البلاغ المبين

406

بسم الله الرحمن الرحيم

ما تقول السادةُ العلماء أئمةُ الدّين رضي الله عنهم أجمعين في رجلٍ يعظُ المسلمين ويبيّن لهم ما وقعوا فيه من البُعد عن حقيقة الدين، فلا يقع بهم البلاغ المبين أو الشهادة على العالمين. والإسلام هو الدّين الحق والواجب اتباعه على كل الخلق، ولكن الله لا يعذّب من لم تقع عليه الحجة، وهو أعلم بمن كان جهله بالإسلام لعدم كفاية الداعين له والقائمين لبيانه ومن كان رفضه للإسلام عناداً وكبراً وبطراً للحق وإصراراً على متابعة الآباء.

فاعترض عليه معترض وقال: وجودُ من لم تقُم عليه الحجّة في هذا الزمان لا يُتصور، وعذاب الله واقع لا محالة بكل من لم يقبل الإسلام ديناً، والقول بغير ذلك تمييع للدين والهدي المبين. فما القول الفصل بينهما؟ أفتونا مأجورين…

باسمه تعالى الذي لا تتيه بتوفيقه العقول

أما بعد فقد وصلنا من طرفكم اعتراض المخالف لكم في مسألة مهمة من مسائل الدين. وإن حجته لواهية، واعتراضه على مثل جوابكم السديد وقولكم المنير لتظهر أن جهله بطبائع النفوس وتقلّب الأمور ومُراد الباري طبقات بعضها فوق بعض. وإني كاتبٌ إليكم نبذة تبدد تلك الظلمات الحالكة باختصار يفي الفاهم النابه ولا يُفحم الخصم المعاند.

أما الوجه الأول فهو أن آلة البيان هي أفعال العباد لا آيات الكتاب. وهناك من السُذَّج من ظنّ أن طلاوة نظم القرآن كافية لهداية البشر، ولكن لو صحّ هذا لما بعث الله الرسل وإنما ألقم كتابه الطير تردّده على الآذان، أو لكان دأب الأنبياء تلاوة الصفحات. ولكن بعث الله الرسول ﷺ ليكون قدوةً تأتمّ به الناس بعد أن تمثّل خلقه القرآن. فكان الكتاب مَكْمَن المعاني الباهرة والحجج الدامغة والنظم المرتّل، والحجّة مفتقرة إلى خلقٍ يظهرون هذه المعاني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ…} [المائدة: 8] بأفعالهم قبل أقوالهم، يفصّلون في الحجج الدامغة بعِلمهم وقلمهم قبل سيفهم. ولهذا فقد اختار لهم مُنـزل الكتاب رسولاً من أنفسهم، وجعله الأمين الذي تودِع الناسُ عنده نفيس أموالهم، والـمُنصف الذي لا يُخشى منه حوبا، تحتكِمُ إليه الناس إذا اشتد كبرياؤها فيمن يُرجع الحجر الأسود إلى مكانه الركين. ولقد خاطبهم الله تعالى على لسان رسوله بقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]، وهذا اللبث من قبل إنما هو حجّةٌ بالسمت الذي يُوطّىء للحجّة بالقول.  

فكيف يقال إنّ عدم قيام البلاغ المبين في هذا الزمن لا يتصور. ولو نظرنا إلى أفعال كثير من المسلمين لوجدنا فيها بلاغاً معكوساً يُظهر فساد ما هم فيه على وجه التحقيق، لا ما يدّعونه حاشى الإسلام العظيم. ولو ردّدت البصر في حال المسلمين لَرأيت الصدور الحرجة التي تضيق بالصديق قبل البعيد، والعقول الخاملة التي تعكف على التقليد وتجهل مراتب الأمور وأولوياتها ومآل الأحداث وجريانها، ولَبصرت الجيران المتخاصمين والأزواج المتناحرين والأمهات اللاهين والآباء العابثين، ولَشاهدت الحارات القذرة والأسواق الغاشّة، ولَراعتك مجالسُ العلم الفارغة ومسالك السلطان الظالمة والوعود الكاذبة والصلاة التي تُؤخر والدّين الذي لا يُردّ، ولَوجدت الأمانة التي لا تُرعى والكسل الذي لا يُبرر والبضاعة المزجاة والصناعة غير المتقنة. ولو بحثت عن السماحة والصبر وسلامة الصدر والعفو والرفق والعدل والإحسان لوجدتها نادرة، إلاّ بعض ما ورثناه بالعادة قبل العبادة. فكيف يقوم بمثل ذلك بلاغ مبين؟ ولو كان مجرّد الآي العظيم كافٍ للبلاغ المبين، لما وجد من بني جلدتنا من شكّـكه الحالُ بالمقال، فكيف بمن لا يتكلّم بلسان القرآن وهم عامة أهل الأرض؟

أما الوجه الثاني فهو طبيعة البيان. فالناس على درجات متفاوتة، وحين كان للعرب معرفة وشأن في لغتهم كان نظم القرآن وأسلوبه أقوى حجّةً في زمنهم من حجّة هذا النظم على مَن جاء بعدهم. وربما كان ذلك من مراد الخالق، لأن المخاطب الأول لا يمكن إحالته إلى مثالٍ سابق، فكان التوفيق بين براعتهم باللغة والإعجاز بالبيان القرآني. ولا يعني ذلك أن حلاوة القرآن قد انقضت، وإنما أنّ حجتّها لأعجام اليوم والأمس غير مستويةٍ مع حجتها لمن برع في اللغة.

فإذا لم تكن الكلماتُ بذاتها رغم جلالها كافية، ولا النظم الفريد رغم حلاوته شافياً، فما المعوّل عليه في البلاغ المبين؟  ولقد قدّمت شرطه الأول وهو القدوة والسيرة الحسنة كما شاهدنا في خُلق النبي الكريم ﷺ وسيرة أصحابه العطرة، ولكن هذا إنما هو مقدّمة للبلاغ وليس البلاغ ذاته. فالمطلوب هو إقامة الدّين وإظهاره والحكم بالشرائع التي تسعد بها الناس، فإذا تحقق هذا الشرط كان بياناً مبيناً. أما ما دونه من عرض الحجج والمجادلة بالتي هي أحسن فهي دعوةٌ وبيانٌ، ولكنها ليست بلاغاً مبيناً لا تدع شكاً لذي لبّ.

والناس في هذا على درجات. فذوو العقول الراجحة وأصحاب الفهم والفكر يكفيهم الخطاب المجرّد، وهو في حقِّهم أحجّ، وهم على ذلك محاسبون. أما عامة الناس ممن هم أقرب إلى الإمّعات فإنّ حجج العقل عندهم واهية. وأكثر عباد الله إنما هم من أصحاب الحرف والصناعات الذين أعفَوا أنفسهم عناءَ التفكير في المجرّدات واكتفوا بالنظر في المحسوس من نتائج الأعمال، ولا يمكن للدّين أن يأتيهم من غير وقائع الأمور، إلا ما تُرقَّق به القلوب. وغالب انشراح صدورهم للرقائق إنما يأتي من كونه يستجيب لواقعهم المعاش من الحاجة إلى الطمأنينة والسكن، أكثر من كونه استسلاماً لحجة الدين. ولهذا فإنهم هائمون بمقالات القصّاص ومُغرمون بالمبالغة في التزام الهيئات في الذكر والعبادات. فالبلاغ المبين إذن هو مقولات مسدّدة انبنى عليها واقعٌ صالحٌ يراه الأعمى ويسمعه الأصم.

أما الوجه الثالث فهو تدرج البيان. فليس البيان المبين لمعةً واحدة تلمحها العين فتخرّ ساجدة. وتأمّل كيف صبر الرسول ﷺ صبراً جميلاً، يترأف بحال الناس وهو يقودهم حثيثاً إلى الإسلام. وتذكرّ معاملته لأبي سفيان ولخالد بن الوليد ولغيرهم ممن نشر إليهم عبير الهداية وترك لوقع الزمان وتقلّب الأحوال أن ترتشح تلك المعاني إلى القلب وتتلصّص إلى العقل، ثم هيّأ لهم ما يسهّل الدخول إلى الإسلام من إعطاء الأمان والاعتراف بالفضل والعقل، وبالإنفاق عليهم تأليفاً للقلوب. فإذا كان هذا في حقِّ الرسول الكريم حامل الرسالة والقدوة للعالمين، فكيف بغيره؟ وثمّة إشكال تنبغي الإشارة إليه بخاصةٍ، وهو تحديد الوقت في سيرته صلى الله عليه وسلم الذي يصحّ أن نقول أن البلاغ المبين قد وقع؟ فلو اعتبرنا أن البلاغ حاصلٌ بمجرّد التنـزيل أو بأدنى الأفعال وأطلقنا هذا المفهوم لبطلت الحاجة إلى الدعوة إلى الدّين الحميد. ولكن لما كانت الدعوة قائمةً إلى يوم الدّين، ظهر لنا أن البلاغ المبين أيضاً قائمٌ إلى يوم الدين. فحال البلاغ في تبدّلٍ مستمرٍ يعلو ويظهر يوماً ويخفى ويعصى يوماً آخراً، وليس له حال تامة تتعلق بها الهممُ الساقطة والنفوسُ الساخطة لتلعن الناس الذين لم يروا هذا البلاغ المزعوم أو لتحمل عليهم سَفَهَ الغضب. وإنما حينما يتمّ الإعراض عن الإسلام ينبّهنا ذلك إلى واجبنا في إحكام البلاغ المبين ورفع راية خطابه الذي لم يعدْ يستألف مَن في أنفسهم بقية خير، وليس في هذا غفلة عن وجود مستكبرين جاحدين لا يجدي معهم أي قول وأي مثال، وإنما غالب الناس ليس منهم.

فالبلاغ المبين هو ذلك الخطاب النافذ الذي يصل إلى كل ركنٍ من أركان النفس البشرية وإلى كل زاوية من زوايا الحياة المعاشة. وحين يصيرُ التكلّمُ بلساننا فصاحةً، والأكلُ من قوتنا ذوقاً، والتشبّهُ بنسائنا جمالاً، والغناءُ بوزننا طرباً، والسكنى في طراز بيوتنا عمارةً، والنسجُ بمحياكنا صناعةً، والضربُ بسيفنا قوةً، فعندها يمكن القول إن نبراس البلاغ قد بزغ وعلا.

وأختم بمسألة زائدة لم أُسأل عنها ولكن تعلّقها يبرِّر ذكرها، وهي مسألةٌ خطيرةٌ سوف أجتهد فيها الرأي فهي من مقتضى البلاغ المبين. وسوف أختصر اختصاراً أرجو أن لا يكون مخلّاً، غير أنّ خلاف ذلك يطول فأنبّه إلى مجامع المسألة.

فما الذي ننتظره من البلاغ المبين؟ أهو دخول جميع الناس أفواجاً في الإسلام، وهذا علمه عند الله إن كان سيقع ومتى. ولكن الحدّ الأدنى الذي ينبغي أن نصبوا إليه في خطاب الناس هو التسليم بأمرين: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وهما الشرطان اللذان يتوقف عليهما اعتبار الأعمال الصالحة في الآخرة لمن لم يُستوفَ في حقّه البلاغُ المبين، وذلك استناداً إلى الآية الجامعة العامّة غير الخاصّة ولا المؤوّلة: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. فالإيمان بالمتعالي المطلق المتباين عن البشر المخلوق والإيمان بالحساب، هما ما تنصلح به أعمال الناس وتعمر به الأرض. أما تفاصيل العقائد فمسألة أخرى، ولقد أتى بعض الغلاة من السنّة والشيعة والمتصوّفة والمعتزلة بالشاذّ القبيح الفاسد، فيُرجئ أمرهم إلى الله عالم الغيوب، ولا يُكَّفر أحدٌ من أصحاب القبلة. فإذا كان هذا الغضُّ بحقِّ المسلمين قائم، فهو بحقّ غيرهم أولى وقد نشأوا وتشربوا مسلَّمات لا يُزيلها إلا طولُ الزمن وانطواء الأحوال، وهذا ظاهر لمن أدرك تحكُّم العادات. ولعمري إن هذا جزء من إعلان الإسلام لحقوق الخلق عيال الله وخطابه للعالمين وكافّة الناس في أنهم مفتقرون إليه، وأنه بعدله يُقدّر عمل كلّ عاملٍ توجَّه للخالق المتعالي وآمن بالحساب. فهذا هو الحدّ الأدنى، وإن كان ذلك ليس إقراراً بصحة مذاهبهم، بل السعي لتقويمها واجبٌ لأنها المدخل الذي يُؤتى منه إلى كلّ مفسدة، ناهيك بالتقصير في حقّه تعالى. أما مَن عمل صالحاً ولم يؤمن بالله واليوم الآخر فيثنى على عمله خيراً، فنحن أمة لا يجرمنّا شنآن قوم على ألّا نعدل، ولكن لا يستحقّ الثواب الأخروي مما لم يبغهِ أصلاً برغم ما في النفس من دواعيه، وأمثال هؤلاء ندرةٌ في الخلق على كل حال، وأكثرهم يدخل الإيمان قلوبهم يوماً على ما أسلفوا من الخير.

واعلم أن هذا الفهم هو المنسجمُ مع أخذ العهد على بني آدم في ظهور ذرّيتهم، المنسجم مع مقتضى الفطرة ومقتضى العقل، وهو الخطاب المشترك لكافة الأنبياء {اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} [العنكبوت: 36]، وعليه اختُص أهل الكتاب، وهو اللائق بحقِّ العليم العدل تعالى، والله أعلم.

وكتبه الفقير إليه تعالى مازن موفق هاشم

صبيحة الثامن من ربيع الأول 1417