الحبّ فلسفة اجتماعية متروكة

333

على أن الحبّ من أكثر المواضيع المطروقة سماعاً من قبل الناس على اختلاف أعمارهم، إلا أننا قليلًا ما نسمع كلامًا مفيدًا أو واضحًا في قضية الحبّ، بل لعلّ أول ما قد نسمعه في خطاب الحبّ أن الحبّ تجربة إنسانية ذاتية، وبالتالي قد نستغني بذلك عن سماع أي ملاحظات أخرى أو تجارب مفيدة بهذا الخصوص، ونغفل عن أن الحبّ له بنية ومتطلبات عامة مشتركة بين كل الناس.

الحبّ فنّ برأي إريك فروم وقد خصص له كتابًا كاملًا باسم “فنّ الحب”، وهذا ما قد يخرج الحبّ من أن يكون صدفة أو حظًا فقط، إذن هو فنٌ يقتضي معرفة وبذل جهد، وقراءة أيضًا.

كثيرًا ما يبدأ الحبّ في حياتنا كمشروع يحمل آمالًا كبيرة وينتهي بفشلٍ كبير، وأزمات عاطفية حادة قد تنتهي بمخاطر دينية أو نفسية، ونحن لا ندرس لماذا يحدث هذا الفشل بقدر ما ندرس الحكم الشرعي للحبّ! وكلاهما نحتاج إليه.

معظم الناس يسأل كيف أكون محبوبًا؟ ومَن أحب؟ وهنا تبرز معايير تجارية جذابة لاختيار المحبوب كالشكل والمهنة والغنى والفقر، فيغدو الأمر أشبه ما يكون بمعايير السوق، لكن قليل من الناس -برأي فروم- يسأل نفسه كيف أحبّ؟

بداية إن الدافع تجاه الحبّ كما يقول فلاسفة الحبّ، هو قهر الانفصال “العزلة” التي حدثت للإنسان حال وجوده في هذا العالم سواء كانت هذه العزلة نتيجة التطور كما يؤمن بعض الناس أو بأي شكل آخر من أشكال الخلق، فالإنسان يخاف من العالم الموجود، ويخاف من الموت ويخاف من المجهول ويخاف من المرض، كل هذا يدفعه ليتشارك مع إنسان آخر روحه وذاته، والفشل في قهر الانفصال يؤدي للجنون أو للعزلة الكاملة.

إن جوهر الحبّ قائم على النشاط وليس على الشعور السلبي، والناس حين تصف عاشقًا تقول إنه قد وقع في الحبّ، لكنّ الحبّ في جوهره وقوف وليس وقوع.

ولعل أكثر ما يميّز هذا الوقوف في الحبّ مفهوم العطاء المتبادل، فالعطاء ليس تخليًا عن شيء مقابل شيء، وليس تضحية فقط، بل هو اتقاد بالحبّ، أي اتقاد بالحياة، فلا يعني أن أضحي بحياتي وأخسرها في مقابل المحبوب، بل أن أعطي الشيء الحيّ فيها، أن أعطي من فرحي وحزني وأثمن ما أملك ومن أي شيء يدل على حياتي ليعزز حياة الآخر.

وهنا يصبح  مفهوم الحبّ هو الاهتمام الفعال بحياة ونموّ الشخص الذي أحبه، ويصبح أهم عنصر من عناصر الحبّ هو الرعاية والمسؤولية والاحترام.

 وإذا تحدثنا بتوسع أكبر عن معاني هذا العطاء وأجزاءه فنجد أن المسؤولية جزءٌ أساسي في العطاء وهي لا تعني الهيمنة أبدًا، فأنا أريد من المحبوب أن يجد ذاته ويطورها لا على طريقتي أو لخدمتي بل على ما يناسب شخصه، فهناك جانبٌ مهم يجب تركه للمحبوب وهو الاستقلالية أو مساحة اختياره الخاصة سواء في زواجه أو اختيار تخصصه الجامعي أو في سفره، مع تحمل المسؤولية في إرشاده لا حمله على فعل ما لا يريد، ومع الأسف نجد هذا في تعامل الأبوين مع ابنهما، فيصبح الابن مشروع أبويه لا مشروع نفسه.

من جوهر الحبّ أيضاً أنه نفاذ إلى الآخر وإلى نفسي لأكتشفه وأكتشف نفسي أيضًا، وهذا لا يكون من خلال القسوة، أو الشدّة كما يمارسها المحبوب مع محبوبه، والتي تتمثل في الرغبة بمعرفة سرّ الأشياء من خلال كسرها، كالطفل الصغير الذي يأخذ شيئًا ويحطمه في سبيل معرفة ما فيه، أو يأخذ طيرًا ويمزق جناحيه ليجبره على البوح بسره، والقدرة على النفاذ أسلوب حياة يمكن للإنسان أن يتعلّمه ويطوّر نفسه فيه ويقرأ عنه.

لعلّ من شروط الحبّ اللازمة قهر ما لدى الإنسان من نرجسية، فالإنسان الأناني لا يقدر على الحبّ، وهذا ما تمثله قصة النرجسية نفسها وصاحبها الذي كان لا يستطيع أن يحب الناس فأحب نفسه عندما رآها في وجه الماء، والنرجسي لا يستطيع رؤية العالم والآخر إلا من منظور ذاتي، كأن الناس رموز أو كائنات تحقق ذاته، وهذا جوهر الرؤية النرجسية.

إن الحديث عن الحبّ هو في الحقيقة حديثٌ عن التواصل الإنساني، وأشكال التواصل الإنساني تحدث عنها علماء النفس والاجتماع، ويمكن أن نلاحظ هنا ثلاثة أنواع للتواصل مع الآخرين:

– التواصل التواكلي: وهو فقد استقلالية الذات وتحاشي الوحدة من خلال ربط الذات بذات أخرى وهو ما يسمى بالمازوخية، حيث يجد الشخص أمانه في ربط نفسه بالآخر، وهنا يكون الشخص مبلوعاً من قبل الآخر، ولهذه العلاقة طرف آخر يكون الشخص فيها بالعًا وهو ما يسمى الساديّة وهي الإفراط في السيطرة على الآخر والتلذذ بتقييده وحجز حريته.

– التواصل الانسحابي، يبدأ بالتواصل لكنه فورًا ينسحب لأنه يرى أن البشر تهديدات بالنسبة له ويخاف دائمًا من خطر التدمير، ويمكن أن نلحظ ذلك في الأشخاص الذين لا يملكون أي دائرة مقربة من الأصدقاء وتقتصر حياتهم على معارف بعيدة.

– والشكل الثالث من أشكال التواصل هو التواصل من خلال الحبّ وهو الشكل البنّاء للتواصل، وهو الشكل الصحيّ لأنه يتضمن المسؤولية والاهتمام والاحترام والمعرفة والرغبة في نمو الشخص الآخر وتطوره، دون سيطرة أو انسحاب.

 الحبّ علاقة عاقلة عاملة، علاقة تبادل، علاقة تلقي ونفاذ، مثل الأرض والمطر والليل والنهار والمادة والروح، السماء تسعى من أجل الأرض والأرض تقدم الغذاء، وهذا أساس بناء هذا الكون، حتى على مستوى العلاقة الجسدية فنجد أن الرجل يقدّم  والمرأة تعطي جسدها. وبمناسبة ذكر العلاقة الجسدية فبرأي إريك فروم أن فرويد قد فشل في فهم الجنس بشكل عميق، حيث اعتبر فرويد الحب شكلًا من أشكال التسامي والهروب من الجسد، لكن الجنس في الحقيقة هو تجلٍّ عميق من تجليات الحب.

– إن نجاح الحبّ لا بدّ أن يمرّ بشروط ووصفات يجب اتباعها، وإلا تبقى العلاقة في خطر، وقد تنهار في أية لحظة، والتركيز شرط ضروري للسيطرة على فن الحبّ، والتركيز يجعل الإنسان يشعر بذاته بدل أن يكون حركة من الخارج، والتركيز ينمّي في الإنسان إحساسه بنفسه وإحساسه برغباته ورغبات الآخرين، ويصبح أملك لنزواته وشهوات السيطرة، وأقدر على فهم مزاجيته أو فترات انسحابه، ولا بدّ من تنمية التواضع في موضوع الحب، ومحاولة التعلم، والخروج من أحلام الطفل الذي يعرف كل شيء وعنده حل لكل شيء.

ومن الجدير بالإشارة إليه أن الحبّ ليس قرارًا، بمعنى أنني أقرر أنني سأحبّ! فالبحث عن قصة حب لنعيشها مشكلة، ولا بدّ أن يكون الشاب على وعي بهذا وخصوصًا عندما يأتي هذا الشعور خلال أيام الجامعة، وما يوحي به المجتمع من أنه يجب عليه أن يعيش قصة حبّ، وفشل الحبّ هو في الغالب فشل في التواصل.

ولعل من أهم أخطاء الحبّ محاولة إرضاء الطرف الآخر دون فتح مواضيع جادة رغبة في إبقاء العلاقة جيدة ومريحة، والخطأ الثاني محاولة تغيير المحبوب بطريقة قطعية مسبقة دون مرونة.

وإذا أتينا إلى موضوع الحبّ من وجهة نظر اجتماعية أكثر من الوجهة الفلسفية والمعنوية له لوجدنا أن من صفات المجتمع الحديث البحث عن الفائدة والخيارات الرشيدة، حيث يرى باومان أن التأقيت والمدى القصير اللذين تقوم عليهما حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث يقومان بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات، وهذا قد نجد أثره في العلاقات العاطفية التي تنهار بأوقات قصيرة، أو بالأسر التي دخلها مفهوم الاستهلاك على مستوى العلاقات فأصبح التغيير يطال كل شيء حتى الأشخاص، وهنا في الحقيقة لا بدّ من تجديد العلاقة وإعادة الحياة لها، لا تضييعها وإلقائها. هناك خوف كبير من تغير المفاهيم الصلبة القديمة التي اعتدنا عليها ومثلت لنا حجر الزاوية والأساس في العلاقات البشرية، كمفهوم الأسرة الصلب، وذلك من خلال العلاقات العابرة واستسهال موضوع الطلاق في مقابل تعقيد الطلاق عند المجتمعات التقليدية.

الرغبة والحب قد يشتركان في المظهر ويختلفان في المضمون، الرغبة (والتي تمثل أغلب العلاقات في زماننا الحالي) هي اشتهاء الاستهلاك لا لرغبة إلا الإشباع، والالتهام، والابتلاع والهضم، أما الحب هو الحرص والرعاية، إنه قوة تتمدد وتتجاوز حدود الشهوة والرغبة في الإشباع قوة تستوعب الذات في الموضوع وليس العكس.

إنّ مفهوم العلاقة معقد وصعب ويحتاج لتراكمات، لذلك بدلاً من “العلاقات”، استخدم باومان “الصلات والاتصالات” أو الشبكة الاجتماعية، الشبكة تقوم على الفصل والوصل في آن معاً، وسهولة الدخول والخروج، حيث يمكن القيام بإضافة صديق أو حجبه بزر الحجب، بينما “العلاقات” هي وصفٌ عميق يعكس خيارات اجتماعية مركبة ومعقدة واستثمار وقت وتضحية، لكن الإنسان الحديث يريد علاقات سهلة وعابرة.

فمن السهل أن نضرب طفلًا لنؤدّبه، لكنْ من الصعب أن نعلّمه بالحبّ، فالحبّ يحتاج إلى جهد وصبر وكلفة، ومن السهل أن نضيف أحدًا على الفيس ثم نقول عنه إنه صديقي، لكن من الصعب أن نبني معه صداقة حقيقية دون تراكم في المواقف والأحداث، ودون حوارات وسماع، ودون أكل وشرب.

وقبل ختام هذا المقال عن الحبّ وفلسفته نفسيًا واجتماعيًا لا بدّ من الإشارة إلى موضوع مهم في الحبّ وهو الخطاب المتعلق بالحبّ، الخطاب المتزن الذي يمكن أن يقدّم للشباب في موضوع الحبّ، وهو شيءٌ نعاني من فقده في مجتمعاتنا، فالخطاب الديني تحديدًا فيه قطيعة حادة مع حال الشباب وظروف حياتهم ولا يقدّم لهم إلا أحكامًا يجدون أنفسهم مجبورين على مخالفتها، كما أنه يقدّم تصورات مختزلة عن الحبّ وعبارات لا تسعف علم الاجتماع الانتصار لها، ككون الزواج بعد الحب زواج فاشل، والزواج التقليدي ناجح بالضرورة، مع أن كليهما يتعرض للفشل والنجاح، وليس هناك طريقة مثالية للزواج تقي الفشل، لكن هناك إدراك ووعي يجب أن يقدم للشباب والشابات حتى يتقوا الفشل. ومن أول أسباب دوام الزيجات التقليدية في السابق هو تقارب التوقّعات بين الزوجين الشابين وثبات القناعة بالأدوار، وهو الذي لم يعد على حاله. وبالمقابل، من أول أسباب فشل زيجات الحب هو تصوّر الزواج مجرّد صداقة خفيفة ودائمة ولن ترهقها أو تزاحمها الواجبات المعاشية من تدبير شؤون البيت وإلى تربية الأولاد وإلى تأمين كلف الحياة.

في هذه النقطة لا بدّ من تقسيم خطاب الحبّ إلى خطاب ما قبل الحبّ وما بعد الحبّ، فخطاب ما قبل الحبّ وهو الذي يمكن أن يوجّه لطلاب الثانوية والجامعية، ولا بدّ أن يقوم على فكرة عقلنة المشاعر وتوجيهها وتعزيز الإنجاز الذاتي وعدم الوقوع في علاقات لن تكمل بالزواج لطبيعة العمر والظرف الاجتماعي، أما خطاب ما بعد الحبّ وهذا خطاب مفقود برأيي حيث تعاد فيه صياغة خطاب ما قبل الحبّ للشباب بعد أن يأتوا ليسردوا قصصهم الحالية، أو يتمّ التعامل معهم بشكل ديني يبين الحلال والحرام وهذا إحراج لنفس عالقة في نفس أخرى وتعذيب أكثر لهذا الحبّ الفطري الطبيعي، لذلك لا بدّ من صياغة خطاب روحي وعقلي ونفسي يناسب هذا المقام مع تسهيل الأهل لفكرة الزواج، تجنبًا لمحاذير نفسية ودينية قد تأتي بها الصدمات العاطفية.