التزكية والروحانيات المعاصرة
كان موضوع المقال السابق حول الروحانيات المعاصرة التي برزت بالغرب، وكان من ضمن ما خلصنا إليه أن هذه الروحانيات تتجه نحو تدين روحاني منزوع التكاليف، أي تدين روحاني من دون مسؤوليات وتكاليف تعبدية أو اجتماعية، تدين يلبي رغبات نفسية وفردية بالدرجة الأولى.
وهنا يمكن الإشارة إلى ملمحين أساسيين في هذه الروحانيات يشكلان ثغرةً فيها: أولها النزعة الفردانية التي تتسم بها؛ والثانية انفصالها عن المسلك التعبدي نحو الله.
يشير الملمح الأول إلى أن النزعات الروحانية المعاصرة تميل بشكل أساس إلى التفكير في الذات الفردية وتلبية رغباتها وحاجاتها النفسية والروحية، من دون الإقرار بمسألة الالتزام تجاه منظومة دينية أو اجتماعية ما، لأن أول ما تقيمه النزعة الفردانية هو سعيها للاستقلال عن كل ما هو إلزامي، والتوجه في المقابل نحو ما يعزز من سعادتها وراحتها النفسية والشخصية.
فمع هيمنة المؤسسات التي تعزز نمط الحياة المادي والعملي الروتيني، ينزع الأفراد نحو هذا الشكل الفرداني من الروحانيات كنوع من اللجوء، ولكن لم يُعد ذلك مشكلة، أي لم تعد النزعة الفردانية مشكلة من هذه الناحية؟ هنا يمكن الإشارة إلى النقد الاجتماعي الذي وجهه إريك فروم لواقع الإنسان المعاصر.
كان المفكر وعالم النفس الاجتماعي إريك فروم من أبرز الشخصيات التي ناقشت واقع الإنسان المعاصر وحالة الاغتراب والفراغ التي يعيشها، وهو كناقد اجتماعي ومحلل نفسي وجد كيف أن الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الفرد في المجتمعات الحديثة المعاصرة قد جعله مغترباً عن ذاته ومنشغلاً عن تحسينها ومبتعداً عن مقتضى حريتها الأصيلة.
فيتوجه في كتابه “الإنسان بين الجوهر والمظهر” لانتقاد نمط الحياة التملكي الذي يعيشه الفرد مع تغول السوق الاستهلاكي في حياته، هذا النمط الذي ينعكس على باقي ممارساته ويحجبه عن كينونته الداخلية، وفي المقابل يدعو إلى نمط حياة يرتكز إلى الكينونة والذات.
ولكنه يتخذ موقفاً نقدياً من الحالة الفردانية عند الإنسان المعاصر والتي يعتبرها أنها تعيق تحقيقه لكينونته، أو “فن الوجود” بحسب تسمية كتابه الذي استكمل فيه عمله على مسألة الكينونة، على اعتبار أن فن الوجود هو الطريق المؤدي إلى الوعي الذاتي، ولكن حتى يتحقق ذلك لا بد من تجاوز مجموعة من العقبات التي تحول دون ذلك.
ومن أهم العقبات التي تعيق الإنسان المعاصر ما سماه الكذبة الكبرى، والتي تتمثل في العبارات الخلابة والمقولات المبسطة التي تختزل مسار التطور الروحي للإنسان ببعض العبارات المستغلة تجارياً مثل “تطوير الذات” و”هنا والآن”، والتي تنتهي إلى اختزال سعادة الإنسان من خلال مقولات محددة أو طقوس فارغة، وهي بالتالي تتماشى مع بساطة النزوع الفرداني القائم الذي يريد أن يُنهي كل شيء بسرعة ويحقق خلاصه الفردي.
وهناك عقبة أخرى أشار إليها، وهي فكرة “لا جهد – لا ألم” والتي يتبناها الكثير من الأفراد من غير وعي، والتي تجعلهم يميلون إلى أسهل السبل وأقلها جهداً وتكلفة لتحقيق ما يريدونه من خلاص نفسي، والابتعاد عن أي جهد نفسي أو عقلي أو بدني لتحقيق التطور الروحي للإنسان، ويشير إلى أنه لا يمكن الحديث عن تطور روحي جاد بدون وجود جهد (وألم أحياناً) لتحقيق هذا الأمر.
والعقبة الأخيرة التي أود ذكرها عن فروم هي ما سماها بمناهضة السلطوية؛ أي خوف الفرد من كل ما هو قسري على الفرد ويحثه على الانضباط، وتتعزز الحاجة للوعي بهذه المسألة بعد أن زادت دعوات التحرر من قيد المجتمع والمؤسسات والضبط الاجتماعي والسياسي القائم، والتي وصلت إلى حد الإعلان عن الحرية الجنسية، وصارت النزوة هي الحاكمة وليست الرغبة الصادقة.
هذا فيما يتعلق بالملمح الأول للروحانيات المعاصرة، أما الملمح الثاني فيعبر عن أنه وبسبب هذا النزوع الفرداني، فإن النزعات الروحانية المعاصرة لا تتطلب وجود إله تتعبد له، لأن ما يعنيها بالدرجة الأولى هو تحقيق الراحة النفسية والسلام الداخلي وكل ما يعزز الـ “well-being” كما يتداول رواد هذه النزعات، وهذا يمكن تحقيقه بالنسبة لهم من دون دين تعبدي ومن دون وجود إله، كما في تمارين اليوغا أو الجلسات العلاج الروحاني وغيرها.
وهذا أمر جوهري، لأنه من ضمن ما يستتبعه ذلك أن تصبح هذه الروحانيات دنيوية، بمعنى أنها تبقى مرهونة بالوجود الدنيوي المحكوم بالزوال، وتأسيس روحانيات تتجاهل حقيقة الموت ووجود حياة بعده (باعتباره أحد ركائز الإيمان الديني) هو بحد ذاته أمر يعيق أي تطور روحاني حقيقي، ويعزز من الإخلاد إلى الأرض الذي نبه عليه القرآن.
وحتى النماذج المتقدمة من الروحانيات كالتي يقدمها إريك فروم فإنها تتجاوز هذا البعد الديني والإيماني، ولا يذكر أي أمر يخص العلاقة مع الله، وإنما هي مجرد علاقة مع الذات منقطعة عن أصلها الروحي وخالقها.
من هنا يظهر منطلقان نقديان للروحانيات المعاصرة، الأول متعلق بفردانياتها المفرطة، والثاني مرتبط بانقطاعها عن الإيمان الديني والعلاقة مع الله.
وبعد بيان هذه المنطلقات النقدية، يمكن التفكير والتأسيس لروحانيات دينية مستقاة من الإسلام ومتحدرة من تراثه الروحي المتمثل بالتزكية، والمرتكزة إلى المكانة الأصيلة التي تحتلها العلاقة مع الله ضمن طريق التزكية الروحية الذي يبغي تصفية القلب وتحرر النفس الإنسانية من رق الأغيار والأشياء.
فالعبودية لله هي بداية طريق بالنسبة للتزكية؛ بل إن أبا حامد الغزالي في “منهاج العابدين” يجعل من معرفة الله هو بداية طريق السلوك نحو الله ونقطة انطلاق مسار التزكية، لأن الإيمان بالله يستتبع علاقة معينة مع الوجود المادي والدنيوي، تبغي عدم الاستغراق فيه والتركيز على الغاية من وجود الإنسان المتمثلة في الاستخلاف وعمارة الأرض والتزكية.
كما أن التزكية لا تأخذ موقف التسليم بالطبيعة البشرية، بل تُساؤلها وتخالفها إن تطلب الأمر ذلك وكانت تلك الطبائع عائقاً لتزكية النفس، وهو ما يُتعارف عليه عند أهل السلوك بمخالفة النفس، فهي أول طريق التزكية، ومن خلالها يتحقق الوعي الذاتي للإنسان وقدرته على ضبط نفسه وتحقيق اتساقه الذاتي والغبطة الروحية، أو كما يقول الجنيد: “إذا خالف النفس هواها صار داؤها دواها”!
والقرآن مليء بالإشارات التي تنبه الإنسان إلى المواضع القائمة في تكوينه والتي ينبغي عليه تغييرها حتى يتحقق بقيم الإيمان والإحسان ويحقق الغاية من وجوده، فيذكره بقوله تعالى {وكان الإنسان عجولا}، وينبهه في قوله {كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى}، ويرشده بـ {إن الإنسان لفي خسر} ليكون الإيمان والتخلق به هو السبيل إلى تجاوز هذه القعبات.
ولكن الحديث عن التزكية يولد مجموعة من الأسئلة الجوهرية، فكيف يمكن أن تشكل التزكية نمطاً عملياً ممكناً في الحياة المعاصرة؟ كيف يمكن أن تتجلى في سياق ازدياد فيه النزعة الفردانية؟ وكيف تأخذ مكانها ضمن التطور التكنولوجي المتسارع وتطور وسائل الاتصال؟ وما موقع التصوف من خطاب التزكية وإمكانية تحققه اليوم؟
أبدأ بالسؤال الأخير، وأشير إلى أنني أفضل التعامل مع مفهوم التزكية بدلاً من التصوف، لأن التصوف قد يرتبط عند البعض بممارسات ونمط حياة غير مرغوب أو غير ممكن، ولكن التزكية تبقى أعم من التصوف، وشواهدها القرآنية كبيرة، وقد أشار أبو الحسن الندوي مرةً إلى تفضيله مفهوم التزكية بدلاً من مفهوم التصوف.
ثم أنه لا بد من التنبيه إلى أن مسار التزكية قد مر في مراحل معينة إلى شكل من الانحرافات تتمثل في الانفصال عن عمارة الأرض والعمل، ولكنه في جوهره لا يدعو إلى ذلك، وإنما يدعو إلى ضبط العلاقة مع الوجود المادي، وفي حال كان سيكتب النجاح لمسار تزكوي اليوم، فلا بد له من أن يجمع بين قطبي الاستخلاف في الأرض وتزكية النفس، باعتبارهما مبدأين قرآنيين أصيلين يصوغان علاقة المسلم مع ذاته ومع الوجود من حوله.
أما فيما يخص الأسئلة المتعلقة بحضور التزكية في الواقع المعاصر، فهنا لا بد من الحديث عن خاصية مميزة وأساسية في مسار التزكية، وهي أنه مسار تحسيني وتصحيحي يقلب الموازين القائمة إلى ما يلائم الطريق الروحي للإنسان وطريقه نحو خالقه، وبالتالي فهي لا تقطع مع القائم، ولكن تحاول تصحيح مسار التعامل معها بما لا يقطع الإنسان عن سلوكه نحو الله وتخلقه الذاتي.
وهنا أستذكر كتاب إريك جوفورا، المفكر الفرنسي الذي أعلن إسلامه واتخذ من التصوف الإسلامي والتزكية مدخلاً لعلاج الواقع المعاصر، والذي اشتهر بمقولته “الإسلام سيكون روحانياً أو لن يكون”، والذي استبشر بتحول روحاني سيمر فيه العالم عما قريب، وما يهمنا في هذا السياق حديثه عن ضرورة كبح جماح النزعة الفردانية المعاصرة وضبط حدودها، فلا ينبغي التسليم لها كما هي ولا يمكن في الوقت نفسه قطعها بالكلية نظراً لارتباطها بتحولات اجتماعية قد باتت راسخة اليوم.
ويندرج تحت ذلك العلاقة مع التقدم التكنولوجي والثورة المعلوماتية وبروز مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من التحولات التي تؤثر على علاقة الإنسان مع ذاته وقد تقطعه في كثير من الأحيان عن تطوره الروحي الديني خاصة في ظل الصخب الذي يعيشه العالم.
*** *** ***
هذه مجموعة من الخواطر والتأملات المتعلقة بالتزكية وإمكانياتها اليوم، وذلك بعد نقد الحالة الروحانية المعاصرة وبيان مواضع ثغرتها وحاجتها إلى مسلك التزكية لتقويم مسارها، وحاجتنا نحن كمسلمين إلى تقويم وإحياء تجربتنا الروحية وبحث سبل إمدادها بالحياة كي تكون فاعلة في العالم اليوم.