احترام التخصص!
يتردّد بين الحين والآخر كلام عن مبدأ احترام التخصصات، وتعميم هذا المبدأ على ضرورة احترام التخصصات في علوم الشريعة. فلا يعقل -وفق هذا المبدأ- أن نحترم رأي الطبيب في مسألة طبية أو المهندس في مسألة هندسية، ولا نحترم رأي الفقيه في مسألة فقهية. وهذا الكلام حقٌّ في أصله العام، نستأنس له باستلهام المعاني المفتوحة لقوله تعالى: {فأسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وبما ورد في السنة النبوية، عن تميّز بعض الصحابة بمزايا خاصة، منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: “أرْأَف أمتي بأمتي أبو بكرٍ، وأشدُّهم في دينِ اللهِ عمرَ، وأصدقُهم حياءً عثمانُ، وأقضاهم عليٌّ، وأفرضُهم زيدُ بنُ ثابتٍ، وأقرؤهم أُبَيُّ، وأعلمُهم بالحلالِ والحرامِ معاذُ بنُ جبلٍ، ألا وإنَّ لكلِّ أمةٍ أمينًا، وأمينُ هذه الأمةِ أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاحِ.” إلا أنَّ الأخْذ بمبدأ احترام التخصصات على وجه الصحيح، في حياتنا المعاصرة، يحتاج إلى النظر في عدد من المسائل، أذكر منها على سبيل المثال سبع مسائل:
أولاً: إنَّ التخصص في الطب أو الهندسة أو الزراعة أو غيرها، هو مِن قبيل فروض الكفاية، أمَّا العلم بما يقوم بإسلام المسلم وإيمان المؤمن، ويصبح من المعلوم من الدين بالضرورة، فهو فرض عَيْن على المسلم، حتى المتخصص في الطب أو الهندسة أو الزراعة أو غيرها. ومع ذلك، فإنّ من علوم الشريعة ما قد يُعدّ فرض كفاية كذلك، فلا يلزم أن يكون كلُّ مسلم على علم دقيق بفقه المواريث مثلاً، أو التفاصيل الدقيقة في فقه المعاملات التجارية، أو المسائل المتخصصة في القضاء أو التعليم، فمثل ذلك من فروض الكفاية في حقِّ الأمة، ولكنَّه يصبح فرض عيْن على من يتولّى أمره.
ثانياً: إذا جاز إطلاق القول باحترام التخصص في علوم الشريعة، فلا بدّ من ملاحظة ما أصبح معروفاً عن الطرق التي يُكتَسَب فيها التخصص. فامتلاك التخصص قد لا يتحقق بالضرورة من دراسته في المؤسسات الدراسية والحصول فيه على أعلى الشهادات، فمِنْ بين الأعداد الهائلة من خريجي أعلى البرامج والشهادات العلمية في علوم الشريعة، لا نجد إلا القليل ممن يصلح لهم لقب العالِم في تخصصه، القادر على أن يفتي في مسائل ذلك التخصص. وبمثل ذلك يُقال عن حملة أعلى الشهادات في تخصصات اللغة العربية، وربما يتصفون باللحن والضحالة والعجز فيما يقولون أو يكتبون. ومع ذلك فإنَّ بعض من عُرفوا في مجالات علوم الشريعة واللغة العربية في أعلى مستويات الأداء لم يدرسوا علوم الشريعة أو اللغة العربية في مؤسساتها المتخصصة، وأصبح منهم من يتفوّق على من درسوا في تلك المؤسسات، ولا يعجز القارئ أن يتذكر أمثلة على ذلك من واقعنا المعاصر. ثم إنَّ بعض المهارات الفنية والعملية التي يكتسبها المرء بالممارسة والخبرة المباشرة، تمكن صاحبها من حل مشكلة مستعصية يعجز عن حلها المتخصص عن طريقة الدراسة وحمل الشهادة العلمية. ومثل ذلك يقال عمن يمتلك من البصيرة والرؤية الفكرية النافذة، ما يمكنه من تقديم أفكار في السياسة أو الاقتصاد أو التربية ما يعجز عن تقديمه أهل التخصص من حملة الشهادات في هذه المجالات.
ثالثاً: إنَّ القول باحترام التخصص الدقيق في فروع علوم الشريعة، لا يعني بالضرورة أن المتخصص في فرع معين منها يكون أعلم في ذلك الفرع من متخصص في فرع آخر، فنجد من حملة الشهادة الجامعية الأولى في علوم الشريعة دون تخصص في فرع منها، من يتفوق في الفقه على من يحمل الشهادة الجامعية الثالثة في الفقه، ويتفوق في التفسير على من يحمل الشهادة الجامعية العليا في تخصص التفسير، وهكذا. فالتخصص في الفقه لا ينتج بالضرورة فقيهاً، والتخصص في التفسير لا ينتج بالضرورة مفسراً، والمتخصص في الحديث لا ينتج بالضرورة محدثاً…. وتبقى صفة العالِم لمن تثبت له قدرة معينة في تحقيق المسألة المعروضة للبحث من مصادرها بوسائلها لأغراضها. ومهما كانت مصادر المعرفة المناسبة للبحث في أي موضوع، فإنها لا بدّ من أن تجمع معارف الوحي والخبرة البشرية ذات الصلة بالموضوع، ومهما كانت الوسائل فلا بدّ من أن تجمع بين المعرفة الحسية والأحكام العقلية، ومهما كانت الأغراض فلا بدّ من أن تجمع مقاصد الصلة بالله الواحد، وتزكية الإنسان المستَخْلَف، وعُمران العالَم المُسخَّر.
رابعاً: إذا كان احترام التخصص حقٌّ، في كلّ التخصصات، فإنّ من يتولى بحث مسألة من المسائل ويحيط بما يلزم من معرفة فيها، بالرجوع إلى مصادر المعرفة اللازمة من التخصصات المختلفة، ربما يكون أقدر على بيان وجه الصواب فيها من غيره، فهو في هذه الحالة صاحب التخصص فيها، بصرف النظر عن خلفيته التخصصية الأصلية. وقد أصبح من الأعراف العلمية أنَّ البحث العلمي، الذي يقوم به باحث أو فريق من الباحثين، لا يُعتمَد إلا بعد قبوله من أقران في المستوى العلمي للباحث أو أعلى منه، أحياناً عن طريق ما يسمى التحكيم الأعمى، وأحياناً أخرى عن طريق المناقشة العلنية التي يقوم بها فريق من المتخصصين. فإذا سارت أمور التحكيم والمناقشة على ما يفترض من الاستقامة العلمية، والنزاهة الأخلاقية، فإنَّه يحقُّ لنا القول: إنَّ المتخصص في موضوع معين الذي يلزم احترام تخصصه هو ذلك الباحث في ذلك الموضوع.
خامساً: أصبحت ميادين المعرفة في العالم المعاصر من السعة والتعقيد ما قلّص كثيراً من أهمية العالِم الفرد، الذي يفتي في بعض ما يُعَدّ من مسائل علوم الشريعة. وأصبحت الحاجة إلى الاجتهاد الجماعي، في مؤسسات متخصصة تجمع أهل التخصص في المسالة المعروضة أو تستعين بهم. واحترام التخصص هنا يؤكد ضرورة حضور الفقه والمعرفة النظرية والعملية ذات الصلة بالمسألة المعروضة في ميادين علوم الشريعة والعلوم الأخرى.
سادساً: احترام التخصص لا يعني عدم الحاجة إلى التدقيق فيمن يدّعي التخصص، وهذا يصدق على كل التخصصات في علوم الشريعة أو أية علوم أخرى. فالانتحال وسوء التوظيف وارتكاب الأخطاء -بقصد أو بغير قصد- معروف في كلِّ التخصصات، فكم سمعنا عن أخطاء في التصميم الهندسي وأخطاء التنفيذ، والأخطاء الطبية، والتحيّز في مواقف القضاء، والتلاعب في الحسابات المالية! مثلما سمعنا عن علماء السلاطين، وعلماء الجمود والتقليد الذي يحرمون المباح، أو يترخصون في فتح أبوب الفساد من المعاملات أو الممارسات! لذلك فإنّ الاحترام الواجب ليس للتخصص، وإنما للمتخصص الذي يتقن تخصصه ويمارسه في صوره النافعة، وقد وجدنا من جميع فئات التخصص من لا يستحق الاحترام، حتى لو كان ذلك من قبيل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
سابعاً: إنّنا لا نعرف تخصصاً يقف عند درجة معينة، فالعلم والخبرة والكفاءة في كلِّ تخصص مفتوحة الآفاق على النمو والتطور والزيادة، فإذا كنَّا نحترم متخصصاً ملك الحدَّ الأدنى في تخصصه، فإنّنا في كثير من المواقف نحتاج إلى من هو أكثر علماً وخبرة في ذلك التخصص، ويصدق ذلك في كلِّ التخصصات بما في ذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية والتطبيقية والنظرية وعلوم الشريعة. لذلك وجدنا التدرج في اكتساب التخصص في المؤسسات التعليمية الجامعية متمثلاً في التمييز بين حملة الشهادة الجامعية الأولى والثانية والثالثة، من تخصص عام إلى تخصص دقيق، إلى تخصص أدق. ووجدنا التدرج في اكتساب الخبرة العملية في ممارسة التخصص، لنصل إلى الاستشاري والخبير. ووجدنا قبل ذلك وبعده من أصحاب الإبداع والبصيرة والحكمة من يقدّم للمتخصصين مشورة وخبرة لا تقل حاجة إلى التقدير والاحترام عن احترام تخصص أصحاب التخصص.
والله أعلم بالحق والصواب. وفوق كلِّ ذي علمٍ عليمٌ.