نظرية الممارسة: القاعدة النصية وتطبيقاتها
الشائع إنسانياً أن الإنسان جسد وروح، مادة وعقل، وأن لكل منهما متطلباتهما التي تتناسب مع طبيعتها البنيوية.
نطلق على هذه القسمة تسمية الثنائية الديكارتية نسبة إلى الفرنسي ديكارت، وهناك جدل معاصر يرفض هذه الثنائية ويرى بالوحدة، وأشهر الردود هو كتاب “خطأ ديكارت” لعالم الأعصاب داماسيو.
حين نريد فحص العلاقة بين النظرية والتطبيق، ما هو التصور الذي نؤسس عليه هذه العلاقة؟ وما هي جسور الربط بين الفكرة المجردة والسلوك العملي؟
الفكرة والممارسة نفسها ثنائية ديكارتية كما هي لديه في تحديد ماهية الإنسان، ومن منظور المذهب الذهني، فإن الحالات العقلية (معتقد، فكرة، تصور…) لها قدرة سببية ذاتية في توليد صورها الفعلية مادياً، فالحالات العقلية هي علة الفعل المباشر وهي كذلك ما يصلح أن تشكل قوة تفسيرية في ذات الآن، ويستلزم من هذا أنه لا يصح تصور تخلف العمل بعد حضور الفكرة المسببة له ذهنياً في المذهب الثنائي، وفي حال حدوث هذا وهو مشهود تجريبياً على مستوى الذات أو على صعيد الغير، فإن القوة الذاتية التي تنسب للحالات العقلية تكون قاصرة بذاتها عن توليد صيغها المرادة تطبيقياً.
يُستشف من الثنائية الديكارتية أن الممارسة كينونة ذاتية من جهة أنها فعل بنيوي ثنائي يتكون من الوعي من الفعل عقلياً وإخراجه بعد ذلك مادياً، وكما أن العقل هو سيد وأساس حركة الجسد بلا منازع لدى المدرسة الديكارتية، تكون الفكرة أو المعتقد التصوري كمماثل هنا للعقل أو كممثل له هو ما يُنتج الصورة المادية له تلقائياً.
فهل الفكرة نفسها ذات كيان مستقل وجودياً عن الممارسة وما طبيعة كينونتها واستقلالها؟ أم أنها ذاتها الممارسة بعد خروجها من شرنقتها؟
وبناءً عليه نسأل سؤال من وحي الثنائية قد يبدو ساذجاً في البداية: هل الدين هو عين التدّين؟ ونسارع للقول بأنهما جوهران متمايزان، لأنه لا معنى للثنائية إلا بفرض أن لكل واحدة منهما استقلالها وكينونتها الذاتية بمعزل عن الأخرى، أي أنه يُفترض لزاماً أنهما من جوهرين متباينين في البنية والطبيعة والوظيفة.
فكما أسلفنا فإن المدرسة الثنائية تنسب للعقل سيادة مطلقة على الجسد، بحيث أنه لا تكون أية دلالة سلوكية للجسد باستقلال عما دل عليه العقل ابتداءً، فالعقل ضروري للجسد، ضرورة ترفعه إلى رتبة الفعل الذاتي المتولد من ذاته، فديمومة الفعل تعود إلى قوة العقل الذاتية في إيجاد فوري للحركة وأعمال الجسد.
فالجسد منفعل للعقل، وجوده الخارجي في شكل فعل مجرد محصلة لما كان من العقل لا أكثر.
نستنتج عموماً أن التطبيق في المدرسة الثنائية، ولدى برغسون كذلك، هو ما يلزم من ضروريات الفكرة في قهرها المطلق.
- الدين معطى إلهي.
- التديّن كسب بشري.
- الدين إذن نصٌ مطلق مجرد في حين أن التديّن ممارسة جزئية.
الدين واحد أما التديّن فمتعدد، لأن المخارج السلوكية تتنوع حسب تنوع الظرف وتفاوت الوعي البشري داخل النص الواحد الكلي.
فهل السلوك والممارسة الدينية هي منتوج قسري لضرورة الفكرة والمعتقد الديني؟ بمعنى هل التصور الاعتقادي كحالة عقلية هو ما ينتج صورته المادية بالضرورة فيكون الفعل عندئذ مصداق حقيقي لفاعلية وتحكمية الفكرة وقوتها الذاتية بنيوياً؟
ما قررناه سابقاً من فرضية التمايز الجوهري بين بنيتي الثنائية وكونها من طبيعتين مختلفتين يؤسس للفصل الأنطولوجي بينهما، فهناك فصل وتمايز أنطولوجي بين الفكرة وممارستها، بين النظر ومخرجاته العملية، بين الإيمان ومجسداته الدينية.
وهذا الفصل الأنطولوجي يولد فرق ابستمولوجي بينهما، وهذه حجة من يرى خلل الفصل.
هناك تياران رئيسان داخل المذهب الثنائي فيما يتعلق بدراسة العلاقة بين النص والفعل، الفكرة والممارسة، القاعدة الحاكمة تصورياً واعتقاداً والامتثال لها واقعياً:
تيار وضعي:
يرى أن النصوص أو القواعد الحاكمة بحكم التسليم بها اعتقاداً هي من ينتج الامتثال للنص نفسه فورياً؛ فالنص ذاته ينجب خضوعاً تاماً في الخارج من ذاته، وهذا يجعله قسرياً قاهراً على العمل الفوري وقادراً على تحديد طرق ومجالات استخدامه العملية، فلا حاجة عندها للإرادة الفردية أو الحرية الإنسانية أمام قهر النص. فالنص بهذا المعنى إنسان لا إنساني نسبت إليه خصائص الإنسان البنيوية التي مناط الخطاب نفسه يشبه وضع القهر الكلي أمام الخطاب القاعدي وضع الإيمان وقد استحكم في الإنسان، ففي تلك الحالة يكون منطق الفرد هو منطوق ما استبطنه في داخله، على أن منسوب هذه الكثافة الإيمانية غالباً ما يتناسب عكسياً مع تعاقب الزمن، لأنه حالة انفعالية أساساً حتى وإن كان مدخلها القضية المعرفية، ففي الإيمان تكون الحالة المعرفية قضية انفعالية لأنها تتعدى مجرد العلم إلى العمل، فالإيمان ليس مجرد مسألة نظرية.
تيار ذاتي:
يرى هذا التيار أن قضية الامتثال العملي لأحكام منشأها النظر إنما يرجع إلى الفرد ذاته، بل يذهبون إلى أن وجود هذه الأحكام إنما يكون في داخل الفرد ذاته وليس من خارجه، فهي تكون حالات عقلية داخل الذهن، تخرج إلى الوجود فعلاً بفعل قانون التأويل كآلية فردية في جسر العبور من النظر إلى العمل.
إذن عندنا حالة عقلية هي فكرة أو تصور، ثم لدينا مخارج عملية، وبينهما تأويل يسمح بتجسيد الفكرة فعلاً.
فالتأويل كآلية هو عملية متقدمة وجودياً على وجود التطبيق للنص، فلهذا تعلق التطبيق يكون بالنص المؤول الذي يلعب الوضع البشري دوراً خفياً في تحريفه ولا يكون تعلقه بالنص نفسه.
هل يمكن التعميم بالقول، إن كل عمل هو بالضرورة عملية تأويلية لزاماً كما نفهم من أنصار التيار الذاتي في المدرسة الثنائية؟
ما هو التأويل:
هو ما يؤول إليه الشيء، حركة من الغامض إلى الواضح، من المتشابه في المعنى إلى المحكم في معانيه، من المركب إلى البسيط.
فهو آلية لفك طلاسم المتخفي في مراميه ومعانيه لجعلها في دلالة المحكم البين في معناه، وعليه فما يكون واضح بائن لا يحتاج إلى تأويل البتة.
فربط العمل دائماً على أنه صورة للتأويل النصي يدخل النص الحاكم برمته في دائرة المتشابه في الخطاب الذي لا يستقيم معه إجماع ولا يصح معه وحدة جامعة للعمل في كل مظانه على مستوى الجماعة كما هي مدركة اجتماعياً، وهذا خلاف الواقع والحقيقة.
طبعا هم يدركون هذه المسألة جيداً، وهي أن العمل الاجتماعي في الجماعة الواحدة المتوارث جيلاً وراء جيل يتجاوز التأويل الذي هو محل خلاف إلى البدهيات التي هي محل إجماع، فوحدة الإجماع في الممارسات التعبدية تنفي كون التأويل هو قاعدتها في العمل، فالتمثل بمثال النبي له مرتبة التعريف التي تفوق التأويل الذاتي من حيث أنه تعريف ثاني يحضر عند غياب أو الاختلاف في التعريف الأولي.
ننتقل إلى ما نسميه مفارقة فتغنشتاين في التحقيقات الفلسفية وهي: أن السلوك السليم معيارياً يمكن إنتاجه من عدد لا متناه من القواعد الحاكمة الناتجة بدورها عن تأويلات لا نهائية لها.
نفهم منه أن نسبة السلوك إلى تأويل محدد هو فعل اعتباطي لا قاعدة عقلية حاكمة له. وعلة الاعتباطية تكمن في أن نسبة التضايف بين الفعل وقاعدته المنتجة له ‑نص‑ هي إضافة تقريرية لا تقطع يقيناً بسببية القاعدة للفعل مباشرة.
لكن التأويل هل هو معنى بذاته؟ أم قاعدة في فعلها التأويلي للقواعد؟
نلاحظ أن التأويل يظل دائماً محايثاً لموضوعه الذي يريد تأويله، يحضر بحضوره ويختفي باختفائه، وهو عملية عقلية صرفة، وآلية لها ضوابط رغم تمظهرها في شكل سيولة شديدة التغيير، تعمل على موضعة الجزئي المتغير ظرفياً وفق نسق الكلي المدرك عقلياً من مجموع القواعد الحاكمة وفي هذا ما يجعلها تستبطن قواعد في سير العمل.
والتأويل فعل فردي وليس عمل جماعي، ينجم عن إشكالية في تجانس النسق مع سياق التغير الظرفي، فهو يحرر الشخص من تحكمية القاعدة لا من جهة الانفكاك منها، فهذا غير متصور فيمن يحرص على تمثيل القواعد سلوكياً ولكن من جهة أن لا سلطة للقاعدة ‑النص‑ من تلقاء نفسها في تحديد مخرجاتها العملية دون توسط الإرادة والوعي الإنساني وآلية التأويل لضبط التوازن النفسي من خلال رفع الإشكالية الناجمة عن تفاعل العقل وانفعال النفس بالنص القاعدة.
ففي التأويل قواعد ثاوية تؤول بها قاعدة المنطلق للعمل، وهذه هي مفارقة التأويل التي تثبت زيف الادعاء بأن الفعل الذي يزعم فاعله بأنه يطبق به الأمر النصي المؤول لديه كقاعدة للعمل، هو فعل لا يمكن القطع بأية قاعدة من القواعد فُعّل.
الضبابية والاضطراب الذي ينجم عن عدم يقينية القطع بين المبدأ ومنتوجه، تكشف لنا عن خصيصة الممارسة الاجتماعية كسيولة تتدفق وليست كينونة صلبة مستقرة أبداً كمصداق لصلابة القاعدة.
في حالة الممارسة الدينية تكون القاعدة عبارة عن نص مقدس، أو على الأقل تستخرج منه، والخطاب إجمالاً ممارسة معيارية، لا مجرد إنشاء تعبيري جمالي، فكيف يكون الخطاب ممارسة معيارية منذ لحظة تنزله بما يتجاوز الحاضر إلى المستقبل دائماً، حتى وإن كان لحظة تفعيله خطاباً ماضوياً بالنسبة لتنزيله ولبعض مواضيع حديثه.
ما يميز النصوص المقدسة عن بقية النصوص هو التسليم بأنها تملك مكمونات هائلة للتجاوز نحو آفاق مفتوحة، فهي ككل خطاب ابن ظرفه الاجتماعي، ولادته هي انعكاس تفاعلي تقييمي مع ظرفه الاجتماعي حول الكيفية التي وُجد بها واقعياً بما يسمح بتجاوزه مستقبلاً نحو الكيفية التي يجب أن يوجد بها وفق محددات معيارية في النقض هي أسس القياس مستقبلاً.
التأويل من المنظور التاريخي يماثل تاريخ تشكل الخطاب المقدس ذاته، فهو كذلك انعكاس تفاعلي كما النص انعكاس تفاعلي مع واقعه، لكن التأويل لا ينتج الممارسة ذاتها من الأصل بل يضمن استمراريتها وتجددها داخل الجماعة فقط كسيرورة ملازمة دائماً للتشكيلات الجماعية.
وهذا ما دفع بعض دراسي الهرمينوطيقا إلى القول بأن التأويل شرط الممارسة في الجماعة، وهي عند البعض سلوك محدد بشروط الاجتماع عند تطبيق النص يحاكي سلوكنا الغرائزي ذاته؛ فهو غرائزي في عمله العقلاني.
وفي رأيي أن العقلانية تحاكي الغرائزية في الطقوس والممارسات الوقفية غالباً، ولكن المراد منها هنا رتابة التكرار الذي يسلب التفكر جدارته الوجودية وهذا تجده حتى في أعظم المختبرات العلمية.
فتغنشتاين في “التحقيقات الفلسفية” يقرر كما أفهم منه، بأن المطابقة بين الصورة السلوكية والتصور للقاعدة الحاكمة تجعل التأويل زيادة بلا معنى على ما تقرره القاعدة، فهي لا تضيف شيئاً جديداً، أما إذا كانت الصورة لا تدل على التصور أو القاعدة فعندها يكون السلوك من عمل قاعدة أخرى وليست ما يُزعم بأنها دافعه المحرك.
وفي رأيي أن هذه لعبة لغوية منه لا أكثر، فهو يرفض الثنائية ويرى أنها وحدة الممارسة، فكيف يقيس الصورة إلى التصور إلا بفرض التمايز الجوهري بينهما وهذه هي الثنائية؟!
ثم إذا كانت الصورة عين التصور فهذا ما نسميه المسلمات البدهية وهي تكون في العمل محل إجماع وتكون في النسق من المعلوم بالضرورة.
ولا تكون المطابقة صحيحة إلا إذا كان التصور صورة ذاتية تقيس إليها صورة صورتها وهذا عبث سأذكر علته لاحقاً.
الصور الواقعية للفعل قد تتباين عن مقاصد فاعلها ذاته، مما يوحي بأن الممارسة حين النظر إليها ذات ذاتية مستقلة بالفعل عن نوايا ومقاصد أعيانها.
وبالتالي فطبيعة الممارسة في الجماعة ليست بالضرورة تعبير صادق ودال على طبيعة المقصد الفردي، وهذا لغلبة وثقل الضابط الجمعي للجماعة على قوة الاستقلال الفردي.
ليس من الخطأ وإن كان خطيراً رؤية المعايير المقررة للصحة والكذب على الممارسات الدينية في الجماعة بكونها معايير جمعية للجماعة وليست معايير منطقية، ومعيار الجماعة يشتق من إعادة إنتاج الممارسات الاجتماعية كهوية ثابتة للجماعة.
إذن هناك معايير للممارسات الاجتماعية من داخل وحدة الجماعة، تنسف فاعلية الدافع الداخلي للمؤمن أو على الأقل تضبطها وتعيد هيكلتها اجتماعياً، هذه الفاعلية ليست سوى الحالات الوجدانية الإيمانية وهي حالات فردية الطابع تتشوه غالباً أو ترمم ذاتها على ضوء ثقل الكثافة الاجتماعية.
ولأنها فردية كما يذكر فتغنشتاين وبالتالي لا تدرك لدى الآخرين بنفس ما هي مدركة داخلياً، فإنه يستحيل جعل الممارسة مثال يقتدى بناءً على توجيهات النص القاعدة التي تعاش واقعياً كحالات انفعالية داخلية لكل فرد من الأفراد على حدة.
في السياق الشرعي هذا الكلام باطل في تعميمه، فالحالات الفردية الوجدانية المعاشة داخلياً لا تنتج صورها التعبدية استقلالاً، فهذه لا سبيل ضابط لوحدتها وشرعيتها إن خضعت لمعيارية التباين الداخلي بين الأفراد كل وفق طبيعة شعوره وإدراكه، فالسلوكيات التعبدية وقفية الهيئة، أي واحدة في كمها تنتج الكثرة الكيفية، لا أن التعدد الكيفي للحالات الوجدانية هو من ينتج وحدة صوره، فالتعبد إطار صوري وقفي والإيمان تدفق معنوي من رحم الصورة والممارسة.
وهذه تماثل الإشكالية الفلسفية القديمة حول تولد الكثرة من الواحدية، فاعتبر البعض عنوان التعدد مدخل لبطلان التوحيد كما يفعل لودفيغ هنا من تقرير بأن تعدد حالات الفرد الداخلية لا تمكننا من تقرير معيار محدد لصورتها في الممارسة تلزم الجميع. في حين أن الثابت تاريخياً هو وحدة الممارسة في التعبد رغم التسليم بتنوع وتعدد الحالات الانفعالية لكل ممارس بما لا يبطل الممارسة نفسها بل ويزيدها توكيداً.
يصح كلام لودفيغ فيما عدا القضايا والممارسات الوقفية التعبدية.
نسأل ختاماً هل السلوكيات الاجتماعية تعبير ثاو على قواعد مصاغة بالضرورة نظرياً؟
لا يمكننا الجزم بهذا سببياً، وإن أمكن هذا من الزعم تعليلياً، بادعاء أن علة الفعل هو ما يتوهم بأثر رجعي أنه علته. فالقاعدة (أو النص) ليست دائماً وسيلة مفاهيمية لتفسير السلوك والممارسات البشرية، مع أنه يفترض أن لدى الفرد من العقلانية ما تستلزم أن يكون مدركاً قيمياً لطبيعة عمله وآثاره وتداعياته، وعليه فكل فعل استبطان فردي لقيمية الفعل سواء تم إدراك هذا أم جهله.
نستطيع فهم تأثير النص الحاكم على الفرد الواحد، لكن يصعب تقدير طريقة عمله في المجموع الكلي للجماعة التي تمتاز بكونها غرائزية المسعى، فالكثرة الجماعية فيها انتقاص أو حتى نفي للعقل الفردي كما هو ملاحظ واقعياً.
وللجمع بينهما ذهب فريق ومنهم فتغنشتاين إلى اعتبار القاعدة/النص في الممارسة مجرد تقنية روتينية يتقنها الفرد بلا وعي منه بحكم الألفة والعادة كما يتقن التكلم باللغة دون معرفة مسبقة ولازمة بقواعد تركيبها وطرق استخدامها. فالقاعدة في حكمها المنشأ للفعل تعمل عمل اللغة في إنشائها على لسان الطفل للكلام.
فصل القاعدة/النص/التصور عن التطبيق والممارسات يروم بحسن الظن إلى تطهير النص من أدران السلوك العملي للبشر وهذا ما يبرر للثنائية شرعيتها ولا منطقيتها لدى تيار الممارسة.
في حين أن دمجهما كما يفعل أنصار نظرية الممارسة من حيث أن التصور والصورة هما وحدة واحدة، دمجهما يدنس طهارة المجرد بما اختلط به من نجاسة التجريبي وثغراته في مقاربة الحق، ثم أن الدمج يجعل معيارية الحكم داخلية ومنتوج للممارسة التي لا تتحدد في هذا الجانب ولا يبنى عليها إمكانية للتواصل.
ذكرت أعلاه من أن الفصل الأنطولوجي لدى مدرسة الثنائية يؤسس لفرق ابستمولوجي، ويمكننا على عكس نقاد الفصل إدراك وتمييز طبيعة الفروق الأنطولوجية هذه وموضعتها بما يكون له دلالة معرفية بينة. فالحالات العقلية (تصور، عقيدة، فكرة…) هذه حالات مطلقة وبالتالي لا تكون إلا في الأذهان لا في الوقائع، أما ما يتعين منها أي ما يكون له ممارسة واقعية فيكون نسبي وجزئي.
فالمطابقة بين علم العالم وعمله، بين العلم والمعلوم، لا يكون إلا للمطلق الحق وهو خارج مقدور البشر وعلة الشطط في المذاهب القديمة، ولا يصح جعل النسبي عين المطلق لدخول العرضيات في العمل عند تنزيل المطلق واقعياً حسب الظرف، ولهذا كانت ملاحظة لودفيغ دقيقة حين قال:
إن القاعدة لا تضمن كل شروط تطبيقاتها. عند التطبيق تدخل شروط عديدة عرضية متعلقة غالباً بمحددات ظرفية في تنزيل الحكم المطلق نظرياً على أرض العمل لا توجد في القاعدة الأصلية.
أختم بعبارة للشاطبي الذي يجعل الاجتهاد هو ما يعبر بحق عن التديّن كممارسة عملية للدين:
- “لو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن،
- لأنها مطلقات وعموميات،
- كذلك الأفعال لا تقع في الوجود مطلقة،
- وإنما تقع معينة مشخصة،
فلا يكون الحكم واقعياً عليها إلا بعد معرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذاك”.