الوعي التاريخي وقضاياه: كيف دخلنا التاريخ وكيف خرجنا منه وكيف نعود إليه
لماذا هذه الدراسة؟
إن الموضوع الذي يعالجه هذا الكتاب هو مسألة اضطراب الوعي التاريخي الذي نعاني منه الآن والذي أسهم في إيصالنا إلى ما نحن فيه. ولا بدّ للإجابة عن هذا الإشكال من (تغيير الأسئلة) والخروج من سجالات أماتها تكرارُ النخب حتى انتزع الإعلامي اليوم من المثقف طرحها وتداولها.
وقد قسمت هذه الأسئلة إلى قسمين:
- القسم الأول: أسئلة نطرحها على تاريخنا وتراثنا.
- القسم الثاني: أسئلة نطرحها على تاريخ الغرب وتراثه الثقافي والسياسي.
الأسئلة الخاصة بتاريخنا ثلاثة: كيف دخلنا التاريخ العالمي، ثم كيف تراجع حضورنا فيه، ثم كيف يمكن أن نستنقذه.
أما أسئلة الغرب فهي اثنان: كيف تمّ بناء أوربة الثقافي من ناحية القيم الموضوعية أولاً ومن ناحية القيم الأخلاقية ثانياً، مما يدعونا إلى القول بحاجة العالم إلى ميلاد علم جديد نحدّد خطوطه العامة.
إن الأسئلة الثلاثة التي نطرحها على تاريخنا تقتضي منا استخدام خمسة مصطلحات لبيان تدرج وعينا التاريخي، وهي: حضور، اضطراب، انتعاش، تغييب، استعادة.
إذاً هي خمسة أحوال ومراحل مرّ بها وعينا التاريخي، أربعة مضت والخامسة هي في المخاض.
ومن حق القارئ علينا أن نقدم له تعريفاً لمصطلح الوعي التاريخي فنقول: إنه ذاك الفهم العقلي والتعايش الضميري الذي يحوّل الذاكرة التاريخية [الخاملة] إلى إرادة واعية للهوية، وهو الذي يرسم الخريطة الحضارية للأمة التي تصون ماضيها وتضيء حاضرها وتحدّد استراتيجيات مستقبلها، وعنه ينشأ (الفعل المجذّر تاريخياً) أي (صناعة المستقبل).
القسم الأول: مراحل وعينا التاريخي
نشرح فيما يلي خصائص كل مرحلة من المراحل التي مرّ بها وعينا التاريخي، حضور، اضطراب، انتعاش، تغييب، استعادة. ونقول إننا بحمد الله قد دخلنا هذه المرحلة الخامسة، وعلينا المتابعة وبلورة الإنجاز.
أولاً: حضور الوعي التاريخي
لنبدأ بالمرحلة الأولى (حضور الوعي التاريخي) التي تقترن بسؤال كيف دخلنا التاريخ العالمي. ونغطي في كل منها الجانب الفلسفي والثقافي والسياسي.
من الناحية الفلسفية:
شكّل مفهوم التوحيد الأساس الذي انبنت عليه حضارتنا الإسلامية والركن الركين في تصور وجودها. ولسنا بحاجة إلى التفصيل في هذا لأنه معروف، غير أنه لا بدّ لنا من التنبيه هنا أننا لا نقصد بمفهوم التوحيد الطرح الضيق الذي يحشره في البدع أو في الخلاف بين المدارس العقدية وما عُرف في تاريخنا باسم علم الكلام، أو الخلاف بين الأشعرية والماتوريدية والمعتزلة. وإنما نقصد به مفهوم التوحيد بصفائه وعمقه وبساطته. هو الثورة على فكرة تعدد الآلهة أو تفرّق الأرباب أو حلول الإله، تلك العقائد التي تقود إلى ازدواجية المعيار الخلقية وسوء فهم السببية في الكون وفساد التنظيم الاجتماعي للبشر. إنه التوحيد الذي يقرّ بالخالق الأحد فلا يعد هناك تفضيل أو اصطفاء على أساس قومي أو عرقي ويستوي فيه البشر بمنزلتهم لا يميّز واحداً منهم إلا عمله الصالح، فيضع كل ذلك أساس السلام العالمي، علاوة على الاستقرار المجتمعي.
من الناحية الثقافية:
فقد أقمنا صرح علومنا الدينية وعلوم اللغة العربية، ثم مضينا إلى ما سُمّي (علوم الأوائل) فنقلناها إلى لغتنا العربية ليس نقل الترجمة والتبنّي الأعمى، وإنما هو (التعريب) بمعنى قراءتها قراءةً نقدية وتفنيد ما لا يصحّ من المعاني وإعادة صياغة مسائلها وفق خريطة ذهنية جديدة.
ثم اتجهنا إلى العلوم الطبيعية فأبدعنا في مختلف فروعها بعد أن قوّمنا منهجية البحث. فنحن أول من تجاوز المنهج الصوري الأرسطي وابتكر المنهج الاستقرائي الرياضي في فهم الوجود الطبيعي الخارجي (عالم الطبيعة)، فكنّا أول من أدخل التجربة إلى منهج البحث العلمي في هذه العلوم. وعلى سبيل المثال، كان على رأس هذا المنهج الإسلامي التراثي (الحسن بن الهيثم) العالم الطبيعي، وعلى الصعيد الفلسفي اكتشفنا (الأنا التجريبية) من خلال نقد (العلّية) للغزالي. وهكذا كوّنّا ثقافةً تمثّل مختلف الثقافات، أسهمت فيها مختلف الأعراق والأديان واللغات، فكانت الثقافة الإسلامية العربية تُمثّل خلاصة المعرفة الإنسانية كلها في ذلك العصر، وتُمثّل اللغة العربية لغة المعرفة والعلم. وكنا خلال هذه القرون نصنع التاريخ العالمي سياسةً وثقافةً، وكنا على وعي تاريخي بما نصنع ولذلك مثّلت هذه المرحلة حضور الوعي التاريخي.
من الناحية السياسية:
لا شك أن الإسلام هو الذي أدخلنا التاريخ العالمي بأن نَقَلَ العرب –المخاطَب الأول– من فكرة القبيلة إلى فكرة الأمة. وكان لا بدّ للأمة كجماعة ثقافية ذات صبغة تصورية أن تحمي وجودها المعنوي بهياكل موضوعية، ومن ذلك تحقيق الاجتماع السياسي. وبتأسيس مجتمع سياسي في المدينة ثم في مكة ثم في الجزيرة العربية، وضعنا البذور لدولةٍ تحقق مقتضيات الإسلام في حياتها وتحمل رسالتها خارج حيّزه الجغرافي الضيق. بدأ دخولنا التاريخ العالمي من خلال الفتوحات التي كان أولها فتح بلاد الشام، فبعد معركة اليرموك واستلام مفاتيح القدس أصبحت بلاد الشام عربية مسلمة قلبها فلسطين وقلب فلسطين القدس، برغم أن أكثر السكان يومها لم يكونوا مسلمين ولم يدخلوا الإسلام بشكل تامٍ إلى مئة سنة تالية أو يزيد، إلا أن نظم الحياة صار نظماً إسلامياً. ومع قيام الدولة الأموية بعاصمتها دمشق، واكتمال عملية التجذير بفتوحات العراق وشمال أفريقية، امتدت الفتوحات شرقاً حتى الصين وغرباً حتى الأطلسي وأصبحت بلاد الشام قلب منطقة عربية تعمل كحجر أساسٍ، منطقة تميزت بلسانٍ قادرٍ على التفاعل مع القرآن مصدر الهداية، فأصبحت بمصطلحنا التاريخي قلب دار الإسلام.
مثّلت الفتوحات المبكرة ثورةً جيوبولوتيكية استندت إلى حدثين:
الأول: بلاد الشام التي كانت قبل الفتح الإسلامي منطقة ارتطام فأصبحت منطقة انطلاق. وكانت هذه المنطقة من قبل ممراً لقوى البرّ الآسيوية وقوى البحر الأوربية في صراعهما التاريخي ما بين اليونان والفرس والرومان والفرس. وكانت تلك القوتان هما اللتان تتحكمان ببلاد الشام، وكان الصراع يدور فيها وعليها، فجعل الفتح الإسلامي منها القوة التي تتحكّم بهما والتي احتوتهما معاً. وقد أصبحت بلاد الشام نقطة الارتكاز الجيوبولوتيكي للوجود المسلم ونقطة التوازن الجيوستراتيجي بين جناحيها: الجناح الآسيوي الشرقي والجناح الأوربي الغربي، أو كما يقول الجيوبولوتيكيون بين اليابسة الآسيوية والماء الأوربي.
الثاني: فتوحات البحر المتوسط، فبعد معركة ذات الصواري أصبح للكيان السياسي المسلم وجود بحري في النقطة التي هَزَم فيها أسطولُ القوة الفتية الأسطولَ البيزنطي العريق، ودفعه إلى ركن لم يخرج منه مرة أخرى. ولم يعد البحر المتوسط بحر الروم، أو كما كانوا يسمّونه بحرنا (Mare Nostrum)، بل أصبح بحراً مسلماً بعهدة العرب، وهذا هو الحدث التاريخي الذي ربما انحفر في الذاكرة الأوربية، لأن السيادة على المتوسط كانت أساس الوحدة الامبراطورية الرومانية، وبهذا الحدث أصبح القاعدة العربية للإسلام، قوةً بحريةً وبريةً معاً لدولةٍ تمتد من الصين إلى الأطلسي وصفها العالِم المشهور ماكيندر بحقٍ بأنها (أول دولة عالمية في التاريخ).
وبذلك لم تُطو صفحة يزدجرد وهرقل ومن قبلهما دارا والاسكندر فحسب، بل أصبحت هناك دائرة جديدة تُمثل تاريخاً جديداً هي (دار الإسلام)، وهو المصطلح الذي شغل الاستشراقَ كثيراً ومازال يوجه سياسته إلى اليوم.
لقد كانت شعلة الإيمان وإحكام اتخاذ الأسباب الروح والأداة التي جعلت كل هذا يتمّ في أقل من مائة عام. وكان تقبُّل شعوب البلاد المفتوحة للإسلام أمراً يدعو إلى الدهشة أحياناً، كما هو الحال مع البربر الأمازيغ الذين تولوا هم أنفسهم فتوح الأندلس. وكان يرافق انتشار الإسلام تدرّج في انتشار اللغة العربية والخط العربي، وكان انتقال بعض القبائل العربية أو رجال الصحابة وخاصة القراء واستقرارهم هناك سبباً في ذلك، بحيث جرى التعريب لغةً وخطّاً بالتدرّج وفق حلقاتٍ متتابعة من الحلقة الصلبة في المركز إلى الأطراف.
ثانياً: اضطراب الوعي التاريخي
المرحلة الثانية في تطور وعينا التاريخي هو معاناته للاضطراب وقسمنا أسباب ذلك إلى أسباب داخلية وأخرى خارجية.
1. الأسباب الداخلية
هناك مساحة واسعة من الأسباب الداخلية نقسمها إلى ثقافية وسياسية:
ا) أسباب داخلية ثقافية:
تعثّر الاجتهاد الفقهي وغير الفقهي وغلبت نزعة التقليد وتوقف الإبداع في معظم أوجه الثقافة الإسلامية. لم يُتح للفكر الإسلامي من يُقيّم هذه التجربة التاريخية حتى جاء ابن خلدون في القرن الثامن الهجري فقام بنقد عقلنا التاريخي في مقدمته المعروفة، فلقد كانت هذه المقدمة استعراضاً شاملاً لجميع أوجه الثقافة الإسلامية، وكانت ثمرة نقده وما أسماه (علم العمران) الذي هو بمثابة تحرير العلوم الاجتماعية والسياسية من العلوم الفقهية، وهذا أكبر إنجاز له. وإلى جانب ابن خلدون جاء عَلَمٌ آخر معاصر له هو ابن اسحاق الشاطبي الذي قام هو أيضاً بمحاولة بناء مقاصد عامة تضبط الجزئيات الفقهية معتمداً في ذلك على استقراء الأحكام واستصحاب علم أصول الفقه. إننا بحاجة إلى مراجعة ونقد إنجازاتهما وتجاوزها كمقدمة جديدة تتناول تجربتنا التاريخية بأكملها إلى اليوم.
ب) الأسباب الداخلية السياسية:
كان أهمها الصراع بين الحكم الفاطمي العبيدي في القاهرة والخلافة العباسية في بغداد والذي انتهى بعجز الفاطميين العبيديين عن إسقاط الخلافة العباسية في عهد القائم بأمر الله. وكان أن تمّ التوافق بين الخليفة العباسي وطلب طغرل بك السلجوقي عام 447ه/ 1055م، فدخل السلاجقة بغداد وسقطت المشاريع الجزئية لصالح المشروع العام للأمة.
وأهم المشاريع الموازية اثنان: البويهيون والحمدانيون. وكان البويهيون فرس شيعة زيدية (في مبتدئهم ثم مالوا إلى الإثني عشرية)، وكان أن طلب معونتهم في وجه الصليبيين الخليفةُ في بغداد. أما الحمدانيون في حلب الذين تميزت فترتهم بالرغد فكانوا شيعة اثنا عشرية اقتصر نفوذهم على بقعة محدودة لها أهمية بين موصل وحلب في شمال العراق وسورية اليوم.
أما مشروع العبيديين فكان مشروعاً متلوّناً ومثّل التحدّي الأكبر والأخطر في مركزهم في القاهرة، وهو تحدٍّ مزدوج سياسي ومذهبي، حيث انتمى العبيديون (الذين حاولوا تحسين صورتهم بإطلاق اسم الفاطميين على أنفسهم) إلى المذهب الإسماعيلي وهو ركن مذاهب الغلاة ومنه تفرّعت، مع تداخلات مع الطوائف الشيعية المختلفة مما يجعل وصفه المجمل أو البتّ في طبيعته ليس سهلاً.
ويضاف إلى ذلك تهديدات القرامطة في منطقة الخليج العربي الذين مثّلوا جماعات انتقامية تنشر الفساد في الأرض أكثر من كونهم أصحاب حكمٍ مستقر. وتجاه الصعود السلجوقي حاول البيزنطيون اكتساح آسية الوسطى، لكن ألب أرسلان تصدّى لهم في معركة ملاذكرد 463ه/ 1071م وهزمهم وأسر امبراطورهم رومانوس الرابع، وكان ذلك إيذاناً بولادة دولة سلاجقة الروم التي أورثت السلطة إلى العثمانيين فيما بعدُ حينما نصّب سلطان قونيه علاء الدين، عثمان بن أرطغرل بن سليمان عام 699ه/1299م وهو مؤسس الدولة العثمانية، وبها بدأت مرحلة جديدة من التاريخ الإسلامي.
ومن الملاحظ أن النزاعات الداخلية سواء بين أمراء الطوائف بالأندلس أم أمراء الشام تولّد عنها فيما بعد حركات إصلاحية شاملة. ومن ذلك ظهور عماد الدين زنكي ونور الدين محمود الذين هيأوا التربة لصلاح الدين في استرداد القدس من الصليبيين عام 583ه/ 1187م. ولقد أضعفت نزاعات أبناء صلاح الدين بعد وفاته قدرة المقاومة ضد الصليبين، حتى جاء المماليك فاستردوا الساحل الشامي بكامله وكانت عكا آخر قلعة صليبية فيه، واستعادها الأشرف قلاون 690ه/ 1291م وبذلك انتهى الوجود الصليبي في بلاد الشام بعد حوالي 200 سنة.
ونشير هنا إلى أن الدراسات حول هذه الفترة ما زالت غير وافية رغم أنه حدثت فيها تغيرات عميقة في المجتمع الإسلامي. ومن هذه التغيرات تدهور الزراعة نتيجة الحروب، وفقدان التجانس السكاني نتيجة التهجير، والخسارة الاقتصادية الكبرى هي في خسارة تجارة المتوسط التي ورثتها المدن الإيطالية. أضف إلى ذلك التراجع الواضح في الحياة الثقافية، باستثناء ابن تيمية وابن القيّم.
2. الأسباب الخارجية
ما إن جاء أواخر القرن الخامس الهجري حتى تتالت على العالم الإسلامي كوارث كبيرة. فلقد نتج عن الحروب الصليبية في بلاد الشام قيام ثلاث إمارات في الرها وأنطاكية وطرابلس، كما سقطت القدس عام 493ه/1099م وأنشئت فيها مملكة القدس الصليبية. وكانت هذه أول سابقة من الغرب في محاولة استرداد بلاد الشام، وهي تعني إخراجنا من أرض الفتح الأول. وتلا ذلك سقوط قرطبة عام 635ه/1237م، والتي تُعدّ (بغداد الأندلس). وما إن تمّ استرداد القدس عام 583ه/1187م على يد صلاح الدين حتى وقعت كارثة ثالثة هي حروب المغول التي دمّرت بغداد عام 656ه/1258م. وبذلك دُمّرت عاصمتا الثقافة: قرطبة وبغداد.
ثالثاً: انتعاش الوعي التاريخي
مثّلت التجربة الزنكية وما تلاها من التجربة الأيوبية، ثم تجربة المماليك محطات مهمة في انتعاش الوعي التاريخي. فقد اهتمت التجربة الأيوبية بإصلاح التعليم خصوصاً، ويعتبر ذلك رديفاً للإنجاز السياسي أو أساساً له. أما مرحلة المماليك فجمعت في آنٍ واحد بين الاستقلال السياسي وغياب مرونة الحكم ناهيك عن تسلّط غير مسبوقٍ في تاريخنا من جهة، وبين ظهور حركات فكرية إصلاحية رائدة، مثل الخط الذي أسس له ابن تيمية ثم تلميذه ابن القيّم من جهة أخرى.
ولكن العامل الأكبر الذي أرسى استقراراً يحضن انتعاش الوعي التاريخي كان في التجربة العثمانية. ومنذ عام 1299م/699ه دخلنا في طور جديد فبدأت الفتوحات العثمانية في أوربة وتمّ إسقاط القسطنطينية عاصمة بيزنطة وبذلك انتهت القرون الوسطى الأوربية عام 1453م. ورغم أنه يصعب كثيراً تلخيص حقبة مجيدة امتدت خمسة قرون، يمكننا تقديم الملاحظات التالية حول هذه الحقبة:
- لا يمكن مقارنة الفتوحات في أوربة كبديل معادلٍ عن خسارة الأندلس – كما يرى بعض المؤرخين- فقد مثّلت الأندلس في تاريخنا الجناح الغربي للدولة الإسلامية امتداداً للحضارة الإسلامية بعمقها العربي الذي امتلك لغة القرآن . يشهد على ذلك بروز قرطبة (بغداد الأندلس)، أما الفتوحات العثمانية في أوربة فهي توسّع دولة أكثر من إقامة حضارة.
- الدولة العثمانية التي لم تستطع الوصول إلى الأندلس، حفظت فيما بعدُ الأجزاء الواسعة للعالم العربي المعروف بأهميته المرجعية المعروفة وجامعاته ومراكز تعليمه.
- أضحت المجتمعات ضمن الدولة العثمانية فيما بعدُ من مراحل تطورها في عزلة عمّا يحدث في أوربة من ثورة علمية وصناعية وتحولات اجتماعية واقتصادية وقانونية وسياسية، أكسبت أوربة القوة السياسية في عهد الرأسمالية، وكانت سبباً في ظهور الاستعمار والكرّ مرة ثانية على العالم الإسلامي بدءاً من العالم العربي.
- عدم إعطاء اللغة العربية مكانتها التي تستحقها خاصة وأنها لغة القرآن الكريم والحديث وتراثنا الإسلامي، بحيث لا يقتصر الأمر على الحماية السياسية للعالم الإسلامي فحسب بل وعلى الحماية الثقافية.
لقد أقلق التمكّن السياسي للعثمانيين القوى الغربية فسارعت إلى محاربته لثلاثة قرون كاملة، وكان أشدّها مرارة العدو الروسي وتمّ ذلك كله تحت عنوان المسألة الشرقية. أما الإنجازات العثمانية فنلخّصها بالتالي:
- مدّدت حياة الوجود المسلم قروناً طويلة.
- أكسبت المسلمين خبرات جليلة في الإدارة حيث تميّزت الإدارة العثمانية بالمرونة والإبداع برغم استقرارها الدواويني البيروقراطي.
- أصبح الوجود الإسلامي وجوداً راسخاً في آسية الوسطى وما حاذاها، كما دخل الإسلام القارة الأوربية.
- تطوير (نظام الملّة) الذي يُعتبر بحقّ من أرقى طرق رعاية التعدّدية، وتبدو أمامها المحاولات الديمقراطية اليوم أقزاماً.
- حتى في مرحلة الضعف والذبول:
- وقف النظام العثماني في وجه الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
- ساهم في تدعيم التواصل العملي من خلال الخط الحديدي الحجازي، لا كخط مواصلات فقط بل بدلالته العميقة كطريق تواصل اجتماعي في المجتمع الإسلامي.
- إصدار مجلة الأحكام العدلية التي كانت أول محاولة لتقنين الشريعة في أحد مذاهبها (المذهب الحنفي).
رابعاً: تغييب وعينا التاريخي
مثّلت اللحظة التاريخية للنهضة الأوربية نوعين من التحدي:
الأول هو تحدي العلم الحديث والتقنية الحديثة والإدارة الحديثة المقترنة بهما، وكان هذا يتطلب منا توطين البحث العلمي الحديث وربطه بتاريخ تراثنا العلمي وكأنما نحن نستأنف استمرار هذا التاريخ وخاصة أن بدايات العلم الأوربي الحديث بدأت بالأخذ بنهايات العلم العربي الإسلامي التراثي، إضافة إلى توطين التصنيع، وكلاهما (البحث العلمي والتصنيع) اصطُلح عليهما بمصطلح التحديث.
الثاني فهو الاستشراق، ويمكن أن نعرّفه تعريفاً إجرائياً بأنه الجهد الفكري لتسميم الاجتماع الإسلامي، وبه تبدأ المرحلة التي أطلقنا عليها تغييب الوعي التاريخي.
خلال قرون الجمود والعزلة عمّا كان يحدث من حولنا من تحولات، قام الغرب – خاصة بعد تجربة الحروب الصليبية – بجهود علمية جبّارة لدراسة تراثنا الإسلامي واستيعاب عقلنا التاريخي بشتّى جوانبه، ومن ثمّ محاولة تغريبه واستلابه من خلال رؤيته الاستشراقية. ثم كوّن هذا الفهم للتاريخ مرجعية لثقافاتنا الوطنية عقب الاستقلال بفعل نخبٍ احتكّت بالغرب وتعلّمت علومه وظنّت أن طريق النهضة هو التقليد واحتذاء المسلك الأوربي بحذافيره.
فالرؤية الاستشراقية هي فلسفة مرجعية لا يمكن وصفها بأنها محايدة بل هي منحازة إن لم نقل معادية. ولقد تمّ محاولة دمج العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في الأنا الأوربية الحديثة بأصولها الثلاثة:
- فأُرجع تراثنا الفلسفي إلى الفلسفة اليونانية كنوع من تكرارها.
- وأُرِجع تراثنا الفقهي إلى القانون الروماني
- وأُرجِع الإسلام نفسه كدينٍ إلى التراث اليهودي المسيحي.
وبذلك لم تُعتبر الهوية الحضارية الإسلامية وجوداً تاريخياً حقيقياً وإنما وجوداً ملحقاً وعلى هامش التاريخ الأوربي. المهم أن غياب الوعي التاريخي قد تحوّل إلى تغييب تام وكان هذا هو التحدي الأخطر.
ومما أسهم في مزيد من تغييب الوعي التاريخي دور النخبة الاستشراقية التي حوّلت الرؤية الاستشراقية من مجرّد مرجعية نظرية إلى واقع اجتماعي أُكره عليه المجتمع الإسلامي من خلال التنوير القسري والعَلمانية الصمّاء. وبذلك وصلنا إلى مرحلة فقدان الوعي التاريخي التامّ الذي سرعان ما ثارت عليه الهوية الإسلامية فتنوّعت أشكال محاولة الاستعادة، وهو ما نناقشه في الفقرة التالية.
خامساً: استعادة وعينا التاريخي
ماذا كان علينا أن نعمل لاستعادة وعينا التاريخي المغيّب؟ إن المهمة صعبة وثقيلة، إذ علينا مراجعة تاريخنا كله الثقافي والسياسي وتخليصه من آثار الاستشراق وتأثيره، وهو تأثير حقيقي لا وهمي وهذا يتطلب منا:
- العودة إلى الأصول الأولى وإلى أصول التراث من أجل تأسيس فهمٍ جديد للأصول الأولى نجدد بها رؤيتنا للدين، رؤية قادرة على إحياء شعلة الروح الأولى، شعلة الإيمان، بمعنى آخر إحياء علوم الدين بدءاً من علوم القرآن متجاوزين في ذلك المدارس الكلامية التاريخية إلا بقدر ما تستجيب لعملية الإحياء هذه.
- أما ما يتصل بتراثنا الفقهي فقد كان علينا أن نحرر هذا التراث من الآلية إلى الغائية التي تمثّل القيم العليا للشريعة الإسلامية التي هي روحها.
أما العودة إلى أصول التراث فتعني بالضرورة إعادة كتابة تاريخنا كتابة نقدية تُظهره على حقيقته في سؤدده أو في قصوره. هذا فيما يتصل بتراثنا الثقافي أما ما يتصل بتراثنا السياسي فإنه شهد صعوداً وهبوطاً وابتُلي بما تبتلى به النظم التي يحيط بها الأعداء، فقصر عن المثال وتباعدت فيه النخب السياسية عن النخب الاجتماعية والفكرية.
وصار واجباً علينا أن نبحث عن طرق التخلّص من الاستبداد وأن نمحقه محقاً بأن نستمد من أصولنا الأولى شرعية قيام السلطة ومشروعية ممارستها بربط الأولى بالقيم الإسلامية العليا (التوحيد) التي تنبثق منها معاني الحرية والعدل والشورى والإجماع العام. أما الثانية فقواعد أساسية لممارسة السلطة هي الشورى الملزمة والبيعة الاختيارية الحرة والطاعة المبصرة المشروطة.
1. اختراقات التجربة الاستشراقية العربية
مصطلح التنوير الغربي يشتهر بتأكيده على أن الإنسان مسؤول عن أية وصاية على عقله، ولكن انقلب في التنوير العربي إلى فرض الوصاية على العقل. ومن المناسب أن نستعرض سريعاً مصطلحات شائعة وكيف تؤثر في الوعي الجماعي عقب فترة الاستعمار، ومن هذه المصطلحات مصطلح الحرية الفردية ومصطلح فصل الدين عن الدولة.
مصطلح الحرية الفردية، وهي التي اعتبرها لوك حقاً للإنسان لا يجوز انتهاكه تحت أية حجة بما في ذلك الإرادة العامة التي تحدث عنها روسو فيما بعد خوفاً من أن تعتبر ذريعة للاستبداد وهذا هو أساس الليبرالية الغربية بما في ذلك الدينية منها والسياسية والاقتصادية. وقد تحوّل هذا المفهوم في الليبرالية العربية من رفع الوصاية على الدين إلى وضع الدين تحت وصاية الدولة، ومن رفع الوصاية للحكومة على الشعب إلى فرض الاستبداد، ومن الحقوق التي تضمنها الديموقراطية إلى تأجيل هذه الحقوق.
فالتنوير العربي هو تنوير قسري استبدادي، ولكن العَلمانية العربية عَلمانية صمّاء لا تسمح بأي حوار معها أو حولها. وقد اتُخذت ذريعة لأهداف أيديولوجية سياسية حوّلت كل المفاهيم التي سبق ذكرها إلى مجرّد استعمال من أجل هذه الغاية وذلك لأن المشروع النهضوي الاستشراقي يتطلب إبعاد الإسلام عن النهضة بثلاث خطوات:
- الأولى تحييد الدين تحت شعار فصل الدين عن الدولة وهو ما أطلقنا عليه اسم العَلمانية السياسية.
- أما الخطوة الثانية فهي تحريف الدين بحيث يُقدَّم من خلال الرؤية الاستشراقية.
- أما الخطوة الثالثة فهي تغييب الدين عن المجتمع نهائياً وهو ما أسميناه العَلمانية الشاملة، وهكذا ضمّت جميع المفاهيم الغربية بمفهوم العَلمانية بحيث أصبحت سبباً للتنوير القسري وتأجيل الديموقراطية.
- ونتيجة لهذا التصور فقد استنتج الفكر الاستشراقي العربي أن الثقافة الغربية الحديثة قد حوت ثقافات ما قبلها وأنها أصبحت الآن هي الثقافة الوحيدة بعلميتها وعالميتها وأن الطريق إلى النهضة يعني الأخذ بهذه الثقافة الغربية، وبالتالي يعني أن الثقافة العربية تشكّل إعاقة للنهضة ولا بدّ من القطع معها بما سُمّي القطع مع التراث.
- وما نحبّ أن نشير إليه الآن بأن هذه الأطروحة قامت على أخطاء مفاهيمية.
- أولها فكرة (القطع مع التراث). وهذا يدل على جهل فاضح بطبيعة الإنسان الذي هو كائن زماني وحياته محدودة فهو كائن تاريخي وبالتالي تراثي وبالتالي فإن التراث يمثّل تاريخية الإنسان ولا مجال للقطع معه.
- أما الخطأ الثاني فهو عدم التفرقة بين مفهومي العلم والثقافة. فالثقافة قيم معرفية وأخلاقية وجمالية وعملية، أما العلم فهو بمفهومه المعاصر (وليس التراثي) معرفة تجريبية محققة. أي أن العلم يجيب على سؤال كيف، بينما تجيب الثقافة على سؤال لماذا. وتجاه هذا التقسيم ننبّه إلى مسألة تتعدد الثقافات وتعدد تاريخها:
- فالعلم التجريبي تاريخه واحد وكذلك التقنية فهو الجزء من أي ثقافة قابلة للتداول بين الثقافات. الخطأ في الفكر الاستشراقي الخلط بين واحدية العلم التجريبي التقني وبين تعدّد الثقافات.
- أما الحديث عن علمية الثقافة فهو أمر يحمل تناقضه في داخله فلا يحتاج إلى تفنيد.
- أما الخطأ الثالث فهو (عدم التفرقة بين التحديث والتغريب) فالتحديث يخص عالم الأشياء، ولا يمكن أن يكون سبباً للنهضة ما لم يقترن برؤية ثقافية، وحينما نتخلى عن الرؤية الإسلامية في فهمنا للنهضة يؤدي بالضرورة إلى تغريب. وهذا ما أثبتته تجربة نهضة محمد علي حينما اكتفت بالتحديث فتآكلت وانتهت على يد أبنائه إلى تغريب.
- أما الخطأ الرابع فهو (نزعة الانفصال عن الواقع المجتمعي) بحيث انفصمت العلاقة بين الأفكار والمصطلحات وبين الواقع الاجتماعي فبدت مصطلحات النهضة والتقدم والحداثة مصطلحات للتداول بين النخبة الاستشراقية دون أن يكون لها أي صلة بالواقع الشعبي، حتى أن مفهوم الشعب نفسه أصبح كأنه (شيء).
إن كل تلك المصطلحات كانت فاقدة للدلالات الاجتماعية، وما يزال أفراد النخبة إلى اليوم بعد حوالي قرنين يتحدثون عن مشروعات النهضة وضرورة التقدم والأخذ بالحداثة. وبذلك بقي سؤالنا لماذا لم ننهض إلى الآن؟ يُجاب على ذلك بأن الإجابات الخاطئة تجاه أسئلة النهضة ماتزال كما هي.
ولعله يمكن تلخيص التجربة الاستشراقية العربية بالتنوير القسري والعَلمانية الصمّاء التي استخدمت في المرحلة الليبرالية لتأجيل الديموقراطية، وفي المرحلة الاشتراكية للقضاء عليها، مما يدلّ على أن مشروع النخبة الاستشراقية مشروع إيديولوجي سياسي غايته تنحية الإسلام عن أي دور في المجتمع باعتباره عائقاً أمام النهضة، وكان من نتائج هذه التجربة الأمور التالية: إقصاء الأنا الإسلامية، ومزيد من تغييب الوعي التاريخي، والأسر المصطلحي، والتبعية العلمية التقنية، وتجذير الاستبداد؛ وبذلك ضاعت النهضة وضاعت فلسطين معها.
تجربة عملية:
ومن المفيد هنا أن نشير إلى تجربةٍ في النهضة توضّح علاقة النظري بالواقعي. فهناك تجربة مشهورة أدى غبش الرؤية والرغبة في تقليد الغرب والنزعة العسكرية إلى فشل هذه التجربة وتأسيسها لاختراقات ثقافية، ألا وهي تجربة النهضة التي قام بها محمد علي في مصر. فقد نتج عن هذه التجربة التغريب وفشلت في التحديث من خلال رؤية إحيائية، فتآكلت نهضته على يد أبنائه وانتهى التحديث إلى تغريب بفعل قوى الغرب واستبداد الحكام حتى جاء الحكم البريطاني عام 1882م فوجد الأرض مهيأة لحملة الاستشراق باختراق الثقافة الإسلامية العربية للمجتمع وإحلال ثقافة استشراقية غربية.
وافتقرت تجربة محمد علي إلى نخب أصيلة من داخل المجتمع تتوسط في عملية التحول وتسهم فيها. والذي حدث أنه لما افتقد محمد علي هذه النخب جاء بالإنجيليين اللبنانيين كجماعة وظيفية (أطلق عليهم لقب الشوام) وسلّمهم أجندة الثقافة والإعلام إلى أن استطاع مع الوقت تكوين نخب محلية بلغت مداها في (توطين الاستشراق) من خلال اختراق ثقافي بإنشاء الجامعة المصرية تحت إدارة عدد من المستشرقين يدرسون باللغة الفرنسية ثم الإنجليزية وأخيراً العربية من أجل تكوين جيل يتبنى الرؤية الاستشراقية لتراثنا وتاريخنا، (وكان أحمد لطفي السيد يلقب بـ”أبو الجيل”)، وكانت ثمرة ذلك ظهور طه حسين عميد الاستشراق في مصر والعالم العربي فيما بعد في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)، حيث أسّس الكتاب لثقافة تقوم على إحياء الهوية الفرعونية والذي كان منهجاً تربوياً للأجيال المصرية. أما من الناحية السياسية وهو الوجه الآخر للاستشراق فهو تكليف أحمد لطفي السيد بإنشاء حزب الأمة الذي يهادن سلطة الاحتلال باسم الاعتدال، ومنها ومن عباءة حزب الأمة خرج سعد زغلول.
2. عملية استرداد وعينا التاريخي
يجب أن لا نكتفي بنقد الفكر الاستشراقي العربي والتجربة الاستشراقية فلا بد لنا من أن نسأل لماذا حدث كل هذا؟ بعبارة أخرى أن نطرح هذا السؤال: ما هو السبب في أن يصيبنا التقليد والجمود في كل جوانب عقلنا التاريخي في العلوم الدينية والعقلية والطبيعية؟ وأعتقد أن الإجابة الصريحة هي هيمنة العلوم الفقهية على العقل التاريخي هيمنة كاملة بحيث لم يبقَ لنا فضاء تاريخي خارجها نتنفس فيه. ألا يستدعي ذلك طرح السؤال التالي: ألسنا بحاجة ماسة إلى طرح نظرية جديدة تتناول إعادة تقسيم العلوم الإسلامية وإعادة تنظيم حقولها، بما فيه الحقل الفقهي، تنظيماً يسمح لنا أيضاً بإعادة تنظيم تراثنا التاريخي حتى يصبح تاريخنا الحقيقي هو ما نتمثّله نحن لا ما نسرده أو ندرسه أو نعيد كتابته؟، أي تصبح تاريخية التراث هي تاريخيتنا نحن الآن، وبحيث يعني الوعي التاريخي: فقه التاريخ كمصدر معرفة حية تفتح لنا الآفاق لكي نكتشف عظمة التوحيد الذي شمل كل جوانب عقلنا التاريخي، فهو ليس مقتصراً على علوم الفقه (أعني فقه العقيدة أو العبادات والمعاملات) بل شمل فقه التاريخ وفقه الفلسفة وفقه الطبيعة وفقه الفن الإسلامي الذي أهملناه غاية الإهمال مع أنه أحد المداخل الرئيسة للإيمان ويكاد يُعلن في تاريخنا كله حقيقة التوحيد.
ا) الجانب الثقافي في استعادة الوعي:
حين نقول علينا إعادة تأسيس فهمنا لأصول الدين وأصول التراث فإننا نعني أنه لا بدّ من مراجعة تقسيم العلوم الإسلامية، ومن هنا ركّزنا في العودة إلى الأصول على مصطلح (ثوابت الفهم) أو على الأصح (ثوابت الفهم الجديد) التي نلخصها في النقاط التالية:
- ونسلك في ذلك التسلسل التاريخي، فنبدأ بثوابت فهم الصحابة وهي: الإيمان، اللغة العربية (اللهجة القرشية)، والذائقة الفنية الأدبية، والتلقي المباشر من المبلغ صلى الله عليه وسلم قراءة لا نصاً (هذا أمر مهم لتجديد الفهم كما سنرى مستقبلاً)، ثم إمكانية مراجعة صحة الفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخيراً سلامة التطبيق.
- ولهذا فإن فهمهم كان فهماً مباشراً تلقائياً لا يحتاج إلى (أصول فقه).
- ثم نمضي في استعراض لتاريخ ثوابت الفهم التاريخي بدءاً من الإمام الشافعي وحتى الغزالي، حيث بدأ مع الأول لغة وانتهى مع الثاني منطقاً يونانياً أرسطياً اضطر ابن تيمية للردّ عليه في كتابه (الرد على المنطقيين).
- وهنا طرحنا ما أسميناه نظرية التعليق ونعني به وضع الفهم التاريخي كله (بين قوسين)، ولا نعني بذلك إلغاءً أو استغناء وإنما توقّفاً لمراجعةٍ تستند إلى أمرين:
- الأول: أن القضايا التي نواجهها الآن لم يواجهها المجتمع الإسلامي في تاريخه كله فمثلاً بعد الثورة العلمية والتقنية والمعلوماتية التي أحدثت تغيّرات جذرية في المجتمعات لا يمكن مقارنتها بالمجتمعات السابقة.
- الثاني: تطور العلوم اللغوية أو ما يسمّى اللسانية والعلوم التأويلية تطوراً لا يمكن إغفاله أبداً لأنه ينعكس حتى على علوم القرآن.
- وسيكون معيارنا في استدعاء أي من ثوابت الفهم التاريخي بمقدار ما تستجيب لهذين الأمرين، ولا يعني ذلك أن الموقف سيكون سلبياً بل ربما يكون خلاف ذلك وقد نجد في ثوابت الفهم التاريخي ما نحن بأشدّ الحاجة إليه كعلم المقاصد، وقد نجد في ثوابت الفهم التاريخي لعلوم اللغة ما هو مفيد في النظريات اللسانية والتأويلية المعاصرة.
هذا ما أردنا بيانه على نحو موجز لكي لا يُساء تفسير مصطلح ثوابت الفهم الجديد.
أما حديثنا حول إعادة تقسيم العلوم الإسلامية فيتطلب دراسة خاصة نكتفي الآن بالإشارة إلى مراجعة العلوم الفقهية على ضوء الملاحظات التالية:
- تمّ تقسيم علوم الفقه تاريخياً إلى (فقه عبادات وفقه معاملات)، والأول فلا مجال فيه لأي اجتهاد إلا بمقدار ما يعضد التكيّف مع الحياة المعاصرة.
- مما يدعو إلى العجب أن مباحث الفقه دارت حول أمرين اثنين (علاقة المسلم بأخيه المسلم، وعلاقة المسلم بغير المسلم) ولم تتطرق إلى علاقة المسلم بالسلطة السياسية الحاكمة إلا من زاوية الفتنة والخوف من الخروج على الحاكم خروجاً يؤدي إلى الهرج أو إلى طمع الأعداء الخارجيين. فنحن نواجه بسبب تغطية فكرنا السياسي لكل حوائج الحياة الواقعية إلى تأسيس (فقه السياسة) كي يشمل أيضاً (فقه الدولة).
- وفي الواقع فإن (فقه المعاملات) يشمل جميع أنواع العلاقات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي وبالتالي فبالإمكان أن نطلق عليه (علم الاجتماع الإسلامي) الذي يمثّل فلسفته الاجتماعية التي هي الشريعة الإسلامية التي حكمت هذا المجتمع وحفظته خلال التاريخ.
ب) الجانب الاجتماعي في استعادة الوعي:
إن إعادة تقسيم العلوم يقتضي أن نجدّد طرحنا للنظرية الاجتماعية من حيث علاقة الفرد بالبنية الاجتماعية وعلاقة البنية الاجتماعية بأفعال الأفراد. ويدور الخلاف اليوم في العلوم الاجتماعية الحديثة حول هذه العلاقة بين من يقدم فعل الأفراد ومن يقدم البنية الاجتماعية، وبالتالي من يعتبر أفعال الأفراد هي التي تحكم تكوين المجتمع وبين من يعتبر أن الأفراد مجرد منتج اجتماعي. وشريعتنا الغرّاء لا تقبل هذا التقابل بل هي تعتبر الفرد من المجتمع والمجتمع من الأفراد (الفرد للمجتمع والمجتمع للفرد) وهذا معنى (البنيان المرصوص)، وبالتالي فإن نظريتنا الاجتماعية واضحة الأساس وإنما بقي علينا أن نصوغ التشخيص المعبّر عن هذا الأساس. ونحن نقترح مصطلحين حَكَما المجتمع الإسلامي خلال التاريخ:
- الأول: أنه (مجتمع تنوّع اجتماعي) ما من مجتمع في التاريخ تتضح فيه هذه الخاصية كما في المجتمع الإسلامي، لقد ضمّ مختلف الأعراق والأديان بل وأحياناً اللغات واللهجات، ضمن فلسفة (لتعارفوا)، غير أنّ هذا التنوع تحكمه وحدة الثقافة التي جعلت الاختلاف سبباً للتعارف لا سبباً للخلاف، تتجلى هذه الثقافة بأن مبدأ السيادة فيها هي للّغة والشرع اللذين أسسا لهذا التنوع الاجتماعي فهو لا يعني التعدد غير المعياري للثقافات، بل تنوّع ضمن وحدة ثقافية مشتركة في أساسها الفلسفي. وهذه ملاحظة مهمة لكي لا نخلط بين الثقافة في مفهومها الشائع كعادات وتقاليد وبين الثقافة كوجهة دينية.
- أما الثاني: فهو (مجتمع توازن مجتمعي) بين ثلاثة قوى سجالية داخل المجتمع، وهي السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية. ويخضع ذلك لمبدأ (سيادة الشرع) أي القيم العليا التي تحكم المجتمع الإسلامي، وهي الحرية والعدل والشورى والإجماع العام، ومبدأ (سيادة العربية) التي عرّبت الثقافة المشتركة بين الجميع. ولا نقصد هنا السيادة الإثنية القومية للعربية، فنحن نتكلم عن فلسفة اللغة وليس عن التمايز القبَلي أو تفضيل العادات العربية… القصد هنا أن لغة القرآن – التي أعادت صياغة اللغة العربية – تحوي خصائص لغوية حاضنة لأصالة الإسلام. أما التنوع الثقافي واللغوي فقد سبق أن أكدنا أنه من الخصائص الأساسية للاجتماع المسلم.
إذاً سيؤول إلى علم الاجتماع الإسلامي إلى ضمّ ثلاثة علوم اجتماعية أساسية: علم الاجتماع القانوني وعلم الاجتماع الاقتصادي وعلم الاجتماع السياسي، وتفاعل هذه الثلاثة مجتمعة تمكّننا من استدراك قصور فقهنا السياسي.
ج) الجانب التعليمي في استعادة الوعي:
ويمكن أن يتفرع عن علم الاجتماع الإسلامي فروع أخرى يمكن أن ندعو أحدها (علم الاجتماع التربوي) الذي يؤسس لفلسفة التربية والتعليم التي لا بدّ أن تجمع بين القيم المعرفية والأخلاقية والجمالية ومن هنا نقدم ملاحظتين:
- إعادة النظر في تدريس الفلسفة وذلك لسوء فهمنا لها، إذ نختزلها في مذاهب وأشخاص ومناظرات عدائية وادعاءات بفرق ناجية… المقصود هنا الفلسفة كبناء مفاهيمي وتاريخ أفكار، فنحن بكوننا مسلمين لا بدّ لنا عند بناء جهازنا الثقافي من بناء مفاهيمي، وهل يمكن قيامه بغير ذلك؟ ولا بد لنا من مراجعة تاريخ الأفكار في ثقافتنا التراثية والمعاصرة. ومن هنا يجب بناء عقول أطفالنا مفاهيمياً (علاقة اللغة والمنطق والرياضيات) وعلى الأخص رياضياً وبذلك نمكّنهم مستقبلاً من مقارنة مفاهيمنا بمفاهيم الثقافات الأخرى واكتشاف تميزها، ولن يكون ذلك إلا بتحول نظام التعليم إلى تعلُّم، أي من التلقين ومطلقاته إلى التوليد ومعارفه.
- إعادة النظر في تدريس مادة الفنون وإعطاء الفن الإسلامي مكانه اللائق به والذي يعتبر هو الفن الحقيقي بالمقارنة بفنون الشعوب الأخرى. إن مبدأ (التجريد) الذي ينتهي إلى التوحيد هو الذي حكم تاريخ هذا الفن الذي أغفلناه بسبب موقفنا السلبي من الفن أصلاً تحت تأثير طغيان الثقافة الغربية التي تعتبر (المحاكاة) أصلاً لها والتي اكتشف أصحابها أخيراً خطأها الفادح في فهم الفن فعادت تدعو إلى التجريد. هذا جانب يتصل بروح الفن، أما من حيث التقنيات فإن علينا أن نعطي أصحاب الحرف والصنائع الذين تجرّدوا خلال تاريخنا لخدمة هذا الفن الإسلامي بجميع مظاهره وبجميع تجلياته سواء في الهندسة المعمارية، أم بجميع تناول مواد الفنان سواء كان معدناً أم زجاجاً أم خشباً أم نسيجاً.
- إضافة إلى ذلك فإنّ الخط العربي الذي هو أساس وحدة هذه الفنون جميعها وما خلّفه تراثنا في تاريخ الخط معجزة فنية تشهد عليها الأحرف العربية التي حينما نظرنا من حولنا نجدها متجلية في كل الإبداع الفني، والخلاصة أن الفن الإسلامي هو الذي يعلمنا اقتران الجلال بالجمال. لقد كانت مساجدنا محاريب للفن الإسلامي توحد بينهما.
د) الجانب السياسي في استعادة الوعي:
كان ما سبق عرضاً بإيجاز للجانب الثقافي من استعادة وعينا التاريخي. أما الجانب السياسي فيتمثل في ثلاثة أمور:
- الأول فهم الاستراتيجية السياسية للغرب تجاه الإسلام والتي تقوم للأسف على عداء شديد يتجلّى في أمرين خطيرين:
- الإصرار على عدم الاعتراف بالإسلام كدينٍ مستقلٍ خشية أن يحتوي الديانتين فتصبحا جزءاً من تاريخه، مع أن الأمر لا يعدو أن يكون موقفاً نقدياً من المصادر يخضع لعلم النقد التاريخي الذي هو وحده يثبت صحتها من مصادرها وصحة ما فيها، ما نسميه الإقصاء الديني.
- اعتبار أرض الفتوحات الإسلامية في بلاد الشام وشمال أفريقية – وهي ما يشكّل الآن قلب الوطن العربي، وتشكل بلاد الشام قلب هذا الوطن وتشكل فلسطين والقدس قلب بلاد الشام – اعتبار كل ذلك (أرضاً محتلّة)، إذ هي بزعمهم أراضي الامبراطورية الرومانية الشرقية والغربية ولا بدّ من استردادها من (الاحتلال) العربي وخاصة بلاد الشام وعلى الأخص فلسطين والقدس.
هذان الأمران راسخان في الذاكرة التاريخية للغرب وفي استراتيجيات سياساته البعيدة المدى، وقد جرّب الغرب انتزاع بلاد الشام من أيدي المسلمين في الحروب الصليبية التي امتدت لمائتي عام، وهو يكرر التجربة الآن على أيدي الحركة الصهيونية بإنشاء ودعم إسرائيل دعماً غير مشروط كقناع يخفي هذه الرؤية، وهو ينكر في ذلك حقيقتين أساسيتين:
-
- الأولى: أن هذه البلاد لم تكن أرضاً رومانية لا أرثوذكسية ولا كاثوليكية من قبل فقد جاءتا مع الاحتلال، وإنما أرض الاحتلال الروماني وقد جاء الإسلام تحريراً لها من الاستعمار الروماني كما حرّر غيرها.
- الثانية: أنه تناسى أربعة عشر قرناً من الوجود الإسلامي في هذه البلاد ديناً ولغةً وتاريخاً وثقافة، وكأن التاريخ قد توقّف في ذاكرتهم عند بداية الفتح الإسلامي وتحجّرت ذاكرتهم التاريخية على ذلك، فبعد العدوان الصليبي الأول جاء العدوان الثاني الاستعماري الذي كانت قمّته اغتصاب فلسطين والقدس على أيديهم تحت ستار الحركة الصهيونية.
- الجانب الثاني لاستعادة الوعي على الصعيد السياسي يتلخص فيما أطلقت عليه مصطلح فقه الفتوحات. والذي أعنيه تحويل السرد التاريخي للفتوحات إلى واقع جغرافي يتمثّل في (رسم الخريطة الجيوستراتيجية للفتوحات) والتي هي في واقع الأمر خريطة جيوستراتيجية لدار الإسلام، بدءاً من الخريطة الأولى للفتح الإسلامي في العهد الأموي وحتى الآن. وهذا ما يعني تاريخ الجيوبولتيك الإسلامي.
- أما الجانب الثالث في إحياء وعينا السياسي فهو من خلال تأسيسٍ جديدٍ لعلم السياسة النظري نتجاوز فيه ما يسمى علم الخلافة التاريخي بتكوين وعي واضح وعميق لشرعية قيام السلطة وفق القيم العليا التي تحكمها وهي (الحرية والعدل والشورى والإجماع العام)، ولمشروعية ممارسة السلطة من خلال قواعد ثلاثة (شورى ملزمة، وبيعة اختيارية حرة، وطاعة مبصرة مشروطة. نستطيع أن نصوغ لها مصطلحات جديدة تعبر عنها تعبيراً تاماً وتتفق مع واقع المصطلح السياسي القائم الآن دون أن يعني ذلك استيراد بدائل جاهزة من المصطلح الغربي بل اجتهاداً حقيقياً متميزاً، فنحن مع الغرب اليوم في حرب مصطلحات لا يجوز لنا فيها أن نظل في الأسر المصطلحي الغربي.
وكما سنبيّن بشيء من التفصيل في الفصول القادمة، لا شك في أن البلاد العربية هي المحور الحقيقي للسياسة العالمية بشكل عام، وأن بلاد الشام هي (الهارتلاند/أرض القلب) لهذه السياسة، أي العقدة الجيوستراتيجية التي ينبغي السيطرة عليها كأساس للسيطرة العالمية على المساحات الشاسعة حولها. إن صراع الغرب المسيحي ثم الـمُعَلمن مع الشرق المسلم كما كان وكما هو عليه الآن يرتكز على السيطرة على العالم العربي وفي مقدمته بلاد الشام وعلى رأسها فلسطين والقدس. لقد سلبنا الغربُ المتشكّل من أوربة وروسية معاً وأمريكة أخيراً (موقعنا) و (موضعنا)، ويحاولون الآن سلب (هويتنا الحضارية). وهكذا صرنا على حافة فقدان الوعي التاريخي حيث لم يعد لنا أي فعل تاريخي (قبل الثورة العربية) وأصبحنا موضع فعل الآخرين، ولا نستطيع فهم الحوادث الجارية اليوم والنزوع إلى الهوية التاريخية الإسلامية إلا مقاومة لذلك الاختراق الغربي.
ونودّ أن نؤكد هنا أن أشكال الاستبداد التي تتهدّدنا لن يُقضى عليها إلا بترسيخ القيم الإسلامية لدى أطفالنا وهم في بداية المرحلة التربوية كقيم راسخة ومطلقة تشكّل جزءاً من الإيمان الإسلامي الذي لا يمكن لأي فقهٍ أو تأويلٍ أن يُغيّرها أو يبرّر غيرها أو حتى أن يعدّلها. وعلى مستوى الفهم السياسي ينبغي غرز فكرة الضمانات العليا المؤسِسة لشرعية السلطة، وهي الحرية والعدل والشورى والإجماع العام، تحرسها ضمانات ممارسة السلطة وهي الشورى الملزمة والبيعة الاختيارية الحرة والطاعة المبصرة المشروطة. وكل ذلك منسجم مع الكليات الخمس للدين (حفظ الحياة وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال وحفظ لغة القرآن) ويعتبر انعكاساً لها على المستوى السياسي. ولا بأس أن ترسخ هذه القواعد الأخيرة لمصطلحنا التراثي نفسه كي لا تلتبس مستقبلاً مع أي مصطلح سياسي نجتهد في صياغته للتعبير عنها بالإضافة إلى استمرارية تاريخية المصطلح.
وبهذا نكون قد انتهينا من طرح الأسئلة على تاريخنا ونبدأ الآن بطرح الأسئلة على تاريخ أوربة والغرب السياسي منه والثقافي.
القسم الثاني: استجواب الحضارة الغربية
هناك أسئلة أساسية واضحة ومباشرة نطرحها على تاريخ الغرب، تتعلّق بتراثه الثقافي الفلسفي، وتتعلق بمفهوم العلم. نبدأ بتراثه الفلسفي حيث يمثل أربعة انقطاعات ثقافية تاريخية لتواصل العقل الإنساني فقد أراد الغرب أن يستأثر وحده بالعقل الإنساني وأسئلته وكأنه لم يكن هناك تساؤلات للإنسان قبله. فهو يعتبر أن الفلسفة بدأت باليونان دون أي تأثير سابق وقد صر ح الفيلسوف هايدغر بذلك بشكل مفاجئ بقوله إن (الفلسفة هي يونانية)، ومن هنا جاء الحديث عن (المعجزة اليونانية).
- ونحن نسأل لماذا انقطع هذا التواصل للفكر الإنساني في نقطة تاريخية معينة ولماذا يجب أن يعتبر (اللوغس اليوناني) هو أساس كل تفكير فلسفي.
- ومن الأعجب أن هايدغر نفسه هو من قام بنقد هذا التاريخ من أفلاطون إلى عهده، مؤكداً أن الفلسفة الحقيقية هي في سؤال الوجود وأن فلسفته تتلخص باستدعاء هذا السؤال الذي نسيه الغرب. أليس في هذا نقد غير مباشر لتاريخ الفلسفة الغربية كلها؟
- وإذا كان سؤال الوجود هو محور الفلسفة والذي استدعاه هايدغر من دراسة فلاسفة ما قبل سقراط باعتبار أنهم أصحاب التأملات الوجودية ــ بخلاف ما حصل مع أفلاطون ــ لماذا إذاً لا يمكن اعتبار الحكمة المشرقية التي سبقت فلاسفة ما قبل سقراط تأملاتٍ وجودية خارج اللوغس اليوناني وأنها بالتالي جهد فلسفي؟
- ولماذا نستبعد أن تكون تلك التأملات قد أسهمت في نتاج فلاسفة ما قبل سقراط خاصة وأن الثقافة اليونانية قد تأثرت دون أدنى شك بثقافات البحر المتوسط الذي تنتمي إليه والذي منه الحكمة المشرقية في تراث السومريين والبابليين خاصة، وأن تراث الأول قد طرح أسئلة الوجود والمعرفة والمصير الإنساني، وأن التراث الثاني تحديداً قد اهتم بتأملات عالم السماء باحثاً عن تفسيرٍ لأصل الوجود، وهو أمر مشترك بينه وبين تأملات فلاسفة ما قبل سقراط.
- إن هذا لا يعني مطلقاً أننا ننكر أو نستهين بقيمة الفلسفة اليونانية التي قُمنا بترجمتها إلى لغتنا العربية وهضمناها في أعمالنا الفلسفية، بل وتجاوزنا تحكيم المنطق اليوناني في تراثنا الأصولي. ثم ألسنا نحن الذين أطلقنا على أرسطو لقب (المعلم الأول) تقديراً لمكانته في تاريخ الفكر الفلسفي؟
- أما الانقطاع الثاني المزعوم في الطرح الأوربي فهو ما بين الفكر اليوناني والفلسفة الحديثة واعتبار أن ما بين أفلاطون وديكارت لم يكن إلا (فراغات)، وقد أطلق الغربيون على هذا الفراغ مصطلح (العصور المظلمة). ولكن إذا نظرنا إلى هذه الفترة نجد أنها العصور الذهبية للفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية بلسانها العربي في شتّى نواحي المعرفة خاصة الفلسفة سواء في المشرق (ابن سينا) أم في الأندلس. فمن ناحية عملية تأريخ بحتة، كيف يمكن نسيان هذا؟
- ولا يمكن ملء هذا الفراغ إلا بالاعتراف بأثر الفلسفة الإسلامية العربية الأندلسية، وإسهام ابن رشد على الأخص، وأنها السبب في يقظة الفكر الأوربي وإخراجه من حالة الجمود التي كان عليها. فلا مراء أن أثر الفكر العربي الفلسفي والعلمي الإسلامي على الفكر الأوربي على مدى مائتي عام هو السبب الحقيقي في النهضة الأوربية في القرن الثاني عشر، ويقرّ بذلك اليوم بعض المؤرخين. فلماذا تجاهل هذه الفترة والتغطية عليها؟ ولماذا لا يوضع تاريخ مقارن للمفاهيم على ضوء ترجمة التراث الإسلامي؟ ولماذا لا توجه الدراسات الفلسفية نحو عقد مثل هذه المقارنة بدون استثناء علم الكلام الإسلامي؟
- ألسنا نحن الذين حفظنا هذا التراث ونقلناه للغرب الحديث عن طريق (الرشدية) و(السيناوية) وغيرها، والذي كان سبباً في نهضة الغرب الفلسفية فقد استمر تأثير شروح ابن رشد وفلسفة ابن سينا أكثر من قرنين كاملين.
- أما اختزال هذه الفترة بزعم أرنست رينان بأن (الفلسفة الإسلامية العربية لم تكن إلا الفلسفة اليونانية مكتوبة بحروف عربية) والذي يقابله القول (إن الفلسفة الأوربية الحديثة ليست في أصولها إلا الفلسفة الإسلامية العربية مكتوبة بحروف لاتينية) فتدحضه الإسهامات المتميزة للفلسفة الإسلامية التي انتهت إلى ما هو مخالف كل المخالفة للفلسفة اليونانية، من التوحيد والخلق إلى القدرة وتسخير الكون.
والخلاصة، نحن لا ننكر أو نتجاهل دور الفلسفة اليونانية في تاريخ الفكر الفلسفي، ولكننا ننكر استئثار الغرب بالعقل الإنساني وأسئلته وكأن الإنسان خارجه ليس له حقّ التفلسف. إن سبب الانقطاع هو أن الرومان لم يكن عندهم اهتمام وإسهام فلسفي، ولم ينقلوا الفلسفة اليونانية إلى الفكر الأوربي الحديث، ولو فعلوا ذلك لقلنا بوجود استمرارية داخل الفكر الأوربي، لكن المسلمون هم الذين فعلوا ذلك.
أولاً: نقد العلم الأوربي
عندما نتحدث عن مفهوم (العلم) لا بدّ أن نتحدث عن (القيم الموجّهة) له إذ ليس هناك علم دون قيم موجهة. هذه القيم نوعان:
- (قيم موضوعية) تتصل بتوجيه طرائق البحث العلمي وآلياته وفق نظرية معرفة علمية لأطروحة فلسفية يقوم عليها بناء المفاهيم.
- (قيم أخلاقية) تتصل بتوجيه أهداف البحث العلمي وموضوعات بحثه ومجالات استخدام نتائجه.
وهذا لا يعني انعدام العلاقة المتبادلة بين النوعين من القيم، إذ لا بدّ للقيم الموضوعية من مضمون أخلاقي يتمثل في (ضمير العالِم)، ولا بدّ للقيم الأخلاقية من رؤية موضوعية ترتّب عملية البحث العلمي. ونشير هنا إلى أننا نقصد بالعلم العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على سواء.
لا بدّ قبل الحديث عن العلم الإسلامي الحديث أن نتطرّق إلى وضع (العلم الأوربي الحديث) في حاله الراهن، بدءاً من نيوتن حتى ماكس بلانك (ثورة الكوانتم)، وأنيشتين (ثورة النظرية النسبة) وهايزنبرغ (ثورة اللايقين) في حقل العلوم الطبيعية؛ ومن ديكارت حتى هايدجر في حقل العلوم الإنسانية. وإذا كنا نحقّب هنا وفق تاريخ الفلسفة فلأن الفلسفة هي حاضنة مفاهيم العلم.
والتحقيب أعلاه هو أوربي للأسباب التالية:
- إن موطنه الأصلي الذي انطلق منه هو أوربة فهو (جغرافياً) علم أوربي.
- إن الإسهام العلمي الحديث منذ نشأته وفي معظم حقوله كان من علماء أوربيين وبلغات أوربية وبمؤسسات بحثية أوربية، ولم تأتِ للمشاركة فيه عناصر غير أوربية إلا في فترة متأخرة جداً فهو (تاريخياً) علمٌ أوربي.
- إن فلسفته المعرفية وقيمه الموجهة أوربية، سواء في تأسيسه أم تطوره، وسواء منها القيم الموضوعية المتصلة بطرائق البحث العلمي أم القيم الأخلاقية المتصلة بأهداف البحث العلمي أم مجالات استخدام نتائجه، فمنظوماته المعرفية والأخلاقية أوربية.
وشبيه بما نبهّنا إليه في شأن تاريخ الإسهام الفلسفي، هناك إشكال في عرض تاريخ العلوم. فيزعم بعض مؤرخي العلم من الغربيين أنه يمكن تقسيم العصور العلمية إلى عصرين رئيسين: الأول العصر الإغريقي ويمتد من سنة 600 قبل الميلاد إلى سنة 200 ميلادية، أما العصر الثاني فهو عصر النهضة الحديثة التي تبدأ من سنة 1450م والتي نعيش فيها وفي فيضها في الوقت الحاضر… على أن هؤلاء قد أغفلوا عصر ما قبل الإغريقي من مصريين وآشوريين وبابليين، كما أغفلوا العصر الإسلامي الزاهر الذي ازدان بأمثال ابن الهيثم وابن سينا والبيروني والرازي والغافقي والبغدادي وابن رشد والفارابي وجابر والجاحظ والبيروني وابن مسكويه والكندي وغيرهم، عدا عن أنهم دمجوا العصر السكندري بالعصر الإغريقي. وننبّه إلى أن الموقف العلمي اليوم قد تغير بعد تراكم الأبحاث والدراسات، وما ذكرناه هو عن الموقف المتحيّز قبل هذا التحوّل والذي تأسست حوله كثير من الممارسات العملية والصورة النمطية الثقافية، كما أنه أرسى سياساتٍ عدائية تجاه الإسلام كونه فكراً وتجاه المسلمين كونهم شعوباً لم يغيّرها النضوج العلمي الذي ما زال يختلط فيه الغث بالسمين.
وإننا نزعم أن هذا العلم الأوربي في ضوء وضعه الراهن قد بلغ نهايته ولا بدّ من ميلاد علمٍ جديد ينطلق من واقعه ويتجاوز أزمته. وإننا نستشرف أن هذا العلم المتجاوز سيكون علماً إسلامياً منطق لغته هو لغة القرآن. والسؤال عندئذ: ما هو الوضع الراهن لهذا العلم، ولماذا العلم الإسلامي الحديث بعربيّته القرآنية؟
نبدأ بالإجابة عن السؤال الأول: حيث تتناول الإجابة القيم الموضوعية الموجهة، ثم القيم الأخلاقية الموجهة للعلم الأوربي الحديث في وضعه الراهن.
1. القيم الموضوعية الموجهة للعلم الطبيعي
لا بدّ أن نسأل أولاً ما هو العلم الطبيعي؟ العلم الطبيعي هو دائرة محددة مقتطعة من حقل (المعرفة). والعلم يولّد المعرفة ولكنه ليس هو عالم المعرفة اللامحدود. ويتحرّك العلم من خلال أطروحة فلسفية ذات بناءٍ مفاهيمي، مثل مفهوم الزمان والمكان والمادة والطاقة والحركة والسرعة والكتلة والضوء إلخ… ويقوم العلم باختبار أطروحته في الواقع الخارجي والطبيعة من خلال التجربة وفق خطوات محددة هي (المنهج العلمي) لمعرفة مدى تطابق نتائج هذا الاختبار مع الواقع الخارجي، فإن حصل تطابقٌ فتلك هي (الموضوعية) فيما يسمى البحث العلمي. وبذلك تثبت صحة الأطروحة وصواب المنهج، فيستمر على ضوئهما البحث العلمي. فإن لم يحصل هذا التطابق أو حصل في مجال معين محدود، اضطرب البحث واقتصر على هذا المجال واضطرب بعده المنهج ومن ثمّ البناء المفاهيمي، وتطلّب الأمر إعادة النظر الفلسفي من أجل بناء نظامٍ مفاهيمي جديد وفق أطروحة فلسفية جديدة تجعلنا قادرين على استئناف الكشف العلمي المحقّق. ومن هُنا حاجة العلم إلى الفلسفة والفلسفة إلى إبداع مفاهيم جديدة.
لذلك من الصعب الحديث عن علم واحد ضروري مطلق بل عن علوم، كما لا يمكن الحديث عن منهج واحد بل عن مناهج، وهذا ما أثبته تاريخ العلم وعلى الأخص تاريخ العلم الأوربي الحديث. ومثلاً، اختلاف الأطروحة الفلسفية التي يقوم عليها البناء المفاهيمي هو الذي ينتج عنه الفرق بين الفيزياء الكلاسيكية (فيزياء نيوتن) والفيزياء الحديثة. أي إن الفيزياء الحديثة ليست بديلاً عن الفيزياء الكلاسيكية لأن المسألة مسألة المجال، فلكلٍ مساحة قدرة مختلفة ترجُح فيها طرائقه وفرضياته.
ونلخص الذي ذكرناه أعلاه في النقاط الأربع التالية:
- أساس العلم هو البحث أو الكشف العلمي
- أساس البحث أو الكشف العلمي هو المنهج
- أساس المنهج هو الأطروحة الفلسفية
- وراء كل أطروحة فلسفية رؤية ميتافيزيقية.
ولقد أراد نيوتن مؤسس الفيزياء الكلاسيكية أن يحرّر العلم من الفلسفة، فأعادته أزمة نظرية المعرفة العلمية المعاصرة إليها بحيث لم يعد بالإمكان الحديث عن العلم دون فلسفة العلم. وأراد العلم الأوربي الحديث الادعاء أنه هو وحده العلم، فأعاده تاريخ العلم إلى مكانه منه بحيث لم يعد بالإمكان الحديث عن فلسفة العلم دون تاريخ العلم أو أقل دون (الوعي لتاريخ العلم). ولقد بلغ التعبير عن هذه العلاقة مداه فيما صاغه إمري لاكاتوش وعبارته الفاصلة: “فلسفة العلم دون تاريخه خواء، وتاريخ العلم دون فلسفته عماء” على طريقة (كانت) في الصياغة.
إن نظرية المعرفة العلمية المعاصرة مازالت في وضع لا يسمح لها حتى الآن في أن تقدّم بديلاً متسقاً للنظرية السابقة. ويمكننا ملاحظة التطورات التالية في العلم الأوربي الحديث:
- انفصل العلم عن الفلسفة وخاصة الميتافيزيقا كنقطة بداية له (نيوتن).
- أنكر العلم الميتافيزيقا الوضعية المنطقية (حلقة فيينا).
- ليس في مقدور العلم تكذيب القضايا الميتافيزيقية (كارل بوبر).
- لا بدّ للعلم من تصوّرٍ ميتافيزيقي: كارل بوبر والرؤية الميتافيزيقية و توماس كون والنموذج الإرشادي.
ما الذي نعنيه بعبارة مختصرة؟ ما نعنيه هو أن العلم مجرد (استفسار) فحسب، وليس (تفسيراً نهائياً). ولذا يجري اعتماد مفهوم (القابلية للتكذيب) عند كارل بوبر، و(القطيعة المعرفية) لباشلار، و (النموذج الإرشادي) لـِتوماس كون، و(ميثولوجيا الأبحاث العلمية) لإمري لاكاتوش و أخيراً (ضد المنهج) لـِفيرابند. وخلاصة ذلك أن كل محاولة تفسير لمعطيات التجربة العلمية إنما هو مزيد من التساؤلات نحو استفسار جديد يعتبر بمثابة (فهم مسبق) للفهم السابق.
وإنّ ما نود أن نشير إليه هُنا من وجهة نظر إسلامية:
- إن مفهوم (الاستفسار) هذا يلتقي فيه ميتافيزيقيا العلم بميتافيزيقيا الإيمان وقد كان علماؤنا يعبرون عن ذلك بعبارة (والله أعلم).
- وبالتالي فالنقطة النهائية للعلم الأوربي الحديث حول نسبية المعرفة أدركها الوعي الإسلامي وشكلت نقطة البداية للعلم الإسلامي التراثي وشكّل الإيمان الإسلامي بخالق للطبيعة وفق تصور واضح وراء الرؤية الميتافيزيقية له والذي ظهرت آثاره أوضح ما يكون في علم الكوزمولوجيا.
- ما وصل إليه العلم الأوربي المعاصر هو ما بدأ به العلم الإسلامي التراثي، فإذا اعترفنا أن بدايات العلم الأوربي الحديث قامت على نهايات العلم الإسلامي التراثي وشكلت استمراراً وتطويراً عظيماً له، فإننا يمكن اعتبار ما يحدث الآن من مراجعات داخل الغرب أنه كان تصحيحاً للتصور القائل بأن العلم ضد الإيمان واعتبار هذه المقولة مشروطة تاريخياً بموقف الكنيسة من ميلاد العلم الأوربي وبالتالي اعتبارها اعتقاداً مضاداً كردة فعل لا بدّ من العودة إليها.
- يعتبر هذا التحول عودة إلى فكرة (وحدة المعرفة) التي قام عليها العلم الإسلامي التراثي وذلك بعدم الفصل بين (دائرة المعرفة) و(دائرة الإيمان) التي قام عليها العلم الأوربي الحديث إلى حدّ أن جعل العلم سلاحاً إيديولوجياً ضدّ الدين (وقد تبنّاها الفكر العربي الاستشراقي وما زال).
2. القيم الأخلاقية الموجهة للعلم الأوربي الحديث
أجبنا عن سؤال الوضع الراهن للعلم الأوربي الحديث من زاوية القيم الموضوعية الموجهة، ونأتي الآن إلى القيم الأخلاقية الموجهة، حيث نجد انقلاباً كاملاً لهذه القيم سواء فيما يتصل بأهداف البحث العلمي أم استخدام نتائجه، وهذا ينطبق على العلوم الطبيعية والإنسانية على حدٍ سواء. تجلّى غياب القيم الأخلاقية في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية في أمرين أساسيين: فكرة المركزية الأوربية وفكرة واحدية الثقافة الأوربية.
هاتان الفكرتان أخرجتا القيم الإنسانية من الشمولية وحصرتاها في (الدائرة الأوربية) بحيث غدا نظام القيم الغربي في نظر الأوربيين هو النظام الأوحد، وزاد الأمر سوءاً الاعتقاد بأن الخيّر من هذه القيم لا يصلح إلا لأوربة والأوربيين دون غيرهم ضمن عقلية (داخل القارة) و(خارج القارة). ومن هذه النقطة بدأ انقلاب القيم التي نشأت عنه مزاعم، والثنائيات الاقصائية: الجغرافي (غرب وشرق)، والتاريخي (متحضّر وبدائي)، والعرقي (الجنس الآري والجنس السامي) والديني (المسيحي والكافر)، والعقلي (العقل الآري والعقل السامي) بل واللوني (الأبيض والأسود)، والذي تسبّب عملياً أو على الأقل برّر إبادة شعوب بأسرها وتدمير حضارات بأكملها واستعباد شعوب وأعراق باسم رسالة الرجل الأبيض. إن الاستعمار المتمثّل بالجندي والمبشّر والتاجر الذي نهب ثروات شعوب الأرض حوّل العالم إلى ما نحن فيه الآن من (مجتمع الرفاهية) في المجتمعات الأوربية و(مجتمع البطالة والفقر) في مجتمعات البلاد المستعمرة سابقاً.
أما واحدية الثقافة الأوربية فتتجلى في مسلماتها وأن العقل يوناني والقانون روماني والدين المركّب اليهودي/المسيحي وأخيراً الحداثة الغربية هو الذي يمثّل الحضارة الحقيقية. وقد نال الإسلام وحضارته وشعوبه النصيب الأوفى من القهر السياسي والمعرفي المتمثل بالاستشراق، ونحن نزعم أن (المكوّن اليهودي) في الثقافة الأوربية الحديثة كان له الأثر الأكبر في القيم الموجهة للعلوم الإنسانية في حقل الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد، وحتى في الدراسات اللغوية الأدبية والنقد الأوربي، حتى الانهيار الكامل للقيم في تيار بعد الحداثة.
ا. حقل العلوم الطبيعية:
عندما انتقلت العلوم الإسلامية إلى الغرب لم تنتقل معها القيم الأخلاقية الموجهة للعلم الإسلامي ولم ينتقل معها التصور الإسلامي للطبيعة، وإنما اكتُفي بنقل النتائج، أو كما نقول اليوم بالعلم دون فلسفة العلم وذلك بسبب الرغبة في استبعاد دائرة الثقافة الإسلامية من جهة وموقف العداء للدين أصلاً (الكنيسة) من جهة أخرى. وأدى هذا الانفصال إلى فكرتين: (السيطرة على الطبيعة) و(حرية البحث العلمي المطلقة)، أي دون أية قيود أخلاقية.
وكان مفهوم الطبيعة حسب التصور الإسلامي متضمناً في مفهوم (التسخير)، مما يعني التأمل في خلق الكون وسنته وتذوق جماله والانتفاع بخيراته. ولم يستعمل القرآن الكريم مصطلح الطبيعة بل السماوات والأرض وما فيهن، وكلتاهما والإنسان من أصل واحد هو الفطرة، فمن فطرهما هو الذي فطر الإنسان وفي هذه الفطرة (توازن دقيق بين مكوناتها) سواء فطرة الإنسان أم فطرة الطبيعة، وأي تغيير في أحدهما تغيير في الآخر، وبالتالي لا بدّ من الحفاظ على هذا التوازن بين الإنسان والطبيعة وفي داخل كل منهما. هذا التصور الميتافيزيقي الذي مصدره الإيمان الإسلامي هو (المدخل) أو بالمصطلح العلمي اليوم هو (الفهم المسبق) الضروري للبحث العلمي، وكان أثره واضحاً في العلوم الإسلامية (خاصة في علم الفلك). والمقابل، نتج عن الابتعاد عن هذا الفهم الشامل في التجربة الأوربية الإخلال بالتوازن في الطبيعة وفي الإنسان معاً.
العلوم الخاصة بالطبيعة تولت أمرها الصناعة الحديثة أو التكنولوجيا، فالموارد الطبيعية لا تشبعها كأنها خزان مواد أولية بدون نفاد، وتأثير العملية الصناعية على الطبيعة لا تهمها فقد قام الاستعمار بدور المنفّذ لنهب الثروات الطبيعية والبشرية من قارات بأكملها لإشباعها على نحوٍ مأساوي. وقد أدّى ذلك إلى خلل آخر داخل الإنسان وداخل المجتمعات الإنسانية:
- لقد أصبح الإنسان عبداً للتكنولوجيا بعد أن كان سيداً لها وأصبح البحث العلمي خادماً لها بعد أن كانت خادمةً له.
- غدا الإنسان (مغترباً) والعقل (أداتيّاً).
- وغدا التواصل الإنساني (غائباً). فالعلم ولد صناعياً والطبيعة للاستعمال الصناعي.
وانعكس هذا على المجتمعات الإنسانية بأسرها فانقسمت إلى (مجتمع الرفاهية) و(مجتمع الفقر والبطالة)، أو كما يقولون اليوم مجتمع الشمال ومجتمع الجنوب. على أن أخطر ما وصل إليه البحث العلمي المعاصر هو تحوّل مفهوم البحث العلمي نفسه من (بحث علمي أساس) أي أكاديمي نظري إلى (بحث علمي تطبيقي) هو تطبيق للأكاديمي. تحوّل إلى بحث علمي تكنولوجي هو (العلم الصناعي) حيث التكنولوجيا تطلب والعلم يلبّي، وهكذا أصبح العلم المعاصر علماً (مصمّماً) وفق المصالح السياسية والاقتصادية. وأصحاب المصالح هم الدول والشركات الصناعية الكبرى التابعة لها حيث يشتّد الصراع السياسي والتنافس الاقتصادي تحت ستار العولمة.
في ضوء ذلك يمكن مثلاً الحديث عن تردّي القيم الأخلاقية في حقول العلوم النووية (الصناعات العسكرية) والبيولوجية (الهندسة الوراثية) والطبية (الأبحاث الإكلينكية) والنفسية (تكنولوجيا التعذيب الحديث). وهنا حيث تستباح حقوق البشر من السجناء والمرضى والمعاقين والفقراء والنساء والأطفال وكذلك الحيوان المسكين والانتهاك للقيم الإنسانية بإجراء التجارب نفسها.
ب. حقل العلوم الاجتماعية:
اعتقد الأوربيون أن فروع العلم لها طبيعة واحدة، وبالتالي فإن المنهج يجب أن يكون واحداً وأن هذا المنهج هو منهج البحث في العلوم الطبيعية الفيزيائية، وعلى منهج البحث في العلوم الاجتماعية أن ينحو منحاه. ونذكر في ما يلي نبذة عن تطور الفهم المنهجي الغربي في العلوم الاجتماعية والإنسانية:
- منذ أوغست كونت وحتى ديلتاي والمحاولة قائمة في هذا الاتجاه ولكن دون جدوى، إلى أن جاء التحوّل الحاسم على يد علم التأويل بدءاً من شلابرماخر، ثم التحول الأساسي على يد هايدغر، وأخيراً التحول الحاسم على يد غادامر حيث أرسيت قواعد الفهم للعلوم الاجتماعية متجاوزة تلك المحاولات القديمة التي لم تثمر شيئاً. لقد فشلت تلك المحاولات لأنها أهملت زمانية الإنسان وتاريخيته مقابل الطبيعة التي لا زمانية لها ولا تاريخية، وبالتالي كان لا بدّ من العودة إلى الذات الإنسانية.
- إن هذه الجهود التي بُذلت حول المنهج وتوحيده إلى درجة يمكن تسميتها بفتنة المناهج التي كاد يطغى فيها منهج الوصول إلى الحقيقة على الحقيقة نفسها، وهذا ما أحبّ (غادامر) التلميح إليه في كتابه الأول تحت عنوان (الحقيقة والمنهج) والذي اختاره بعد تأمل.
- واستقرت الأمور الآن على أن لكل مشكلة منهجها، وأن لكل عصر أو أكثر نطاقه الخاص به للمعرفة. وعليه يجب أن تتم الإجابة عن كل سؤال، فقط ضمن السياق الثقافي والاجتماعي الخاص به، إذ لا يمكن العثور على إجابات ذات صفة أبدية (وهذا مغزى احتجاج ميشيل فوكو وجاك لاكان).
- إن هذه الحقيقة التي توصّل إليها العلم الأوربي أخذ بها العلم الإسلامي التراثي منذ البداية، إذ اعتبر أن لكل مشكلة منهجها، فهي حسب تعبير التهانوني (كيفية عمل) لا أكثر من ذلك وأن هذا يساعد على معالجة المشكلة. ولذلك قال العلم الإسلامي التراثي (بتعدد المناهج) وتجاوز ذلك إلى (تداخل المناهج) إلى درجة يمكن أن تنتقل به كيفية العمل من حقل معرفي إلى حقل آخر. وتجاوز ذلك أيضاً إلى القول إنه إذا خلا ذهن الباحث من تصور مسبق لكيفية العمل أضاع فرصة أن تنجلي له جوانب المشكلة، فالتصور المسبق هنا هو بمثابة فهمٍ مسبق يُعين على اختباره، فإذا ثبتت جدواه فهي لخير الباحث وإذا ثبت بطلانه طرح جانباً. وهذا ما عبّر عنه الحسن بن الهيثم في نصّه الرائع عن ممارسة التجربة. وهذا سر الثقافة الموسوعية التي اتّصف بها علماؤنا القدامى حيث جمعوا بين العلوم الطبيعية والعلوم الدينية أمثال (الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، وغيرهما الكثير).
ثانياً: الحاجة إلى ميلاد علمٍ جديد
بناء على ما سبق لا بدّ من ميلاد علم جديد يُخلّص العلم الأوربي الحديث من الأمور التالية:
- من الاعتقاد بمنهج واحد ومعرفة واحدة وثقافة واحدة.
- كسر حاجز التخصّص الضيّق واستعادة النظرة الشاملة بتوحيد كثير من حقول التعليم بدمجها مع بعضها بعضاً (تكامل حقول العلم مع بعضها بعضاً).
- تحرير العلم من أسر التكنولوجيا.
- أن توضع حدود أخلاقية على مجالات البحث العلمي وعلى استخدام نتائجه بحيث يكون (علماً نافعاً) للإنسانية لا مدمّراً لها من خلال ميثاق أخلاقي واحد يلتزم به العلماء، كذلك اعتبار الدين عدوّاً للعلم.
وأخيراً لا بدّ من أن نختم هذه الصفحات الموجزة بالملاحظة التالية التي تضع ملاحظاتنا النقدية في إطارها الصحيح، إذ من ذا الذي يستطيع أن ينكر ما قدّمه العلم الأوربي الحديث من خدمات على جميع الصُّعد، ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر ما فتح لنا البحث العلمي من آفاق لا تُحدّ لفهم الطبيعة والإنسان والمجتمع، ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر ما أسهم به هذا العلم في جعل حياتنا سهلة وميسّرة.
وإذا قلنا بضرورة ميلاد علمٍ جديدٍ يستدرك أخطاء ما وقع به العلم الأوربي الحديث فإنّ علينا نحن المسلمين أن نُسهم في ذلك إسهاماً حقيقياً وعلينا استدراك ما فرّطنا فيه وذلك بالجدّية في اعتبار العلم والبحث العلمي. كما أننا ينبغي أن نعترف بأن كثيراً من أوجه النقد أعلاه إنما مصدره المادة العلمية التي وفّرها لنا هذا العلم من جهته والنقد الذي قام به مفكّروه لمساره.