الطبيعية، رغم أنه ما من ظاهرة اجتماعية إلا وتجد فيها عددا من العوامل يستحيل معه بناء نموذج إحصائي رقمي صلد.

وهكذا انقسمت العلوم الاجتماعية إلى توجهين: أحدها يقترب من نموذج طرائق العلوم الطبيعية ويكتفي بمجعالجة عدد قليل جدا من العوامل، ويطلق عليه عموما اسم التوجه الكمي، وتوجه آخر اعتمد على مواجهة الظاهرة الاجتماعية بكل تعقيدها، و بدل أن يهتم بالقياس ووضع العلاقات و المعادلات الرياضية، يهتم بالوصف والتحليل الذي تتألق فيه المسألة وتفهم بغير التأشير الرقمي. ويطلق على هذا التوجه اسم التوجه النوعي للبحث. وفي حين أن الأول يضع لك علائق معقدة رياضياً مستعملاً كل ما هو متوفر من الأدوات الإحصائية ثم يخرج بنتيجة صغيرة ولكنها محددة بشكل كبير، يقوم الآخر برسم صورة علائق معقدة تحليلية ولكنها ليست شديدة التحديد. ومازال هذان التوجهان يعتركان، و يكتب الباحثون من مواقع متدرجة تقترب إلى ذاك القطب أو الآخر.

ورغم أنه ما زال هذان التوجهان يدافع كل منهما عن ميزات طريقة بحثه فإنه صار هناك إدراك عام بأن الموضوعية بمفهومها القديم غير ممكنة في العلوم الاجتماعية. بل إن مصطلح الموضوعية قد غاب نهائيا من أدبيات علوم الاجتماع. ولا أذكر أني مررت على هذه الكلمة في أي كتاب طبع بعد بداية السبعينات… بل لو ألقيت محاضرة أو كتبت مقالا ووصفته بأنه “موضوعي” لنالتك السخرية في الأوساط الأكاديمية.

وأحب أن أنبه أن هذا لا يعني أن الدراسات الاجتماعية هي اعتباطية وغير منضبطة، وإنما يعني أن البحث الاجتماعي مقرون دوماً بمسلمات ماقبلية مضمرة و فرضيات غير منطوق بها في كل مدرسة من مدارس الحقل. وهنا يستوي المسلم وغير المسلم في أن كليهما يضمران مسلمات أو مخيالا عن الحالة المثالية التي يقاس عليها. وأضرب مثالا عن باحث مشهور في علم الاجتماع (Becker) والذي له كتابات مفيدة في فهم علائق الناس ومسالك حياتهم والشفقة على المنسـيّين في المجتمع. ولكنه في معاداته لسنّ القوانين الجنائية والعقوبات تجاه المخالفات الأخلاقية أطلق على المدمنين والعاهرات اللواتي يتلقون أجراً على الجنس مصطلحه المشهور “مجرمين بلا جرائم” بناء على أنه لم يحدث في هذه المخالفات اعتداء على أحد وجرت بناء على الخيار الشخصي بلا إكراه. ولنقابل هذا الموقف الليبرالي المحض بالموقف البدهي الذي يرى أن هذه الأعمال جرائم بالفعل فلها مستتبعاتها المعروفة… فأي الموقفين هو الموضوعي وأيهما أكثر تمحوراً إيديولوجيا؟

ولبيان كيف يحدث هذا التناقض في عالم الأكاديميا يجب أن نشير إلى مفهوم الوجهة. لقد ظهر مفهوم الوجهة كتعبير أدق عن إشكاليات مصطلح الموضوعية، ولن أخوض هنا في تعريف هذا المفهوم وشرحه شرحاً وافياً (ابتغاء العرض الميسر لمسألة معقدة، الذي اتبعناه في هذا المقال)، ولكن أشير إلى نقطة أساسية التي يعالجها مفهوم الوجهة البحثية.

إن مفهوم الوجهة البحثية يشير إلى أن استعمال البيانات والدلائل يمكن أن يوصل إلى نتائج متعددة متخالفة حسب طبيعة هذه الوجهة. وذلك لأن كل وجهة تضمر أمورا تعتبرها مسلمات، بينما تعتبر وجهة أخرى هذه المسلمات مجهولات أو أمور لا علاقة لها بالموضوع. وليس هناك بحث أو نظر لا يبتدأ بغير مسلمات وفرضيات ماقبلية فذلك استحالة منطقية. وهذا ينطبق على علوم المادة وعلوم الاجتماع على حد سواء. و لعل اضطراب النظر في صلادة العلوم الفيزيائية (بما فيها ظهور المفهوم الآنشتاني للسببية مقابل المفهوم النيوتوني)، كردة فعل للنموذج النيوتوني الذي مشت وفقه العلوم الاجتماعية الغربية ردحا من الزمن، جنحت طلائع ما بعد الحداثة إلى نوع من العدمية واللاغائية العبثية، والتي لها جذور في مذاهب المثالية في التراث الغربي. إن مفهوم الوجهة البحثية يؤكد أن أي بحث يقتطع من العالم مساحة معينة يرسم حولها خطا يمثل الحدود التي لا يعني نفسه بما وراءها ويختار من جملة العوامل المحتمَلـة مجموعة محدودة يعتبرها متعلقة بالبحث. إن عملية العزل والاختيار و الإنتقاء هذه هي خيار ثقافي أو خيار حضاري وليست مجرد خيار بحثي.

والآن وإذا استحضرنا مفهوم الوجهة البحثية، يمكننا فهم الموقفين المتعارضين حول مفهوم “مجرمين بلا جرائم”. فالنظرة الليبرالية الطاغية في العلوم الاجتماعية الغربية تتبنى الفرد المتحور حول نفسه كوحدة تحليل. ولهذا فإنها تنظر إلى العاهرة على أنها مجرد شخص يعترك مع الحياة ووجدت سبيلا للعيش. والليبرالية تنظر إلى ذلك على أنها حل معقول لامراة ليس عندها مهارات العمل وعاشت في جو يتمحور حول السوق والدعاية فوجدت في جسدها أفضل رأسمال للاستثمار. وحين يتطرقون للآثار النفسية السلبية فإنهم ينظرون إلى صاحبها كضحية لمجتمع ظالم. وحيث أن الليبرالية الفلسفية رفضت الدين والمطلق واعتنقت مبدأ النسبية الأخلاقية، فإنها بالغت في إعذار الفرد في سقطاته وانحرافاته بناء على أنها ناتجة عن ضعوط الحياة. بل إنها تنظر لهؤلاء بعين الشفقة فالمجتمع ورأس المال هو الذي يغتصب قهراً.

وحين يريد هذا المدخل أن يبرهن على المسألة بشكل “موضوعي”، فإنه يبحث عن متحولات مثل:

أ‌. فرص العمل المتاحة لتلك المرأة غير العهر

ب‌. مردود هذا العمل ومرونة جدوله لتأكيد معنى معقولية التصرف

ت‌. الطبقة الاجتماعية للرجال الذين يرتادون العهر ليبرهنوا أنها ظاهرة منتشرة غير مقصورة على شريحة اجتماعية واحدة وأن هناك حاجة عامة لهذه (الخدمة)، وبذلك يحجب أي نقاش في القيم الأخلاقية

ث‌. خطورة هذه المهنة مقارنة بمهن ذات مردود مادي متقارب.. وترتفع المطالبة بسن القوانين التي تمكن العاهرات من شروط عمل تتحقق فيها مستوى سلامة تماثلا مع طلب تزويد عمال البناء بخوذات واقية..

ويتضح هنا أنه بسبب طبيعة الوجهة البحثية، كان هناك مسلمات ثقافية مضمرة لا تمس من البداية. ثم كان هناك تعميم مفهوماتي ضمن حيز المقبول (الحلال العلمي) الذي سمحت به المسلمات، ثم كان هناك تأويل ينفي جزءً من عالم الدلائل، ثم كان هناك انتقاء في المتحولات عند الدراسة الـ “موضوعية”. ولأسباب من هذا النوع نُزع الشذوذ الجنسي من لائحة الأمراض النفسية في علم النفس وذلك لأن الشاذين “موضوعيا” قادرين على العمل وجلب النقود وليسوا أكثر من غيرهم مخالفة للقانون…إلخ. وفي النهاية يصاغ الأمر ضمن أخلاقية منطقية براغماتية، وأخيراً يدرج الأمر ضمن حقوق الإنسان ويعتبر الذي يعارضه مغرض متحامل وغير ديمقراطي، كما تعتبر الثقافة التي ترفضه ثقافة متخلفة بائدة.

إن فهم دعوى “الموضوعية” أمر هام جدا لأي وعي إسلامي. ويبدو أن هناك التباس حتى ضمن بعض الشرائح المثقفة ولاسيما أن كثيرا من أفرادها إنما هم من أصحاب الاختصاصات العملية والعلوم التطبيقية البحتة والتي تفكر بآليات صغيرة وصلدة، فيدفع هذا إلى التفكير في الأمور الاجتماعية بشكل يماثل أو يشابه طرائق ومداخل علمهم الذي درسوه. والمؤسف أن هذا النوع من التفكير ليس فتحاً وليس جديداً البتة، بل به بدأت العلوم الغربية الاجتماعية ومرت بمرحلة الفهم الصلد للحياة الاجتماعية ثم تبين لها فساده. ولذلك يجب أن يستحضر متخصصوا الدراسات العملية في ذهنهم أن العلوم الاجتماعية الحديثة اعتركت مع مسألة مناسبة طرائق العلوم الصلدة وحاولت التعديل فيها وانقسمت المدارس حولها وتناحرت. ولكن هناك شعور عام ونوع من الاتفاق أن التوجه الكمي (الذي تسرف في استعماله البحوث الآنكلوساكسونية وفي أمريكا بالذات) يبالغ في استعمال الوسائل الحسابية الإحصائية لأنها تقنع مسؤولي الإدارات والسياسيين الذين بأيديهم المنح البحثية والتمويل. و هناك نوع من الإدراك أن معظم الفتوح والإبداعات في العلوم الاجتماعية ظهرت من بحوث نوعية لاكمّية. ويدرك الناضجون من الباحثين أن هناك مواضيع يناسبها المدخل الكمي (خاصة في أمور الخطط العملية) وهناك مواضيع يناسبها المدخل النوعي (خاصة في فهم أصل وجذر المشكلة)، كما أن هناك نوع من الاتفاق إلى أن المزج المبدع بين الاثنين يعطي أفضل النتائج.

~ ~ ~ ~ ~ 

لقد ذكرنا في بداية المقال مثال الدورية الطبية وقولها في فرار المستعبدين السود. وننبه أن أصحاب هذا البحث ظنوا أنهم قد استوفوا الشروط الثلاثة للبحث العلمي الامبريقي (المذكورة في بداية المقال) في افتراض علّة عضوية ولادية سابقة زمنياً على الأثر (الهروب)، وعلاقة ترابطية ملحوظة حيث كلما شاهدوا فارّاً وجدوه أسود البشرة، ونفوا بديهة التفسيرات البديلة إذ أنه هل يعقل أن يفرّ امرؤ من سيده الأبيض الأوربي المتقدم تقنياً والمتفوق ثقافيا؟ وبعد أكثر من مائة سنة على هذا المقال نجد أنه لا تختلف عنها كثيراً دراسة هرنستاين المشهورة عام 1994 عن تدني القدرة الذكائية (IQ) للسود في أمريكا، وإن كانت هذه اللاحقة بالغة في التعقيد الرقمي الإحصائي، فإشكالها يكمن في القاعدة النظرية التي تستند إليها لا في الاجراءات الفنية. ويندرج تحت هذا كتابات المستشرقين المحدثين من أمثال برنارد لويس إذ أنهم يستشهدون بالمصادر الإسلامية من الغزالي إلى الكتابات الحديثة… فهم “موضوعيون متحيزون”! في أنهم يستعملون الطرائق البحثية “الموضوعية” ضمن وجهة بحثية وإطار نظري متحيز قوامه استصغار المسلمين والتحقير من شأنهم.

إن الموضوعية ضمن مفهوم الدقة العلمية أمر مطلوب وممكن ولكنه يأتي عملياً بعد أن يختار الباحث لنفسه وجهة بحثية متأثرة بخلفيته الثقافية، وهذا أمر ظاهر بوضوح في مواضيع العلوم الاجتماعية والانسانية، والوقوع في التخبط عند قراءة الدراسات الاجتماعية الغربية أمر وارد جداً إذا لم تستحضر حيثيات مفهوم الموضوعية التي أشرت إليها.

 

جمادى الآخرة 1424 هـ / 07-2003