التوحيد
اسم الكتاب: التوحيد، مضامينه على الفكر والحياة
اسم المؤلف: إسماعيل راجي الفاروقي
ترجمة: السيد عمر
الناشر: مدارات للأبحاث والنشر (2014)
عدد الصفحات: 328
يمكن للمتأمل في الفكر الإسلامي المعاصر أن يلمح مجموعة من التأويلات والتصورات عن التوحيد، يعبر كل منها عن وجه يختلف عن الآخر، ويحيل إلى مواقف نظرية وعملية متباينة.
فهناك التصور السلفي العلمي المحافظ، الذي يركز في نظرته عن عقيدة التوحيد على مسألة تنقية العقيدة من البدع والضلالات وتطهيرها من الشوائب الطارئة مع العصر، ونفي “شُبه” الجماعات الإسلامية الأخرى ذات التأويلات العقدية المخالفة.
وفي مقابله يأتي التصور الذي يقدمه الأشاعرة المعاصرون، والذين يتعاملون مع التوحيد من ناحية نفي صفات التجسيم وغيرها من الصفات التي لا تليق بالله تعالى، وتبني مقولات الرازي وإنكار مقولات ابن تيمية، وموضع التقابل بينهم وبين السلفية يأتي ضمن الصراع على تمثيل أهل السنة، والتنافس على شرعية “السنية” التي ترتبط بتصوراتهم عن عقيدة التوحيد.
وفي حين يبقى التصوران السابقان في إطار السجال العقدي النظري، يأتي التصور الآخر الذي ينتقل لمستوى حركي، وهو التصور القطبي الذي ورد في كتاب سيد قطب واسع الانتشار “معالم في الطريق”، وهو تصور حركي يربط التوحيد بالتحرر من عبودية الطواغيت والظلم ومن عبادة غير الله، ومن ثم إقرار الحاكمية لله وحده وتحكيم شريعته في الخلق بدلاً من النُظم “الجاهلية” البشرية.
ويمكن ذكر مجموعة ملاحظات نقدية حول هذه التصورات كلها؛ فالتصور السلفي المحافظ يحول التوحيد موضوعاً للسجال في قضايا جزئية وفرعية مع طرف آخر بغية إبطال أقواله، والانتصار إلى الجماعة التي تحظى بلقب الفرقة الناجية.
أما التصور الأشعري المعاصر فتكمن أزمته في كونه عالقاً في سجال تاريخي قديم، مما يقصيه عن الساحة الفكرية المعاصرة وأسئلتها.
أما التصور القطبي (والذي شحن السلفية الجهادية لاحقاً بمقولات حركية) فهو تصور يغلب عليه الطابع الإيديولوجي والتثويري الذي يقوم لنصرة هوية معينة مقابل أخرى.
وبالرغم من شبه هيمنة هذه التصورات عن التوحيد، إلا أنه يوجد تصورات أكثر عمقاً وشمولية من ذلك، ومن أهم هذه التصورات هو ما قدمه المفكر الإسلامي إسماعيل الفاروقي رحمه الله (1921- 1986)، حيث يعد هذا المفكر من أهم المفكرين الإسلاميين الذين شعروا بالأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة، محاولاً تقديم مشاريع للمساهمة في حل هذه الأزمة والوصول لتشخيص واضح عنها.
وهو باحث ومفكر فلسطيني تخصص في الأديان المقارنة، ويعد من أوائل من نظّروا لمشروع إسلامية المعرفة، واُنتخب كأول رئيس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي.
ويكمن موضع التميز في ما يقدمه الفاروقي في كتابه الفذ “التوحيد” في كونه يتعامل مع مبدأ التوحيد باعتباره مبدأً روحياً شاملاً يتغلغل في مضامين الحياة الفكرية والعملية ليعيد توجيهها من جديد، وتؤسس أنماطاً سياسية واقتصادية واجتماعية تتلائم مع أصالة مبدأ التوحيد.
ولعل موضع تفوق منظور الفاروقي للتوحيد يقع في كونه قد تعامل مع التوحيد باعتباره يمثل رؤيةً كونية، أي أن الفاروقي يقدم التوحيد كرؤية شاملة لله والإنسان والوجود، بحيث يبين طبيعة العلاقة فيما بينها وطريقة انعكاسها على مقتضيات الحضارة.
وهذا المنطلق هو الذي مكَّن الفاروقي من الكشف عن مآزق النمط المعرفي الغربي، باعتباره نمطاً لا يعترف بالغيب كمصدر للمعرفة، وأنه يقيم العلم على الحقائق الملموسة فقط، ومن ثم فهو ينشد غاية إشباع الجانب المادي للإنسان من دون الارتقاء بالجوانب الروحية والأخلاقية.
كما يمكِّن تصوره المعرفي من إقامة أسس جديدة لإقامة العلوم الطبيعية أو حتى العلوم الاجتماعية الإنسانية.
فمبدأ التوحيد يعني مركزية مفهوم الله بالنسبة للمسلم في مجالات حياته كاملة، وهذه المركزية هي شعور حي ومستمر، وبالتالي فهو يعارض التصورات المادية التي قدمها بعض الفلاسفة من انفصال الله عن العالم واعتبار الوجود كالآلة الجامدة التي تتحرك لوحدها ومن دون غاية.
هذا التصور الذي ينحو باتجاه الآلية ينافي ما يقدمه التوحيد من إحساس ديني، وهو هنا يستلهم فكرة المتكلمين عن ما سموه بالـ “إحداث”، وهي تعني أن الله تعالى يجدد العالم كل لحظة، وتحضر إرادته في كل ما يحدث، وتضمر هذه الرؤية أن الله ليس مجرد العلة الأولى النهائية لنشأة الكون، بل هو أيضاً أصل المعيارية فيه؛ فالله هو الغاية النهائية وإليه المنتهى.
لذلك تتضح دلالة التوحيد كرؤية للوجود من خلال خمسة مبادئ تشكل لب التوحيد:
الثنائية: فالتوحيد يقرُّ نوعين متمايزين لكل منهما وظيفة مغايرة للآخر وهما: إله ولا إله، خالق ومخلوق.
التصورية: والعلاقة بين نظام الخالق والمخلوق فكرية تصورية، فركيزتها الأساسية هي ملكة الفهم والتصور عند الإنسان.
الغائية: والكون بالنسبة للتوحيد مخلوق لغاية، وبالتالي لا مكان فيه للهو أو العبث.
القدرة الإنسانية والقابلية للتغيير: وينبني على ذلك أن الغاية من خلق الوجود مرهونٌ أمر تحقيقها من خلال القدرة الإنسانية وإمكانياتها في حدود الزمان والمكان.
المسؤوية والمحاسبة: وبناء على تكليف الإنسان بتحقيق الغاية من خلق الوجود فهو كائن مسؤول ومحاسب، وهو كائن حر بموجب حمله للأمانة بحسب التعبير القرآني.
وفي ما يتعلق بمسألة تأسيس منظور جديد للعلوم الطبيعية والاجتماعية، فإن ذلك يتأسس على أن التوحيد يتضمن تصورات عن معرفة الطبيعة، حيث تتصف الطبيعة ضمن الرؤية الإسلامية بثلاث صفات هي: النظام والهدفية والخيرية.
فنظام الكون محكم، والله هو الخالق الذي أعطى كل شيء خلقه، وإليه تنتهي أسباب كل ما يحدث في الكون، وهذه السببية تعني أن كل ما يفعله غيره، وكل الأسباب المخلوقة في الوجود، لا تفعل فعلها إلا بتصريفه. ويقتضي هذا النظام إمكانية التعامل مع الطبيعة والسعي للتمكن في العلم الطبيعي.
وهذا البحث في سنن الله في الطبيعة والنفس والمجتمع، سيستدعي إعادة تأسيس العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالتوحيد يتيح الفرصة للعلوم الطبيعية والإنسانية أن تتطور ضمن رؤية دينية للكون. بالإضافة إلى هذا النظام فإن الطبيعة تسير ضمن غايات، بحيث ينشد ما فيها التوازن والانسجام، والطبيعة باعتبارها مملوكة لله، فهذا يستوجب وجود أبعاد أخلاقية في تعامل الإنسان مع الموجودات، وبالتالي توجب على الإنسان أن يسخرها لنفسه ويحافظ عليها.
بعد هذا الحديث عن الأبعاد المتعلقة بالمعرفة البشرية، لا بد من الإشارة إلى انعكاس مبدأ التوحيد على الأمور الاجتماعية والسياسية.
يشير الفاروقي إلى موقف الإسلام من الاجتماع الإنساني، ويرتكز إلى نقطة مفادها أن النظام الاجتماعي هو بمثابة القلب من الإسلام، بحيث تكون الأولوية معقودة له في مقابل الشخصي؛ فالشخصي يكون شرطاً ضرورياً لما هو اجتماعي، الا أن الإسلام يرى أن القيم الشخصية تظل عقيمة هي والسعي إليها ما لم يحقق من يتحلون بها أثراً على الصعيد الاجتماعي، بالإضافة إلى أن الشطر الأعظم من أحكام الشريعة يتعلق بالنظام الاجتماعي.
ومن أجل تحقيق الغاية من وجود الإنسان ‑وهي تحقيق الإرادة الإلهية في أرض الواقع- لا بد من أن تتشكل “الأمة”، باعتبارها بنية بشرية مترابطة، تعمل وفق الإرادة الإلهية، وتشكل هذه الأمة معياراً جديدأً للعمل الإنساني بالاضافة إلى معيار الضمير الفردي، وتشكل مجالاً لتحقيق القيم الأخلاقية، وتعيد ترتيب سلم القيم الأخلاقية بما يتناسب مع صالح المجتمع، ومفهوم الأمة مفهوم عابر لما هو محلي، وغير قاصر على عرق بعينه. والأمة مساوية للدولة من حيث السيادة والأجهزة والسلطات التي تتطلب ممارستها، إلا أنها لا ترادف الدولة، فهي كيان عالمي عابر للدول، ويعلق الفاروقي أن مصطلح “الخلافة” هو الأقرب بدلاً من الدولة، والنظام الإسلامي المرتبط بالأمة نظام كلي متعلق بكل مجالات النظام البشري. وهذا النظام يتسم بالحرية، فهو إذا تأسس على القوة يفقد صفة الإسلامية، حيث تعد قيمة الشورى مرتكزاً له في فرض القواعد الانضباطية.
*** *** ***
هذا عرض سريع لكتاب التوحيد لإسماعيل الفاروقي، وفي النهاية لا يسع القول إلا للإشارة إلى أن هذا الكتاب من الكتب التي يجدر مدارستها واعتبارها منطلقاً تأسيسياً لأنماط جديدة للممارسات الإسلامية، ومرتكزات جديدة للعلوم الطبيعية والاجتماعية.