تغير العقل

421

اسم الكتاب: تغير العقل، كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا

اسم الكاتب: سوزان غرينفيلد

الناشر: الكويت، عالم المعرفة (2017)

أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي والتطورات التقنية المعاصرة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، وتتنوع تأثيراتها بين تأثيرات نشعر بها وندركها، وبين تأثيرات ضمنية تؤثر في دواخل الفرد.

والجوانب الضمنية والداخلية هي الأهم، لأنها تغير الجوهر الذي ينعكس على الأعراض وعلى نمط الحياة؛ كالتغير على الصعيد النفسي أو العقلي أو العصبي حتى، وهذا الميدان هو الذي اقتحمته الباحثة في العلوم العصبية سوزان غرينفيلد في كتابها “تغير العقل”، حيث ترصد فيه التغيرات التي تحدثها التقنيات الرقمية على الدماغ البشري.

فمواقع التواصل الاجتماعي تمثل عالماً موازياً يجعل الفرد قادراً على التحرك في العالم الحقيقي ومنجذباً في الوقت نفسه إلى عوالم أخرى، وزمان ومكان بديلين، وبالتالي يميل إلى تشكيل نمط حياة يؤثر في الداخل والخارج. وفي هذه المراجعة سنطل على أبرز أفكار الكتاب.

تغير نمط الحياة

لماذا يمكن اعتبار أن التغيرات التقنية المعاصرة كقضية معاصرة تستحق الاهتمام؟ وما هو وجه تأثيرها على الدماغ البشري وكيف يحدث ذلك؟

والإجابة هي لأن الوجود اليومي قد أصبح متمركزاً حول الهواتف الذكية وأجهزة الآيباد والحاسوب المحمول وأجهزة الألعاب الإلكترونية، وهو ما أحدث تغيرات جذرية ليس على أنماط حياتنا اليومية وحسب، بل على هويتنا وأفكارنا الداخلية أيضاً وبطرق عجيبة وغير مسبوقة.

وما تحاول الباحثة اكتشافه هو كيفية تفاعل هذه المستجدات مع الدماغ البشري، والذي – كما تثبت علوم الأعصاب – يُعتبر عضواً ذو قابلية للتكيف، بحيث يتمكن من التكيف مع البيئة الجديدة التي يوضع فيها، وبالتالي يبقى متفاعلاً مع العالم الخارجي.

تذكر الباحثة مجموعة من التمظهرات والانعكاسات التي أبرزتها التقنية الرقمية على حياتنا اليومية، فتقول مثلاً كيف أصبح العديد من الشباب يجدون صعوبة في التركيز لفترة طويلة بما فيه الكفاية على قراءة مقال في إحدى الصحف. بل وتشير إلى نقطة مهمة، وهي كيفية تفاعل الصحف والمنشورات مع هذا الأمر، فتجد الصحف قد باتت تنشر فيديوهات قصيرة ولمدة ٩٠ ثانية تلخص فيها خبراً أو حدثاً معيناً، كي تنسجم مع مزاج الجمهور وقدرته على التركيز.

كما نسمع دائماً عن شكوى الآباء من أنهم لا يستطيعون السيطرة على ما يفعله أبناؤهم على الإنترنت. وبينما كان الآباء في السابق يعاقبون أولادهم من خلال عزلهم في الغرفة وحرمانهم من الجلسة العائلية، نجد اليوم كيف انقلب الأمر وأصبحت عزلة الطفل عن عائلته وغرقه في عالم الإنترنت هو الأمر الذي يلبي حاجته أكثر من الجلوس مع العائلة.

وقد شهدت هذه التطورات بروز ما بات يُعرف بالمواطنين الرقميين. هؤلاء المواطنين الذين لا يعرفون أي سبيل آخر للحياة غير ثقافة الإنترنت والحاسوب المحمول والهاتف الذكي، وهم قادرون على التحرر من الإطار الاجتماعي الواقعي والانسجام في المقابل مع الأنشطة التي تقدمها المساحات الرقمية.

وهذا الأمر أحدث فجوة جيلية صعبة بين من ولدوا ضمن التغيرات التقنية وبين الآباء الذين شهدوها في مرحلة متأخرة من حياتهم.

ومن التغيرات اللافتة أيضاً هو تحول هذه التكنولوجيا إلى غاية أكثر من كونها مجرد وسيلة، فمع تحولها إلى أسلوب حياة في عرض الذات والاستجابة للآخرين والتفاعل معهم، أصبحت هذه التقنيات غاية في حد ذاتها، ذلك لأن العالم الرقمي يقدم الفرصة والإمكانية لأن يكون عالماً قائماً بذاته، بل ما حصل هو أن الحياة الرقمية قد تفوقت على الحياة الحقيقية.

الآثار النفسية

إن مختلف التأثيرات التي تُحدثها التقنيات الرقمية على أنماط الحياة تؤثر بدورها على الدماغ البشري، لأنها متصلة بطريقة ما بكيفيات استجابته لمتغيرات نمط الحياة، لذا لا بد أن نستعرض بعض هذه التغيرات لنفصل فيما بعد بكيفية تأثيرها على الدماغ.

بالإضافة لما ذكرناه من تغيرات على مستوى التركيز والحياة الرقمية وغيرها، نلاحظ أنه لم يعد الفرد مضطراً للانتظار أو الشعور بالوقت بين السبب والنتيجة، فالشبكات الاجتماعية قد غيرت هذا الأمر.

كما تشير العديد من الدراسات إلى وجود نسبة عالية من مستخدمي الهواتف الذكية يقومون بتفقد حسابهم على تويتر أو فيسبوك كأول شيء يقومون به في اليوم وبعد الاستيقاظ مباشرة، أو كآخر شيء يفعلونه قبل النوم.

ومثلاً قد نلمس هذا التحول في تغير طريقة لعب الأطفال، من المغامرات في الشوارع والحدائق إلى الانكفاء على التقنية والجلوس للعب ساكناً من دون حركة. وهذا بدوره يصيغ مشاعر وأفكار مختلفة عن الحيوية التي يثيرها اللعب في الهواء الطلق.

بل إن أكثر ما يثير الصدمة هو إمكانية تحول الصمت والاستراخاء والتأمل إلى أمر نادر ودخيل على الحياة القادمة، ضمن بيئة ووسط لا يتيح لك الفرصة للجلوس وحيداً، فبإمكانك أن تُطِلَّ على العالم من شاشة الهاتف المحمول بسرعة وبساطة. وذلك عوضاً عن فقدان الخصوصية التي تسببت به التقنيات الرقمية مع وجود إمكانية عرض الحياة الشخصية من خلال شبكاتها.

كيف يؤثر ذلك على الدماغ؟

تبدأ المقدمة الأولى لهذا السؤال من إدراك حقيقة كون الدماغ عضواً مرناً قابلاً للتكيف مع التغيرات المحيطة به، فشبكته العصبية تتواءم مع البيئة المحيطة لتقدم استجابة تتواصل معها وتتأثر بها، وتتكيف معها بالتالي.

تذكر الباحثة في هذا السياق كيفية تطور ذاكرة سائقي سيارة الأجرة، وقدرتهم على حفظ خريطة مدن معقدة مثل لندن، وانسجام هذه الذاكرة مع ضجيج المدينة وتنوع المستأجرين واستمرارها أثناء الحديث معهم.

أو مثلاً في النتائج العلمية التي أثبتت كيف أنه مع ضمور عضو ما في الجسم، فإن الدماغ يعوضه في تقوية عضو آخر، كفاقدي البصر الذين يمتلكون حاسة سمع قوية، أو مبتوري الأطراف وكيف يُعوض ضعفهم بتقوية طرف آخر.

هذه الفكرة تمثل هذا التغير الذي تتحدث عنه الباحثة، فعندما تضمر استجابات معينة في الدماغ، تتوجه العصبونات في داخله لتفعل مناطق أخرى وتغير استجاباتها تبعاً للمحيط، وتعيد ترتيب المناطق الجديدة في الدماغ بما يتلاءم مع الوضع الجديد.

وهنا تبرز انعكاسات نمط الحياة الجديد على الدماغ، فمع تغير البيئة المحيطة تتغير استجابات الدماغ وتكيفاته، ففي مثال التركيز الذي ذكرناه وكيف أن الصحف أصبحت تتماشى مع متطلبات الجمهور التي تميل لعمل فيديوهات قصيرة لا تحتاج قدراً طويلاً من التركيز، نرى أن ذلك يؤشر على طريقة استجابة الدماغ للمؤثرات التي تتطلب منه التركيز.

فمع زيادة سرعة توارد المعلومات والأفكار والصور على شبكات التواصل الاجتماعي بطريقة سريعة بحيث تقلل إمكانيات التركيز الطويلة، تقل بدورها قدرة الدماغ على التركيز بأريحية لمدة طويلة، فاستجاباته تكيفت مع مدة معينة.

كذلك فيما يتعلق بالتعبير عن الذات، وما يرتبط به ذلك من الشعور بالرضا عن النفس، وهذا يتصل دماغياً من خلال إفرازات هرمونية تعزز السعادة والشعور بالرضا، حيث يكون موضع التغير هنا هو ارتباط الشعور بالرضا عن النفس من خلال ما ينشره المرء عن نفسه في شبكات التواصل، وشعوره بالسعادة حيال استجابة الآخرين له وإعجابهم به، وموضع الصلة هنا هو أن نمط الحياة هذا يربط الشعور بالرضا بدرجة ما تنشره عن نفسك على الفيسبوك، وبالتالي تكون الاستجابات العصبية مرهونة بهذا النمط من التعبير عن الذات.

وحتى شعور المرء بهويته وبجدوى ما يفعله وشعوره بالمعنى بما يقوم به يصبح مرهوناً بمدى تفاعله مع الشبكات الاجتماعية؛ فمثلاً قد يشعر الإنسان بأن ما صنعه خلال يومه لم يحصل في الحقيقة إلا إذا نشر عنه على الشبكات الاجتماعية، لأن الجميع يسجل ما يحدث له عبر هذه الشبكات، وإذا لم يكن المرء جزءاً من هذه المنظومة فسوف يشعر بالغربة عنها، وبالتالي لا يشعر بجدوى أفعاله التي أصبحت مرهونة بالتعبير عنها على هذه الشبكات.

وهذه الاستجابات بطبيعة الحال ترتبط بمناطق معينة يتم تفعيلها بالدماغ مرتبطة بهذه البيئة الجديدة، على حساب مناطق أخرى تضمر لارتباطها بالنمط “القديم” من التعبير عن الذات.

ولعل أكثر ما تمت دراسته في مجال الدراسات النفسية والعصبية هو موضوع الإدمان على الشبكات الاجتماعية، حيث كشفت الدراسات عن وجود نسب عالية من هذا الإدمان وفي بلدان عديدة، وهي تُعتبر إدماناً لأنها تأخذ ذات الصفات التي يتسم بها المدمنون على المواد المخدرة وغيرها، كالشعور بعدم الراحة عند البعد عنها، والتفكير الدائم فيها، واستعمالها بمعدلات طويلة وإن لم تكن هناك غاية واضحة من استعمالها.

ومن المعلوم أن الإدمان هو ذو طبيعة نفسية وهرمونية في الجسم ترتبط أيضاً بالدماغ، وبالتالي يعبتر هذا النوع من الإدمان مؤشراً على تغير الدماغ.

*** *** ***

تقول الباحثة في كتابها الجديد من نوعه أن هناك تساهلاً في التعامل مع هذا الموضوع، وقلة تقدير لآثاره المستقبلية، خاصة وأن جيلنا الحالي هو أول جيل يعيش هذا النمط الجديد، في حين أن الأجيال القادمة سوف تكون مستوعبة ضمن هذا النمط الذي سيتضخم تأثيره وتتوسع أدواته.

كما تشير إلى كثرة الأقوال التي تحاول التخفيف من قيمة النقد الموجه للتقنية وآثارها وإظهار هذا النقد على أنه مجرد تهويلات ومبالغات، ولكن هذه الأقوال لا تعمل إلا على تجاهل المشكلة ونسيان آثارها اليومية المضرة.

من الضرورة بمكان توسيع النقاش والحديث عن هذا الموضوع كي يتم تلافي أضرار التقنية المعاصرة، وتمكين القدرة على الاستعمال الصحي لها قدر الإمكان.