الفيلسوف والمتدين-1
تعقد المفاضلة بين الأشخاص أحياناً على شكل مقابلة بين مناهج من حيث أن الشخص هنا تعبير بالصفة عن حقيقة مسمى منهجه في البحث، ومن هذه المقارنات التفاضلية لها تحكم باطني بوجهة التفضيل، مثل مقابلة الفيلسوف والمتدين كتعبير عن خصائص بنيوية في المنهج تختزلها صفة كل منهما.
دعنا نفحص بعض هذه الخصائص وعلاقتها بالمنهج.
يقال لنا في معرض تعداد الخصائص البنيوية كعلامة في ذاتها على جدارتها واقتدارها، بأن الفيلسوف في بحثه عن الحقيقة، ينطلق من أرضيته الخاصة لا غير، لوغوس ذاته فقط، بلا أية أولويات مسبقة في ذهنه إلا ما يحدده عقله، وما تفرضه النتيجة بذاتها في المحصلة النهائية للبحث الحر.
وحين نفحص محدّدات العقل كما تجلت تاريخياً، نقف في الغالب –كما يخبرنا المحققون وكما يدلّنا تفكيك بنية مقولاتهم– على أن العقل في تجلياته الفلسفية في العصور القديمة (الإغريق واليونان) كان متشكّلاً ومتشبّعاً بالثقافات الشعبية والعقائد الدينية المنتشرة في مجتمعه يومها. وهذه الملاحظة ستستمرّ معنا في كل محطات تجلي العقل في التاريخ، فالعقل بناءً على هذا ذو صيرورة تاريخية، و هو وسيلة الفيلسوف في تقرير حقائقه، وهو نتاج شرطه وظرفه التاريخي الذي لا يمكن أن يتعالى عليه، جوهره مستخلصٌ من علومٍ وأديانٍ وثنية يومها، وعلومٍ وأديانٍ ومذاهب دنيوية اليوم، فهو محددٌ بحدود معرفته الاجتماعية وسقف علومها.
تختزن المقابلة بين صاحب الفلسفة وصحاب الدين في ثناياها مقابلة بين العقل والنص، فمرجعية الموضوع في الفصل تنوب عن كينونة الشخص، لأن الذاتية هنا متخفية في الموضوع، لهذا عندما أشاد هيجل بكوجيتو ديكارت، انتقده في ذات الوقت بكون جوابه ناقص، فهو يغفل الذات المفكرة وضمير المفكر المتكلم (أنا) لينشغل بعملية التفكير كموضوع على الذات.
يغدو العقل المحض المتوهّم هو ما يقابل النصّ، وهذا تحديد جوهري من الخارج. فكل متحرر من ما يقيده النص بمسلماته فهو عقل كما هو شائع، عقل من زاوية كونه محرراً في مقابل من هو مقيد بالنص، حتى لو كانت بنيته تعتمد في أصولها على مضامين نصية ومعتقدات دينية من وحي بيئته.
تقييد العقل داخل سياج النص في سياق المقابلات الثنائية لاستخراج تعريفات الماهية يجعله نصا وإن كان عقلانيا في خطابه وبنيته النصية إلا أنه غير عقلي بالنسبة لما يفترض أنه تعريف للعقل مبدؤه الأساسي هو الشك حتى في الدين نفسه كمسلمة لم يسلم بها العقل بعد التأكد من صحتها، فالعقل هنا يتحدد جوهره بمضمون نصي، فهو يعقل ذاته بدلالات غيره، فتكون وظيفته تبعا لما تسمح به محددات الشكل اللغوي والنسقي داخل النص.
لم يتغير العقل في النص، بل كيَّف وجوده وتموضعه، بتحوير وظيفته وإدراك ماهيته على ضوء مجال اشتغاله. هذه المقابلة بين المفهومين، تجعل موضوع كل منهما متعلق بالمفهوم من حيث وظيفته التي بها تتعين ماهيته. والموضوع ساحة مشتركة لكليهما، ومع هذا فالنزاع بينهما كان دائما على قاعدة الافتراق عند مقاربة المواضيع ذاتها، لما ذكرته قبل قليل.
فالعقل، كما يتجلى من المقابلة ضد النص، هو عقل معرف بخلوه من محدد خارجي في تعريف ذاته، هويته الأصيلة تتجسد في منهجه في بلوغ حقائقه لا في نتائج هذا المنهج، فالنقاش كأداء هو موضوعه وأداته، ينشغل بصحة مقدماته وسلامة تنقلاته ولا يعبأ لما يؤول إليه من نتائج، فكيفما كانت فهي نتاجه الذي يكون به هو ذاته، فالنتيجة لا تحدد طبيعة العقل ولا تتوقف ماهيته عليها بل يتحدد بالمنهج الموصل إليها، لأن منهجه هو ماهيته.
في حين أن العقل المقيد، أي النص، يكون التسليم هو مسلمته الأولى، فالنتيجة متحققة ومتقدمة على منهج البحث، لأن الإيمان يحسم النقاش ابتداء، وهذا يكون حقيقي بمعنى أنه واقعي، في الدين المعلل فقط، وبه تكون للمقابلة دلالة تستحق النظر.
فالدين المعلل يخضع فيه المؤمن إلى علل التأثير والوراثة، فيكون الدين كمنظومة عقدية في العقل، جزء من ميراث يتوارثه بحميمية ينغلق عليها وجدانه وعقله، فهي عندئذ مقوم من مقومات الهوية الشخصية والاجتماعية التي نسلم بها دون حاجة لفحصها عقليا، لأنها لا يمكن فحصها عقليا، فهي تغدو معطى من معطيات الطبيعة، فينزل عندها الدين إلى مستوى الحس، كلون البشرة وهيئة البشر وقامته ولغته ….
والحميمية الوجدانية قضية يجب عدم الاستهانة بها عند بحث قضية اليقين، فهي وإن كانت وجدانية انفعالية، فهي نمط عقلي مغلق إذا سلمنا بمقولات العديد من الفلاسفة التحديث ناهيك عن القدماء في تقريراتهم عن العقل من حيث كونه انفعال وليس فعل، نموذج مقولات ديكارت ولوك بالذات، وعلى هذا يجعلون كل الانفعالات والمشاعر والتصورات والاعتقادات في مستوى عقلي واحد.
الدين المعلّل هشّ البنية أمام النقاش العقلي، إلى درجة أنه يكون جثة هامدة في التشريح العقلي مكشوفة العلل ومع هذا فهو الدين الشعبي ذاته الذي تكسرت كل مشارط المشرحين على جثته الهزيلة، إنه بسيط وفى جوهره تلامس مع الفطرة والنقاء، تظهر صورة العقل لجمهورها الشعبي البسيط على أنها تلوث ونجاسة كلما حاول خدش هذا الطهر بأسئلته.
لكن أصل الدين ينافي منطق الوراثة، لأن مناط تعلقه وخطابه هو العقل وليس الغريزة، والعقيدة عنده أفكار تختبر عقليا وتدرس وتفحص جيدا قبل التسليم بها وإخراجها في حركة الحياة، هذا يجعل السؤال عن صحة الإيمان بما لا يمكن تعقله؟ سؤالا جوهريا وجديرا بالانشغال والتأمل، بمعنى هل فعل الإيمان هو فعل لاعقلاني في مسلماته الأولية وفى نتائجه التصورية؟
هنا أيضا نواجه بمشكلات منطقية من فخاخ اللغة وصياغاتها للقضايا، تنضمر في أحشاء الصيغة ولا تظهر علانية إلا من خلال توتيرها للعلاقة بين المتقابلات.
فصيغة السؤال تضمر مسلمة ومنظور يختزن الإيحاء لنمط ما (يجب أن تجيب به)، على شكل طرح إشكالي من خلال استقطاب التقابل الذي يستبطن قضية أن هناك تنافر وتباين في الطبيعة لكل من الإيمان والعقل.
فكل مقابلة هي تسوير لمجالات واختصاصات، مما يجعلها تفترض مرجعية للقياس والحكم تكون معتمدها في ترجيح الكفة بينهما وحسم للتداخل في المجالات، أي أن نتائج البحث التي يتصور خلوها من الأسبقيات في الذهن تتمظهر إجرائيا لتخفى تحيزها المسبق والذي قد يكون غير مدرك بالنسبة للباحث، فالنتيجة تتجلى جزئيا من خلال الإجراءات العلمية التي تبدو محايدة، لتتجلى نهائيا في نتائج يراها العقل ملزمة له.
من هذا نمط الأسئلة التي تروم تحديد التعريفات الوظيفية والماهوية من خلال جعل المفاهيم ثنائية متقابلة، تختزن الإجابة مسبق في إجراءات منهجية تفضي إلى نتائج كلية هي مجموع أجزاءه المتسلسلة.
فجعل أي ثنائية متقابلة في سؤال (إما – أو ) يصيرها ثنائية متضادة في الذهن وهذه نتيجة مسبقة في خلفية الصورة البارزة تتحكم بسير النقاش من الداخل.
ليس تعريف الإيمان من حيث كونه ما بعد العقل إلا تعريف تاريخي يكشف عن مرحلة من المعرفة تناسب ظرفها وسياقها وطبيعة النصوص التي درستها، هو بالضبط تعريف يدلك على طبيعة النص، فلا يمكن أن تقول هذا عن الإيمان إلا إذا كانت قضاياه الأساسية وأعمدته الرئيسية تستعصى على الإدراك العقلي، فهو تعريف مجرد من متعين تاريخي يفهم البقية من منظوره الخاص، وليس تجريد متعالي يشمل المشترك في هذه النماذج والنصوص ويكون جامعا لها في نطاقه ومانعا من دخول غيرها من المتشابه بها فيه.
فشرط صحة الإيمان هو العقل في الدين الإسلامي، فالإيمان ليس ما بعد العقل، بل الإيمان لا يكون إلا بالعقل، وغياب العقل عن الإنسان يذهب عنه وجوب الإيمان، فهو نتيجة العقل لزاما، ولهذا نفى القرآن العقل عن الكافرين، لنفهم أن الكفر هو حالة اللاعقل في خطابه ومنطقه ونتائجه وإن ادعا السمع وملأ الأفاق صخباً.
فالعقل لا بد وأن يدرك ويفهم ما يقع في دائرة اختصاصه مما يتحدث به الدين في أبعاده النظرية والعملية، وما يكون من غيبٍ خبريّ في النص يتجاوز عالم الشهود إلى عالم الغيب، فالعقل يسلّم بصحته في نتائجه بناءً على عقلانية وسلامة وصدق وسائله في الإخبار عنه، فيكون الغيب نتيجة مسلَّم بصدقها لمصداقية لا شبهة فيها فيما يتعلق بطريقة الإخبار عنها، فالغيب نتيجة تماثل نتيجة البحث التي قلنا سابقا بأنها لا تشكل جوهر العقل الفلسفي والعلمي بالقدر الذي تستمد قيمتها من قوة وعقلانية المنهج الموصل إليها.
وما يجعلها عقلانية لدينا رغم مجهولية ماهيتها هي كونها تشكّل قضايا ذات مضامين دلالية، ولولا ذلك لما عُدّت عقلانية.
معقولية النتيجة الغيبة التي لا تعقل ماهيتها بالبنية العقلية لدينا إلا بتقريبها لنا بالممكن من اللغة البشرية، مما يجعل طبيعتها مدركة لدينا37 بالإمكان اللغوي المحدود بالنسبة لحقيقة طبيعتها في ذاتها وهذا ما تشغف الفلسفة ببلوغه، فتصطدم باللغة، لتغادرها إلى الرمز والإشارة لتجاوز محدوديتها، فتكون عندها أبعد ما تكون عن منهجها الذى زعمت أنه حقيقتها وعقلانيتها الثابتة، فخطأ هنا أفدح من افتراض الخطأ في النتيجة الدينية، لأن المنهج هناك بقي عقلي رغم مجهولية ماهية النتيجة ذات الدلالة، في حين أنه غدى شطحات وتأويلات لا تنضبط بضابط عقلي ولا حتى تنشغل بتوضيح دلالاتها .
فالغيب الذى لا يمكن اختباره تجريبيا ولا مشاهدته ، نفحص وسيلة الكشف عنه فحصا عقليا لعدم إمكانية فحصه في ذاته، وهذا كافٍ لتسليم بيقينية الخبر، فنحس حقيقة ما هو غير محسوس حسيا، كما نعقل وجود ما هو غير موجود واقعيا ، فالكليات العقلية مثلا لا وجود لها في الوجود الخارجي، فهو قضايا في الذهن فقط ، نسلم بها لأنها عقلية بطريق عقلاني في إدراكها ولأن لها مضامين دلالية، لا لأنه تمكننا من فحصها تجريبيا أو مشاهدتها عيانيا في الوجود ومع هذا نسلم بها وتقوم حركة الإنجاز في الوجود على قضايا هي محصلة اللاإختبار في التجربة .
ليس التسليم كميزة للإيمان في تقرير معارفه سوى نظرية في المعرفة تقتضيه محدوديةٌ للعقل خارج مجالاته المخصّص بنيوياً لها، ولا يمكنه بهذه البنية أن يعقل الهداية من ذاته العقلية كما يعقل الحقائق الموضوعية في الوجود. فالإيمان كما ذكرنا شرطُه العقل لدينا، فيكون بهذا الشرط عقل يَعقِل ما لا يمكن للعقل أن يعقله في ذاته بواسطة ذاته. فالتسليم هو معرفة بالحدود والإمكان وهذا شرط العقل.
لكن هذه المعرفة والتسليم بالمحدودية لا يستلزم الإلغاء الكلّي حتى فيما تكفل الإيمان بتقرير جوابه، فلا يصح أن يتضمن الإيمان محال عقلي، وهذا تحديد من خارجه كذلك، لأن العقل قيد على صحته بنفي المحال العقلي عنه، وإن كان قد يعرف ما يحار فيه العقل. فمحارات العقول ليست محالات عقلية لتجعل التسليم يبدو من جنس يفارق الجناس العقلي، وبالتالي يكون موضوعه مما يحكم عليه العقل بالخرافة والأسطرة. فنفي المحال عقلياً، ضرورة لا فكاك منها للعقل، للتسليم بصحة النتيجة التي لا يملك القدرة على فحصها كما هي في وجودها الغيبي.
06-06-2016/01-09-1437