سياسات ميتافيزيقية
أَلِفَ الناس أديانهم، وتماهوا معها، والكل يرى دينه الصحيح ويعتد به ويزعم أن غيره باطل وظلال؛ فالحقيقة تبدو وكأنها قصرية لا تقبل المشاع الجماعي أو الاشتراك البيني. وفي المقابل هناك مسلمة لم تُفحص ولكن يُبنى عليها الكثير من المواقف الحدية، وتتمثل في التسليم بأن هذا التعدد في الأديان علّة النزاع والصدام بين الناس، فهو نزاعٌ على الحقيقة أبدي!
يصعب فحص العلاقة السببية بين التصور العقدي في الذهن وطبيعة النزاعات الدينية بين الأديان في العمل من جهة الفاعل الرئيس ومسؤوليته الأساسية لتعذر فصل الادعاء عن الحقيقي في تقدير العامل الرئيس للعلة، وإن كان العديد من الباحثين يقفز من النتيجة إلى السبب الذي هو سبب نفسي محدد مسبقاً في نظره دون قدرة على إثبات طردية وثبات هذا العامل مع نتيجته ليصح التعميم قانونياً.
التسليم بالملاحظة السابقة قاد في رأيي إلى محاولات متعددة لقطع دابر النزاع بنزع مسبباته، فكانت هناك اتجاهات تحارب الدين ككل حتى تضمن وحدة المرجع الذي يتسالم الجميع في ظله. والمفارقة أن من تبنى هذه الطريقة كالدولة العلمانية الصلبة أوجدت حروباً وكوارث تبدو الحروب الدينية معها مجرد شغب طفولي. وهناك تيار يرى استحالة نزع الدين من الإنسان، فسعى إلى ضبط الأديان في إطار جامع، كانت بدايته محاولة إيجاد المشتركات بينها، ليتطور الأمر إلى أن الإطار هو قاعدة الشرعية الوحيدة لتقرير ما يجب وما لا يجب، لينتهي إلى دين يُلغي الأديان نفسها، وهذا ما سأبينه لاحقاً .
هنا برزت مسألة التعددية الدينية من رحم التساؤل عن الدين الحق في سياقات هيمنة العلم وتهديده لمسلمات المسيحية بالذات، ولكن أيضاً من وحي خبرة النزاع والصدام الناجم ظناً عن التعدد تاريخياً والذي يجعل النفور من الدين واقعاً لا مفر منه لفداحة ثمنه المعيشي وهذا سياق تاريخي خاص .
برزت أسماء عدة أشهرها في هذا المجال اللاهوتي والفيلسوف جون هيك، ومن أدبياته وتأثيره تكلم عبد الكريم سروش في إيران بصيغة العمومية التي تناسب أدلته المستخرجة من مذهب العرفان وباستناداته الانتقائية من مذهب التعددية بما يُلائم تصوره الخاص دون أن يتكفل بشرح ونقد أُسس هذا المذهب العقدية أو على الأقل ذكر الخلاف معها.
فما التعددية؟ وما أصول مذهبها؟
إنها بدايةً لفظة تفيد الوصف وتتضمن بهذا صفة التسامح. فهي تستهدف تحقيق الاعتراف وتنفر من الإقصاء. الاعتراف بالآخر المغاير والذي به يتم تحديد الذات. فليس هناك تعريفٌ للذات لا يَستبطن تحديد للمخالف له أو نقيضه؛ فالتعددية مذهبٌ يقر الجميع على ما هم عليه من دين وإيمان باعتبار أن الكلَّ صحيح من وجهة نظره. وعندي أن هذا هو لُب التعددية الرئيس، سلب القصور البنيوي في الداخل بجعل القصور صفة ذاتية في بنية الجميع على حدٍ سواء أشبه ما تكون الحقيقة بالشمس في مركز المجموعة الشمسية، فالشمس في العلم الحديث هي المركز الذي يدور حوله الكواكب، والحقيقة كذلك، مركز الوجود كل الدروب المحيطة بها تُفضي إليها؛ فهي المصب انتهاءً. فالتعددية هي تعددية السبل والطرق المسلوكة لبلوغ المركز. أي أنها تموضع خارجي بالضرورة، والتصور لهذه الحقيقة ليس إلا حيازة نسبية في الداخل كل بقدره لما هو متموضع خارجياً. تصور الحقيقة ليس هو الحقيقة ذاتها كما هي في ذاتها، ونسبية التصور للحقيقة يجعل هذه النسبة قدراً مشتركاً في تفاوتها بين مستويات النسب الأخرى لكل فئة لاستحالة التطابق بين التصور والحقيقة، بين الدائرة والمركز. بالتالي فالتصورات والاعتقادات لا يصح أن تكون موضوع للصحة والخطأ من الوجهة المنطقية أو العقلية أو حتى العلمية لأن الكل مصيبٌ بنسبة معينة وفق قدرته الإدراكية. لكن التشبيه السابق متحيزٌ علمياً في استخدام “هيك” له، لأن هناك مسألة الوجهة والتي تتمثل فيزيائياً في القوة الجاذبة والقوة الطاردة مركزياً، فحتى يستقيم القياس يجب أن يتميز الجميع بخضوعه لقانون القوة الجاذبة مركزياً، حتى بكون التفاوت في المسافات مفارقة في درجة القرب وليس في نوعية الوجهة والمسار
يرى “هيك” بناءً على التشبيه السابق بأن التعددية هي نقلةٌ من مركزية الذات إلى مركزية الحقيقة، أي أن الحقيقة ليست معطى داخلياً بل تموضع خارجي مستقل؛ فالتعددية تقوم على مبدأ استحالة المطابقة بين الذات وهي هنا التصورات الفردية أو الخاصة بجماعة معينة، وبين الحقيقة. فليس الاعتقاد في مدرسة التعددية مسألة صدق وباطل. فالكل صادق، في تعبيره وفي سعيه، لأن الكل له نصيب من شعاع شمس الحقيقة، إلا الذين يصرون على مركزية الذات ويرفضون التعددية فهم على الباطل حتماً، لا لعلة فساد معتقداتهم بل لحصرهم الحقيقة في سبيل معلوم وطريق محدود وتصور ثابت مقصور على من أدركها من خلال ذلك السبيل بما يستحيل معه إشراك المخالف له فيها يستلزم من هذا أنَّ:
– لا حقيقة مطلقة كاملة لدى الجميع؛
– كلٌ له نصيب من الحقيقة في سعيه للظفر بها؛
– لا معيارية ثابتة للحقيقة، لأن هذا يقتضي حاكميتها على بقية الاعتقادات، وهذا يُنتج قضية الصدق والكذب المنطقية للقضايا العقدية بما يبطل أصل المذهب؛
التعدد مرده إلى طبيعة الإدراك البشري وليس إلى الحقيقة نفسها؛ فالتعددية لا ترى تعددية الحقائق بل واحديتها، والكثرة إنما مردها لنسبية وحدودية الإدراك البشري. فالاعتقادات لها تناسب مع الإدراك البشري، فكل تصور أو اعتقاد إنما هو إدراك بشري محدود ومتفاوت في محدوديته من فرد إلى آخر، فشرعية الاعتقاد ترتكز إلى معيارها الإدراكي في داخل كل فرد باعتبار أن كل تصور واعتقاد هو صحيح بالنسبة إلى معتنقه. ولهذا أرى أن مسألة الصواب والخطأ في مذهب التعددية متعلقٌ بمحض الوجود لا بصواب وجدارة المنطق. يصح على التعددية ما تراه صحيحاً في غيرها، فيمكن رؤيتها بأنها حقيقة تناسب إدراك القائلين بها وهذا لا يرضيهم البتة، لأنها لا تكتفي بتقرير حقائقها الذاتية بل تروم الحاكمية على بقية المذاهب الدينية بتأويل نظري لمسألة تعدد الأديان بالنسبة للحقيقة الواحدة، فهي قاطعت في رفضها لمن يرفضها باعتبار أنها الحق النهائي الذي يجدر به السيادة والقيادة.
هي [التعددية] تأويلٌ لتعدد الأديان وبالتالي فهي مذهبٌ ديني له تقليده الجامع في فهم الدين ولا تكتفي بمحاولة التوفيق التأويلي بين الأديان على صعيد الجوهر لإدراكها استحالة الجمع بينهم فيما تعتبره حقائق لأعراض دينية متغيرة ظرفياً يستحيل التوفيق بينها، بل تذهب أبعد من ذلك إلى صهر المشتركات بين الأديان في بوتقتها الخاتمة.
هذا ما يجعل الأديان كلها في نظر التعددية مجرد حقائق نسبية في حين أنها الحقيقة المطلقة مستقبلياً.
“جون هيك” يدرك تماماً بأن التعارضات القائمة هي تناقضات حقيقية حول الحقيقة نفسها، فاختار أن يراها جميعاً تجليات متنوعة للتجربة والخبرة مع (الحق (، فهي رغم تناقضها الحقيقي فيما بينها، تعتبر كل واحدة منها على حدة تجلي من تجليات الحق.
هو هنا اعتذاري لا أكثر. فما علة اعتباره لها جميعاً صحيحة؟
إن الحقيقة المتصورة في كل دين من الأديان هي (قسر طبيعي بالولادة)، أي أنها معطى طبيعي كمعطيات البنية والجبلة واللون والعرق؛ فهي خصوصية محتكرة للحقيقة بالصدفة المحض، تنغلق على مألوف ذاتها طاردة كل مخالف من دائرتها.
فالصدفة الطبيعية بالولادة في كل دين تُلغي حق بقية الصدف الطبيعية كذلك بالولادة من الدين المغاير. فالمسألة واقعياً تُحسم هنا بالسطوة والقوة في الفرض وليس بالمُحاجَّة والبرهان المنطقي والعقلي وقضية الاحتكار طبيعية من المنظور الداخلي النفسي، لأننا لو سلمنا أن الحق معطى بالطبيعة وصدفة الولادة وحدها فإن هذا يستلزم حصرية الصدفة تبعاً للتسليم في نطاق لا يتعدى لغيرها حتى ينتفي التساوي الذي يبطل مشاع الحقيقة، لكنها من الخارج قضية ظالمة، لانتفاء الإرادة وغياب العلم في تقرير الحق بناءً على حرية الاختيار.
كل هذا النمط الذي يتحدد بصدفة الولادة والتنشئة عليها لاحقاً يسميها “جون هيك” (باللاهوت البطلمي) نسبة إلى بطليموس قديماً في نظريته الباطلة علمياً حول مركزية الأرض والتي فندها كوبرنيقوس وجعل الشمس في المركز. فهو يهدف ويمني النفس أن تكون نظريته في التعددية الدينية تحاكي عمل ووظيفة كوبرنيقوس قديماً ولكن في مجال اللاهوت الديني، فالتعددية تحتاج لاهوتاً كوبرنيقياً يُبطل اللاهوت البطلمي لكل الأديان.
لا ننسى أنه قرر سابقاً بأنها جميعاً صحيحة، والآن قياساً إلى طموحه في إحداث ثورة في اللاهوت نفهم بأنها باطلة من وحي محاكاته للثورة العلمية الكوبرنيقية، ولهذا نسأله لِمَ لمْ تعتبر نظرية بطليموس تجلٍ من تجليات الحقيقة العلمية؟ إنها يقيناً باطلة علمياً ولا تُدرس إلا كتاريخ عابر، والدعوة إلى ثورة في اللاهوت البطلمي يعني أنه باطلٌ دينياً. فقضية المركز (الأرض/ الشمس) قديماً لم يكن فيها نصيب من الحقيقة مشترك بينهما، بل كانت حتى في استخدام “هيك” مسألة حق تجاه باطل ثبت بطلانه يقيناً. يريد “هيك” استبدال مركز بمركز آخر، فبدل أن يجعل الدين مركز الوجود الذي يدور حوله الخلق، يزحزح الدين إلى الهامش ليجعل الإله في المركز لتدور حوله كوكبة الأديان.
تبدو الثورة المراد لها أن تُحدث انقلاباً في اللاهوت الديني مجرد فورة طفولية، فليست الأديان في حاجة إلى جعلها تدور وتتمركز حول الحقيقة الإلهية لأنها لا تجعل الدين بديلاً عن الإله بل دليلاً إليه. ولكن للدقة سياقه التاريخي الذي نشأ وترعرع فيه يُعرف الدليل على أنه مؤسسة كنسية هي باب الإله الوحيد، ولهذا فتعميماته في مثل هذه الجوانب متعسفة وظالمة. ففي مواطن أخرى يصرح من (مركز الكنيسة إلى مركزية الله في فهم الأديان) والأصدق أن يقول إلى مركزية الإله في فهم المسيحية لأنه على الأقل إسلامياً سيجد صعوبة جمة في تحديد كينونة تماثل كينونة الكنيسة. قد تقوم الشبهة في المماثلة من زاوية سلطان الأحكام على الأفراد وضمائرهم في إنتاج سلوكياتهم، ولكن هذا مغاير تماماً لهيكلية وبنية الكنيسة كناطق ومقرر لمراد الله. ففي الأولى هي امتثال طوعي إرادي من منطلق الإيمان لبلوغ رضا الله، وعند عدم العلم تكون الفتيا من العالم لها دور الإرشاد والتبليغ ولا تملك سلطاناً قهرياً على الطالب إلا بما يحدده ورعه، فهي إمكانية من إمكانيات متعددة في الجواب، أما في الثانية فهي قهرٌ وتحكمٌ خارجي، رضا الإله هو رضا الكنيسة ذاتها.
هناك تعاريفٌ كثيرةٌ للدين. كلٌ من وجهة نظره وزاوية خبرته، فالتعريف النفسي يباين التعريف السوسيولوجي، والتعريف الثقافي يختلف عن التعريف الأنثروبولوجي وهكذا. وعند دراسة هذه التعاريف نلاحظ كما لاحظ “هيك” بحق أنها جميعاً تعاريفٌ مقررةٌ مسبقاً بشكل شرطي في كيفية استخدامها للمصطلحات في بناء التعريف، وهذا طبيعي لأن التأصيل مستخرج من الممارسة، وبالتالي فهو معمم تحديداً من منطلق مجاله وخبرته. والتعريف الذي يرتضيه “هيك” للدين يبدو لي وكأنه تعريف يجمع التعاريف كلها، لهذا ردّ على هذه التعاريف الجزئية بقوله بأن كلمة الدين ليس لها معنى صحيحاً واحداً، فهي نظامٌ عائلي له أفرع وتشعبات متعددة تشمل في دائرتها المتشابهات والمختلفات كمثل العائلة الأسرية بالضبط في ضمها الأخوة المتشابهين وكذلك المختلفين قيماً وسلوكاً وخلقاً وغيرها. وكذلك الدين هو رحم العائلة، وهذا التقليد في نهج التعريف هو جرياً على تقاليد فتنجشتاين في تحديده لماهية التعاريف. وما وجهه “هيك” من نقد للتعاريف السابقة يصح على تعريفه كذلك، فيمكن القول إن كيفية استخدامه للمفردات في تعريفه يعتمد على إطاره النظري المسبق في الذهن كنظرية يوضع التعريف على مقاسها العام التعاريف الأخرى فيها تعميم استقرائي أما تعريف “هيك” فهو تعريفٌ استنباطي. الشرط في التعاريف الجزئية شرط داخلي من وحي الخبرة وزاوية النظر وعند التعميم الاستقرائي يصبح الشرط دليل وعلامة التعميم وهذا غير متوفر في عموميات “هيك” خالية الوفاض من شرطها الواقعي، رغم حضوره في شكل نظري مسبق يتحكم في اختيار مفرداته.
من المنظور الثقافي يرى الدين أنه يمثل استجابة إنسانية للمطلق المتعالي الذي يستحيل وصفه أو الإحاطة به بواسطة اللغة البشرية، كما يستحيل إدراكه على ما هو عليه؛ فهو مفهومٌ يتجاوز المفاهيم الإنسانية، إنه مفهومٌ يتموضع في “ما بعد” المفاهيم البشرية التي تُنحت تحت تأثير التفاعل المباشر مع المقدس. فهو يذهب إلى أن الدين مجرد اجتهاد بشري لفهم الكون بما يُسهم في العيش فيه، ولأنه اجتهادٌ بشريٌ فهو مجرد تعبيرٌ عن تنوع وتعدد الملكات والإدراكات البشرية في الفرد والمجتمعات، قديماً وحديثاً. من حق العلم أن ينازع الدين مجاله في فهم الكون؛ فالدين إجابة على ما لا للعلم قدرة على بلوغه، وليس إجابة يمكن العقل أن يحصلها بذاته، فهو ليس نظرية علمية تفسر الكون. مدخل القوة في فرض منطقها يتوسل بدهية التفاوت في المدارك بين البشر، فيجعل الآني معيار الحسم. فالحضارة المتفوقة في الراهن هي الحضارة الغربية التي شهدت بزوغ نظريات تجعل التفوق يعود لأسباب بيولوجية وعرقية متقدمة على غيرها من الأمم، وفي فلسفة الدين هناك محاولة لجعل المسيحية تبدو من جناس العقل الغربي في إبداعه العلمي، متهمة الأديان الأخرى بأن تناسب بنيتها العقلية السطحية، وإذا كان هناك دينٌ فرّ من العقل فراره من المجنون فهو الدين المسيحي. لكن منطق القوة يقول إن دين القوي من المفترض أن يكسبه قوة في وعي الضعفاء وهذا غير قائم واقعياً، لانفكاك الحق والإيمان عن توسط القوة في الإقناع.
هناك محاولات جادة لإعادة رسم متون العقائد وفق منوال التطورات العلمية والإنجازات البشرية لتتخلص من البنية الأسطورية في خطابها التي كانت تلائم العقول يومها، وهذا فيه جانبٌ من الصحة لكون المتون وضع بشري وتعرف الجدال والنزاع العلمي حولها، لكنه يستخدم هناك لإعادة بناء الدين في أصوله وتصوراته الكلية وهذه قضية محسومة إيمانياً وليست محل خلاف عقائدي في الدين الإسلامي.
ليست قضية محدودية الإدراكات البشرية وتغيرها من فترة إلى أخرى، ولا تفاوت المجتمعات معرفياً وعلمياً في فهم الأديان ووعيها إلا مدخل يمهد لجعل الأديان كلها وجهات نظر، لا يصح فيها لرأي أن يلغي الرأي الآخر مطلقاً، ليتم بعد هذا تجاوزها إلى الإله المتعالي الحق الذي هو الحق في ذاته كاشفاً عنها بواسطة وسطاء آلهة الأديان المتعددة يتم فرض خصائص وصفات للإله المتعالي من وحي العقل بما يجعل الإلهة في الأديان مرحلة وعلامة على المحطة النهائية وبما به يتم شرعنة التعدد وجودياً للتمهيد لمرحلة الخاتمة في العولمة بفرض لاهوت العولمة الكوبرنيقي.
فالتعددية مذهبٌ دينيٌ وليست فقط مذهبٌ في تأويل وفهم الدين .لماذا تحتاج التعددية كمذهب إلى لاهوت يميزها؟، لأنها ترى أن صفات الله وأسماءه في اللاهوت البطلمي تلعب دوراً جوهرياً في الإقصائية الدينية المتحددة بصدف الولادة. تتم هندسة أسماء الله وصفاته في التعددية بطريقة محددة من منطلق فهمك للدين أولاً، ثم بما يكون معه الجميع مشمولاً دون إقصاء، فيتعالى إله التعددية الحق كما يسميه “هيك” عن بقية آلهة الأديان من جهة، ومن جهة أخرى فإن آلهة الأديان ليست إلا صورة من صور تجلي الحق، فهي وسيلة إليه. ونحن نسارع للقول بأن ما هو وسيلة إلى غاية، يستحيل أن يكون غاية في ذاته فهذه بدهية والنَّاس في عباداتها الإسلامية تمييز عن العبادات الوثنية بكونها تعتقد جزماً بأنها تتجه إلى الله تعالى ذاته دون توسط ما بينهما، فإسلامياً ليس بعد الله إله ولا معه إله ولا قبله إله، والإسلام اعتبر مفهوم الوثنيين في العبادة للإله على أن مقاربة لله، اعتبره شركاً بالله .فالله عين الحق ذاته وليس وسيلة أو صورة لتجليه فيه .والله في الإسلام صمدٌ أحد، فلا ابن متأله من الأب الإله، يتساوى معه ويكون وسيلة إليه هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس في الإسلام كنيسة واسطة الخلق إلى الله، فالواسطة إسلامياً هي الفرد ذاته وحيداً في أفعاله ومعتقداته .ترتكز النقطة السابقة على مسألة أن مفارقة الإله في ذاته للإله في تجلياته في خلقه، وهذه باطلة إسلامياً بهذه الصيغة وذاك المفهوم، لأنها قضية مسيحية خاصة لديه؛ فالإله في ذاته يباين ويفارق الإله الخالق والمخلص، ويبدو لي أن تفريقه هذا تمييز بناء على الفصل الوظيفي، ليعمم ذلك على بقية الأديان زاعماً بأن الله في ذاته المتعالي اللامتناهي متميز عن الله الذي أوحى القرآن لنبيه .وهذه تعددية آلهة يغلفها بألفاظ مجملة، ومفاهيم سائلة ، فهي تجل وصورة له، ويقر بصحتها ومع هذا فهو وسيلة إليه
هناك مفهوم مقارب لما يقوله وهو يستدل على فهمه بابن عربي، والقضية مختلفة تماماً بينهما، فالله في ذاته يتميز عن الله كما هو موصوف لنا من طرفه في تنزيله، لأن أداة المقاربة المفهومية تعتمد اللغة البشرية المحدودة وبالتالي هي مقاربة أقرب ما يمكن لغوياً وإدراكياً لما هو عليه وليست هي عين الوصف على ما هو عليه لأننا نثبت الصفة ولكن دون مشابهة مع خلقه. ونفي المشابهة يخلق الفصل والتمييز بينه ما هو عليه وما هو موصوف به بلغة صفات مشتركة في الاستعمال، ليس لبشر أن يصف الله، لقصور الإدراك وعجز اللغة عن البيان، ويبقى هذا قائماً مع الفهم أيضاً لما يصف به الله نفسه، إلا أن الشطط في تأويلها يمكن ضبطه علمياً لتقرير الصواب والخطأ فيه بناءً على نسق الخطاب ومحددات أصول الاعتقاد.
يستند “هيك” في هذا التمييز إلى تقليد كانط ورأى أن كانط كان سيرفض استخدام “هيك” له، فكانط يرفض أن يكون المتعالي موضوع للخبرة أو أن مفهومنا له نتيجة خبرتنا به، فهذا مستحيل لديه، لكنه إمكان ضروري بشرط كانط للعقل العملي الأخلاقي فقط. فوجود الله لدى كانط شرط الأخلاق ينجم عن توظيف التمييز بين الذات في ذاتها وبين تجلياتها أو توصيفها للناس، أن يكون الخطاب الديني ذو طبيعة أسطورية أو رمزية، أي أن الدلالات رمزية ولا تفيد حرفية المعنى وهذا يجعلنا لا نتيقن من صدقه بالعقل أو التجربة، فقط هو صادق في الجانب العملي .هذا النمط الأسطوري يصح في حالة قيادتنا إلى الحق الذي لا يتطلب عند كشفه خطاباً أسطورياً عندما تكون الآلهة بحاجة إلى خطاب ترميزي لمقاربة ذاتها للخلق ولا يحتاجه المتعالي عليها لذاته؟ هل لنقص فيها وكمال فيه؟ وإذا كانت هي صورة فقد احتاج إلى ما يقربه إلى خلقه فكيف لا يحتاجه في اللغة تالياً؟ وهكذا.
في مذهب التعددية، تتوحد الديانات في الألوهية الغائية وتتعدد في آلهة الوسائل، وهذا عندنا هذر لأن إدراكك وتوجهك للغاية بواسطة الوسيلة لا يجعلك تتعبد الوسيلة بديلاً مستقلاً عن الغاية، فهي الفصل غير قائم إلا بغياب الغاية عن التصور والهدف وحين يفترض الشخص أن هذه غاية العبادة فهناك مطابقة في الذهن بين الغاية وتجلياتها في الوعي نفسه لدى الفرد مع بقاء تميز كانط قائماً على المستوى النظري المجرد فيما يخص ذات الله .فتاريخياً تمثل الانحراف في انقلاب الوسيلة إلى ذات تستقل بذاتها أي أنها أصبحت غاية دون غاياتها الأولية. لكن جمع الوسيلة مع الغاية وضفرها باستقلال يوازي ذات الغاية فهذا جمعٌ قائم في تصور “هيك” وحده لا حقيقة له تاريخياً أو عقلياً في الإسلام.
من الضروري ذكر أن تمييز كانط لا يبطل صفات الإله كما يفعل “هيك”، فهو يجرد إلهه الحق المتعالي عن صوره في آلهة الأديان من الكثير من صفاته التي تُعتبر أنها علة الشقاق الديني .فمن وحي (لاهوت الأرض) يجب تقرير ما يناسبه من صفات في الإله، وطالما أنها تجليات له فكيف تكون علة الشر ويكون هو علة الخير المحض؟
طبعاً إله التعددية لا يُعبد، ولا يهدي عباده إلى الحق، فهو لا يرسل أنبياء ولا كتباً بل يكتفي بأديان الواسطة للوصول إليه والتي هي علة الكفر به لما تولده من حروب بينها، فهو المتعالي على الوصف وإن كان يفهم وهم يتحدثون في التعددية عنه بمفردات إنسانية مشتركة كذلك في الاستعمال البشري؛ كالحق والواحد … فيسارعون للقول بأنها تفيد فائدة صورية محضة لا. تعلق لها بالصفات الحسية التي يجب أن يتجرد منها. التسليم بأن كل الأديان في خطابها تعرف الطبيعة الميثولوجية أي التي لا تطابق الواقع حقيقة مسألة ركبت لتفيد رفع قضية الصحة والصواب المنطقية عن الخطاب الديني ليكون فيها خلاص لإشكاليات حاسمة في بعض الأديان.
محاولة التوفيق بين الأديان أرضياً تستلزم:
– القبول بتعددية الآلهة وهذا شرك؛
– رؤية التعدد من زاوية تعدد التنوع لا التناقض وهذا باطل، لحصول التناقض بين الحقائق الدينية؛
– تعددية في نطاق الأحادية وهذا يفيد التركيب الذي يبطل صفة الألوهية؛
– واحد فيهم جميعاً، متعدد الأسماء والصفات والصور حسب جهة التلقي ورغم التناقض فيغدو الاختلاف مجرد فروق لغوية ونحن نعلم أن الفروق تمس المفاهيم والوظائف وفلسفة الوجود كلياً.
هناك أبعاد عديدة وقضايا عديدة في مذهب التعددية رأيت اختصارها، وركزت على هذه الجوانب العقدية لأنها نادراً ما تُذكر تحت غطاء العمل على ردم الهوة والتباين .شرعياً التنوع في القدر حكمة إلهية للنفع والتكامل أما في الشرع فهو تمحيص وابتلاء، والقدر ليس حاكماً على الشرع أو مبطلاً له وشرح هذا يطول جداً بما لا يتسع له المجال هنا.
حين تذهب السياسة مذاهب ما يجب من التصورات والعقائد فهي لاهوتٌ أرضيٌ يُقرر إلهه الذي يجب أن يكون على صورة تصوره.