وقف المرأة في عالم الإسلام
اسم الكتاب: وقف المرأة في عالم الإسلام
الكاتب: محمد الأرناؤوط
الناشر: جداول (2014)
لعل من أبرز ما وصَّى به الفقهاء والعلماء في التراث الإسلامي هو مسألة الصدقات وأوجه صرفها في أعمال الخير والبر والنفع العام للمجتمع، وما يتعلق بتحقيق “المجتمع المتكافل”. وهي توصيات ارتبطت بتشريعات وتقسيمات فقهية لمواضع توزيع هذه الصدقات والاستفادة منها.
وقد أثبت المجتمع الإسلامي منذ نشأة الدولة في المدينة وحتى العصر العثماني قدرته على إنتاج مؤسسات للنفع العام والخدمات الاجتماعية في الطب والتعليم والسكن والغذاء والإغاثة، والتي قامت على مبدأ المبادرة من صدقات الأغنياء وأخذت شكل “الوقف” الذي كان أهم مورد من موارد الخدمات التي تمتلك إطاراً مؤسساتياً آنذاك.
ويعود الوقف بحسب ما يقول الفقهاء إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
ويذكر وجيه كوثراني في ورقته المعنونة بـ”المجتمع المدني والمجتمع الأهلي في حضارتين: الغربية والإسلامية” العديد من الأوجه التي يشتمل عليها الوقف؛ فهناك المساجد والأراضي والحوانيت ودور العلم والمدارس والمستشفيات والحبس على المقابر والأوقاف المخصصة للقروض ووقف البيوت الخاص للفقراء والساقيات والمطاعم الشعبية والآبار ووقف العقارات والأراضي الزراعية التي يصرف ريعها على المجاهدين، وذلك بالإضافة للأعمال الخيرية المخصصة للفقراء واليتامى والعجزة، ونفقات الزواج ودفع المهور لتزويج الشباب والشابات وغيرها من المنافع العامة.
ويقوم الوقف بشكل أساس على تبرعات الأغنياء، حيث يضع الغني أمواله ويحفظها ليتم استخدامها في نشاط خيري ما، وتنميتها بما يخدم هذا الوقف بمختلف أشكاله.
وفي كتاب “وقف المرأة في عالم الإسلام” للباحث محمد الأرناؤوط، يقدم تفصيلاً حول دور المرأة في المؤسسات الوقفية وتنميتها.
والمدخل الذي يبدأ فيه الكتاب مهم جداً في ما يخص الجدال الدائر حول دور المرأة بشكل عام ودورها في المجتمعات الإسلامية التاريخية بشكل خاص.
حيث يذكر الباحث أن من شروط الوقف الصحيح أن يكون الأصل مملوكاً، سواءً كان أرضاً أم بيتاً أم من الأموال، ووجود المِلك وحرية التصرف به يعبِّر عن من يملك الثروة والمكانة في المجتمع، وبالتالي فإن البحث في دور المرأة في الوقف يعبر عن مكانتها الاجتماعية آنذاك، “ذلك لأنه كلما امتلكت المرأة الثروة والمكانة في المجتمع زادت مشاركتها في الأوقاف التي أصبحت تخلِّدها كما تخلد الرجال ببناء الجوامع والمدارس والمنشآت المختلفة التي تقدم الخدمات المجانية للمحتاجين”.
كما يعتبر الوقف أحد تجليات المجال العام في المجتمعات الإسلامي، فهو أحد الفضاءات التي تساهم في تدبير الشأن العام وتنمية المجتمع، لذا فإن دور المرأة في الوقف يعبر عن دورها في المجال العام ككل.
وتسهم القراءة التي يقدمها الكتاب في تفكيك الصورة النمطية غير الصحيحة عن الطابع الذكوري الذي تتسم به مؤسسة الوقف في الإسلام، والمجال العام أيضاً.
ومن الجدير بالذكر أن “أحكام الوقف” التي تقعَّدت في كتب الفقه لم تميز بين الرجل والمرأة، بل كانت ترد فيها روايات عن مشاركة الصحابيات في “الصدقات الأولى”، وهو ما حفَّز المرأة المسلمة حيثما وجدت للإقبال والمساهمة في الوقف في الدول الإسلامية التي تشكلت في العالم الإسلامي.
كما اختلف شكل ودرجة إسهام المرأة في الوقف بين بيئة وأخرى أو دولة وأخرى لاعتبارات ثقافية وليس لاعتبارات دينية، كاختلاف دورها في الدولة العباسية عن الأندلس أو في الدولة العثمانية على سبيل المثال.
ويقدم الكتاب مجموعة من الدراسات والمقالات التي تبحث في دور المرأة عبر مجموعة من العصور في العالم الإسلامي، ابتداءً من الدولة العباسية التي برزت فيها مؤسسة الوقف بعد فترة الدولة الأموية التي لم تعمر طويلاً، وانتهاءً بالعصر العثماني الذي اتسع فيها الوقف، ومروراً بالدول الإسلامية المختلفة كالفاطمية والسلجوقية، بالإضافة لنماذج من دول البلقان والبوسنة والهرسك.
ويؤكد على أثر وقف المرأة في تطور المدينة والعمران من خلال استعراض عدة نماذج من النساء اللاتي ساهمن في الوقف، واللاتي كان معظمهن من نساء القصر من زوجات الخلفاء وأمهاتهم.
ولا يتسع ذكر كافة الشخصيات التي تحدث عنها الكتاب، فهو يقدم عرضاً تاريخياً شاملاً وموسعاً لكل فترة تاريخية، مثل الخيزران زوجة الخليفة المهدي التي اهتمت في أواخر حياتها بتخصيص جزء من ثروتها الكبيرة للخير العام، وزبيدة زوجة هارون الرشيد التي اشتهرت أكثر من الخيزران وكان لها الفضل في إيصال الماء العذب إلى مكة.
أو دور زوجات الخلفاء الفاطميين في بناء المنشآت الدينية والتعليمية والمدارس، والإسهام الكبير الذي قدمته أخت الأمير دقاق صفوة الملك زمرد خاتون، التي بَنًت مدرسة اُشتهرت باسمها “المدرسة الخاتونية” والتي وصفها ابن بيك الصفدي بأنها من أكبر مدارس دمشق وأجودها معلوماً في عصره، والأدوار المتعددة التي أدتها المرأة في العصر العثماني كذلك.
الكتاب مليء بالشخصيات والنماذج المتعددة لأدوار المرأة في الوقف الإسلامي، وسيكون من المفيد والممتع الإطلاع عليها بشكل أوسع.
*** *** ***
لا تنحصر أهمية مثل هذا الطرح في الرصد التاريخي الذي قدمه الباحث، بل في إسهامه في تطوير النقاش والجدال الدائر حول مكانة المرأة في الإسلام والمجتمع الإسلامي، فالبعض لا يتخيل حضور المرأة في المجتمعات الإسلامية القديمة، أو تنحصر رؤيته في بعض القراءات الضيقة لبعض النصوص التي تشير إلى غياب دور المرأة وتهميشها.
وهذا الدور الذي تحدث عنه الباحث لا نجده في وقف المرأة فقط، بل في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية، فمثلاً قد يندهش البعض من معرفة أن ابن تيمية قد تتلمذ ‑من ضمن من تتلمذ عليهم‑ على ثلاثة نساء عالمات ذكرهن الإمام الذهبي في ترجماته. كما تمتلء كتب المتصوفة بأسماء النساء العابدات اللاتي أسهمن في إثراء التجربة الروحية في الإسلام، وذلك بالإضافة لإشارة الباحث بأن حضور المرأة في المجتمع يختلف من مجتمع لآخر تبعاً للثقافة المحلية التي كانت تتضمن قدراً كبيراً من التعدد بين بيئة وأخرى بحكم اختلاف المشارب والأعراق.
وهناك ملاحظةٌ أخرى تتعلق بمنهجية الكتاب، فقد استندت مصادر الكتاب على كتب التاريخ والتراجم وكتابات المؤرخين، وهو أمر منطقي، ولكنه استند أيضاً على طريقة مميزة في البحث، وهي الرجوع إلى كتب الرحالة (مثل ابن الجبير وابن بطوطة) وكتب الأدب أيضاً (مثل كتابات الجاحظ)، فهذه تعد مصادر مهمة لمعايشة حياة المجتمعات الإسلامية، فهي تقدم رصداً لما يحيط بالكاتب من أمور وأحداث ومشاهد، كما تتضمن كتب الأدب وصفاً لبعض القصص والأحداث التي تعطي مؤشراً على طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية.
لذا، فمن أراد أن يتوسع في فهم المجتمعات الإسلامية ينبغي عليه أن يعود للمصادر التاريخية وكتب الأدب والرحلات، ففيها الكثير من التفاصيل المفيدة التي لا غنى عنها.