الخلافة من خلال رؤية الإسلام الكونية

309

إن التحدث في موضوع الخلافة من خلال رؤية الإسلام الكونية من الأهمية بمكان.  فقد أردت أن أتطرق إلى هذا الموضوع من خلال رؤية معرفية وأبتعد عن طريقة الدراسات التي خاضت في هذا الموضوع وسيطرت عليها الانتماءات السياسية. ورأيت أن أتبع منهجاً يعتمد على ثلاثة محاور:

فالمحور الأول يعتمد اللغة، فلابد أن نعرف إلى أي حد تساعد اللغة العربية على معرفة دلالات وآفاق مصطلح من المصطلحات باعتبار أن اللغة في اجتماع بشري معين هي التي تعكس مما تعكس رؤية هذا الاجتماع لغايته في هذا الوجود والدور الذي عليه أن يقوم به… فاللغة تساعد إلى حد كبير على الاقتراب من فهم مصطلح من المصطلحات.

والمحور الثاني يعتمد على دلالات السياق، فقد وجدت كذلك وأنا أتطرق لموضوع الخلافة أنه لابد لفهم أي مصطلح من التعرف على المصدر الأول الذي ظهر فيه هذا المصطلح أو الذي ساهم في إخراجه إلى الوجود… فلا سبيل للتعرف على هذا المصطلح (الخلافة) إلا بعد أن نرجع إلى القرآن الكريم ونعرف الدور الرئيس للقرآن في بناء هذه الأمة ومساهمته في تماسكها واستمرار وجودها كذلك.

والمحور الثالث اعتبار نبوة محمد r هي نبوة في حالة اكتمال. واعتبار العبادات وقد اكتملت مع محمد r، واسطة أستطيع أن أستلهم معانيها وآفاقها لأتعرف على مشروع النبوة… يمكن أن نرى هذا المعنى لتطور العبادة كقدرة لرسم ما تريد النبوة إيصاله للإنسان عبر رحلة كدحها الطويلة إلى الله بضرب المثال التالي: طفل صغير يكون في مجموعة مؤلفة من مائة شخص ويطلب منه أن يتعرف على أبيه في هذه المجموعة فإنه سيتعرف على أبيه بسهولة… أما لو أعطي ورقة ليرسم أباه فقد يرسم صورة لا علاقة لها بوالده… إلا أن هذا لا ينفي قدرة هذا الطفل بعد عدة سنوات على رسم صورة دقيقة لأبيه… من هنا يمكن رؤية العبادات كرسم ممتد ومتطور مع الزمن لما تريد النبوة أن تهدي الإنسان إليه. فالعبادات تعكس إخراج مشروع النبوة المهتم بهداية الإنسان إلى الله، وتجسيد ذلك المشروع وتقريبه للناس. ومن هنا يمكن اعتماد العبادة عند محمد r لفهم مشروع النبوة بدقة أكثر باعتبار اكتمال العبادة معه صلوات الله وسلامه عليه حيث يشكل هذا الاكتمال محطة يمكن اعتمادها لفهم النبوة وآثارها ككل… يعني بدراسة معمقة للعبادات عند الرسول r من صلاة وزكاة وحج وصيام، يمكن أن نتعرف على هذا المشروع النبوة وأن نتعرف على ما يهم موضوعنا هنا الباحث عن اقتراب أدق لفهم دلالات الخلافة.

الخليفة

الخليفة يخلف من قبله والجمع خلائف، يقال: أخلف الشجر فهو يخلف إخلافا إذا أخرج ورقاً بعد ورق قد تناثر، يقال أخلفت الأرض إذا أصابها برد آخر الصيف فيخضر شجرها… أخلف الطائر خرج له ريش بعد ريش، يقول ابن عاشور[1]: الخلائف جمع خليفة والخليفة اسم لما يخلف به شيء أي يجعل خلفاً عنه أي عوضاً، يقال خليفة وخلفة وهو فعيل بمعنى مفعول وظهرت فيه التاء لأنه لما صيروه اسماً قطعوه عن موصوفه… إذن بعودة بسيطة للجانب اللغوي نستطيع أن نرى أن خليفة وخلف تصور شيئاً يخلف آخر وهذا يعكس فكرة الزمن والصيرورة… وبالعودة للقرآن الكريم نجد أنه في علم الله الأزلي عندما يقدَم الإنسان في سورة البقرة: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم… }[2] هنا يتحدث القرآن عن خلق ما في الأرض جميعاً لهذا المخلوق… وهذا يصور لنا أهمية الدور الذي يناط بالإنسان… هذا التسخير العظيم يجب أن يقابله دور عظيم على الإنسان أن يقوم به… فالإنسان مخلوق يمثل الكون عظمة مشروعه في هذا الوجود. قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة }[3] يقدَم الإنسان للملائكة كخليفة بدون تعريف ( ال)… فالإنسان مخلوق، يخلق له ما في السموات وما في الأرض وهو يقدم كخليفة بدون تعريف… فالإنسان نفسه أصبح مشروعاً يتحقق عبر الزمن… قال تعالى على لسان الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها… } هذه نظرة للإنسان تتكرر باستمرار ويمكن أن يمارسها الإنسان نفسه وهو يحكم على نفسه من خلال نظرة لا تعتبر البعد الزمني. مثل ذلك كمثل من يعتمد على صورة فوتوغرافية تعكس سفك الدماء والظلم والاعتداء الذي يقوم به الإنسان يومياً فيصدر حكمه المطلق على الإنسان من خلال ذلك كمفسد وسافك للدماء. وهو حكم يبدو عادلاً ومنطقياً إلا أنه في الحقيقة سطحياً وعاجزاً أن يرى الإنسان يتحرك كمشروع عبر الاسم… وبلغة القرآن هو حكم عاجز أن يرى الإنسان كخليفة أي ككائن يتحقق مع الزمن… وليس غريباً أن تصل كل نظرة لا تتعامل مع الإنسان كمشروع يتحقق مع الزمن إلى نفس حكم الملائكة {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الماء ونحن نسبح بحمدك… } ومن هنا كان من الواجب ألا تُخفي حقيقته لحظات سفك دماء أو الفساد حقيقةً أهم منها وهي حقيقة تحقق الإنسان مع الزمن حيث يعكس الفساد لحظات عجز عبر رحلة كبد شاقة وطويلة يجعل القرآن الصلاح آخرها وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.  وبلغة أخرى، إن الإنسان في ولادة مستمرة هو صاحبها. وكل تصور للإنسان يتعامل معه وكأنه صورة فوتوغرافية لا تعتبر الزمن في تعاملها معه تعجز عن فهم هذا الإنسان أو تسقط في حكم لا يتكامل معه.

إن القرآن استعمل كلمة خليفة بدون تعريف للتعبير عن ذلك. وهو يستعمل نفس الرؤية عندما يتحدث عن الإنسان مقارنة بالكون.  ــ ففي سورة الشمس هذا الإنسان على خلاف بقية المخلوقات حيث تقدم كلها معرفة “الشمس، القمر، النهار… والليل “إلا الإنسان يولد غير معرف وهو صاحب تعريف نفسه: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها. كيف يتمكن الإنسان من تعريف نفسه؟ ما الذي جعل الملائكة يقتنعون بخطأ حكمهم؟ ما الذي جعل من الإنسان إنساناً؟ إنه العلم… ربنا سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها[4]، فالإنسان له قدرة على تعلم الاسم وعبر الاسم يستطيع التحرك لتحقيق مشروعه. والاسم هو تعبير عن قمة معرفة ما وتتويجاً لرحلة بحث طويلة قاومت الخطأ وحاصرته بشكل مستمر. والممارسون لمهنة البحث العلمي يعرفون معنى الاسم وصعوبة الوصول إليه. وفي خط النبوة كممارسة لرحلة طويلة تعمل لمعرفة الاسم الأعظم: الله، يقدم الله سبحانه وتعالى من خلال أسمائه. فالإنسان يصير إنساناً بقدر تجلي تلك الأسماء الحسنى فيه وتحولها إلى تطلع دائم لروحه: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}. وبرغم أن الإنسان يخلق من طين لازب يستطيع عبر قدرته لتعلم الاسم أن يتقرب من الله… بشكل يتكامل مع طبيعة الإنسان التي تقترب من الله عبر قدرتها على تعلم الاسم وتمثل مقتضيات هذا العلم في الفكر والسلوك. فالإنسان يقترب من الله في مشروع ورحلة طويلة عبر تعلم أسمائه وتؤدي هذه الرحلة إلى وصول الإنسان في أعلى سلم المخلوقات حتى تسجد له الملائكة وقد تمكن عبر دعوة الله بأسمائه الحسنى من السجود إليه. وفي التجربة الأولى التي تمثلها قصة سيدنا نوح مع قومه، كانت البشرية لا تزال عاجزة عن التفريق بين الكفر والكافرين والإيمان والمؤمنين وقد تم لخط النبوة تجاوز هذه المرحلة مع إبراهيم والتي يتجاوزها القرآن وهو يتحدث عن غرق ابن نوح حيث يجعل ذلك مرتبطاً مباشرة بعمل غير صالح مؤكداً على الدور الذي يقوم به الإنسان في حياته. حيث يحدد العمل حقيقة الانتماء وليس النسب البيولوجي عندما يؤكد القرآن على أن الذي حال بين نوح وبين ابنه هو عمل غير صالح.

ولكن هل انتهى مشروع الإنسان عند هذا الحد حيث لم ينجُ مع نوح غير المؤمنين؟ القرآن يقول لا، حيث يجعل من تلك التجربة بداية جديدة خاضعة هي الأخرى لرحلة الخلافة حيث يقول الله بعد سرد تلك القصة {وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المكذبين} استخدم خلائف أي أن الإنسان أو الجيل الواحد لا يمكنه تحقيق هذا المشروع لوحده والعقوبة مهما اشتدت تبقى محدودة بتنبيه الإنسان بأمانة تحققه وأخذ موقعه من الله، فهي لا تبحث عن إنهائه وانما مثلها كمثل تلك الخطوط التي تساعد على السير داخل الطريق السريعة التي تذكر بأهمية السير وسرعة الوصول وأهمية الزمن وأهمية اعتماده في سير غير عابث. وليس غريباً أن يسمي القرآن أحكامه حدوداً تنظم حركة السير إليه عبر طريق واسع سماه شريعة. والاهتمام بالسير جعل من الصراط المستقيم دعوة لا تصح ركعة من صلاة بدونها. وهو اهتمام بالسير الجماعي حيث يلتزم المصلي وإن صلى بمفرده بطلب الاهتداء للصراط المستقيم بلفظ الجمع. إذن عوض أن نتوجه لإيجاد حل نهائي في جيل واحد يجب أن ندخل في تجربة من جيل لجيل لتحقيق هذا المشروع الذي يتحقق مع الزمن ويتجاوز عمر الفرد فنتعامل مع السابقين والأجيال اللاحقة كتواصل واستمرار لخبرات السابقين حتى تكتمل معرفة الإنسان بنفسه مع الزمن بعكس باقي المخلوقات. فالخلافة بالدرجة الأولى تعكس السير والحركة التي تعتمد التواصل والعلم وتلتزم بالكون كمرجع للحركة والوحي كمرجع للوجهة، ذلك الفعل من أجل دعوة الله بأسمائه ودوام الاقتراب منه.

أي اجتماع جديد

إذا نظرنا إلى السنة كتجربة للإنسان يعدلها الوحي بشكل دائم ومباشر، يمكن أن نصل لما سبق من خلال دراسة السيرة النبوية. يمكن أن نقسم البعثة إلى مرحلتين المرحلة الأولى منها أو ما يعرف بالفترة المكية كان توجها لإعادة صياغة أسس الحياة الإنسانية على أسس جديدة ترى الإنسان إنساناً بقدر ما استطاع أن يحقق من إنسانيته عبر اقترابه من الله. من هنا فصاعداً لا المال ولا الجاه ولا القرابة الدموية هي التي تقاس بها الأمور ولا هي المحقق للنجاة. {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب}. فأبو لهب وهو رمز العلاقات السائدة بمكة المستريحة للأوضاع السائدة التي حيكت كلها حول التفوق العرقي والمادي يجب أن تتغير إلى علاقات من نوع آخر. هذه العلاقة الجديدة تجعل الكسب النوعي والمسؤول هو المساعد على النجاة. وهي علاقة تجعل من الكسب آية تعكس كيف عرف الإنسان نفسه. تبدو هذه العلاقة الجديدة غير خاضعة للنقاش في سورة عبس حيث التزكي هو الأصل الذي يخضع له نظام الأولويات. أي أن البيت الذي بني للناس يجب أن يعود للناس. البيت الذي جسد رؤية الإسلام الكونية لغاية الاجتماع الإنساني وحركته نحو قمة التحقق، نحو عرفة. البيت الذي جسد موقعه بواد غير ذي زرع أن الخطر على الإنسان ليس التحدي الذي يواجهه وإنما الخطر ألا يعرف الإنسان نفسه وقد عرف ربه الذي أودع فيه إمكانية الوصول إلى مستوى من تجلي لروح الله فيه يجعل الملائكة تسجد له. البيت الذي ترمز إقامة القواعد منه إلى إقامة القواعد من الإنسان الجديد الذي لن يتخذ ضعفه حجة على عدم الخروج منه مهما اشتد هذ الضعف الذي رمز هاجر ورضيعها إليه كما رمز خلاء الواد من الزرع إلى شدته. كانت مهمة محمد r تحرير روح إبراهيم، إعادة صياغتها، إتمامها وإشاعتها للعالمين. وبكلمة أخرى مسؤولية إعادة البيت للناس. فقريش وهي تعي انتماءها العرقي لإبراهيم حولت هذا الانتماء إلى قيمة يجعل منها متعالية على الآخرين.

 فروح إبراهيم المشتاقة إلى الأفق المبين الرافضة لكل أقزام الآلهة المعيقة لحركة الإنسان نحو الأعلى. تلك الروح التي لا تحب الآفلين، وقع تحريفها لتجعل من الأصنام مصدراً للارتزاق واستغلال الناس. أي أن قريش لم تسرق البيت من الناس فحسب بل عمدت فسرقته من الله. فهو بيت الله وبيت الناس كذلك ولا يمكن سرقته إلا إذا تمت لكلاهما. لم يكن من الممكن إعادة البيت إلى أهله بدون كنس المفاهيم التي جعلت من تلك السرقة عملاً مشروعاًً.

تقدم سورة الأنعام الصورة الأصلية التي تعرف بإبراهيم كمقاوم للأصنام مهما اشتدت المصالح وكثر الربح من وراءها وإن كان آزر هو صانعها. وأما محمد فقد تجسد القرآن في أخلاقه فصار نقمة على الأصنام ومروجيها. يعرف إبراهيم من خلال روحه المتطلعة لما هو أكبر، الرافضة لكل ما يعيق حركة الإنسان لما هو أعلى. يجسد محمد ذلك وهو يقول: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه”.

إلا أن التفوق الإبراهيمي وتسامي روحه تدفع بالرفض إلى مستوى أكثر خطورة ألا وهو وعي ضرورة استقلالية مرجع الوجهة حتى لا يتحول في لحظة من اللحظات إلى عائق يعيق تطلع الإنسان وحركته إلى أفق أوسع عبر رحلته الطويلة في اتجاه الأفق المبين: {لئن لم يهدني ربي لأكونن من الضالين}. تلك الروح التي تجعل من النبوة التجربة البشرية التي وضعت على عاتقها إدخال مرجع الوجهة للعالم. يجسد محمد تلك الروح وهو يعد نفسه للقول الثقيل، الوحي في حالة الاكتمال أي مرجع الوجهة المطلق وهو في مستوى من الالتزام به يجعله تجسيداً له حيث يوصف من أقرب العارفين به بأنه كان قرآناً يمشي على الأرض، كان خلقه القرآن. فالذي يحدد الانتماء لإبراهيم هو الرحلة والسير المشترك الطامح والعامل لمكانة أعلى وأكثر قدرة على الإبصار متجهة دوماً نحو أفق أكثر رحابة وتبياناً. رحلة تجعل من الكون مرجعاً للفعل ومن الوحي مرجعاً لوجهة ذلك الفعل. رحلة طامحة لتحويل ما حدث إلى عبرة تساعد على اقتحام العقبات المتتالية التي تعترض طريق الإنسان الكادح إلى الله. رحلة تجعل من العمل على الاكتمال الأفقي، الإسراء، عملاً لا يقل قيمة من الاكتمال العمودي حيث سدرة المنتهى عندها جنة المأوى. ذلك المسير الذي يضيف إلى رفعة التسامي العمودي لهاجر الذي فجر زمزم منهياً بذلك تحدي واد غير ذي زرع للحياة، رحلة الشتاء والصيف كتسامي أفقي مقاوم للموت.

النصف الثاني من البعثة أو ما يعرف بالمرحلة المدنية جعل من الهجرة أمراً لا خيار فيه حيث ضرورة إكمال المهمة في مقاومة نوع آخر من التحريف للخط الإبراهيمي، تحريف أكثر خطورة. حيث يشترك اليهود مع أهل مكة في الانتماء العرقي لإبراهيم واعتماد ذلك كعقيدة للتعالي على الآخرين تحدد الانتماء إلى إبراهيم بشكل عرقي متوارث يشرع الاستعلاء. فلئن سرقت قريش بيت الله من الناس وحالت بين الله والناس عبر أصنامها المتعددة فإن اليهود سرقوا الله من الناس وتحول يهوى إلى إله قومي معاد للأغيار.

وأما مرجع الوجهة فقد وقع ضمه إلى الإرث القومي الذي لا علاقة للآخرين به وهو ملك يدعو للتفاخر وحجة يمكن اعتمادها لتأكيد الاستعلاء وعدم الحاجة إلى اتباع غيرها لتضرب رحلة الاكتمال. لقد قضى سجن المصلحة في كلا الحالتين على المسير نحو الأفضل كأصل للحركة. بل همش السير واستبدله بصنم الاستراحة من كل ما يمكن أن يجعل من الإنسان إنساناً.

 وإذا نظرنا لأول ما نزل من القرآن بالمدينة وجدناه أطول سورة حيث تعالج عقيدة امتلاك الحقيقة وتجعل الفلاح مرتبطاً بالإيمان بالغيب أي الاقتراب الدائم من الحق وليس اعتقاد امتلاكه. فالسير هو الأصل وتطلع الروح الجديدة هو الصراط المستقيم المساعد على سير أكثر فعالية إلى الحق. بروح إبراهمية رافضة للأفول. تلك الروح التي تمكن الإنسان من التخلص من الاستعباد بشكل دائم مهما كان تعالي الموقع الذي وصل إليه عبر كدحه إلى الأعلى.

إن محمداً لا يعرِّف بروح إبراهيم ويكشف عن حقيقتها فحسب وإنما يقوم بإشاعتها ويعلمها حيث يصنع إنساناً ومجتمعاً جديداً. تلك الروح التي قاومت عسف قريش حيث يتحرر بلال من خلالها من العبودية المادية وقد عرف أحد أحد. وأما بالمدينة فإن التحرر صار مشروعاً متواصلاً لا يتوقف كما يجسد بلال وهو ينادي للصلاة: الله أكبر. كما ترمز القمة التي ينادى منها للصلاة إلى أن تلك الروح صارت رافضة للتوقف تحيي على الصلاح، تحيي على الفلاح تذكرها أعلى قمة وصلت إليها بالله ليكون ذلك دافعاً لا ينضب لمواصلة رحلة الاكتمال، رحلة التحقق.

يعاد صياغة معنى الانتماء لإبراهيم على أساس جديد لا علاقة له بالدم حيث يقرر قرآن المدينة {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} ومن هنا يشاع إبراهيم كما أشيعت روحه. وقد أشيع الله من قبل فهو ليس إله خاص وإنما هو رب العالمين ليس معاد للأغيار وإنما هو رب الناس، ملك الناس، إله الناس. ويقابل ممارسة {ليس علينا في الأميين سبيل} العاكسة لعقيدة الاستعلاء، ممارسة وعقيدة نقيضة لها: {هو الذي أرسل في الأميين رسولاً منهم}. وأما القبلة فسوف تنتقل إلى البيت الذي أعيد للناس من قبل. وأما النبوة فسوف تعرف كمشروع أول من حقق تحقق الإنسان الكامل حيث يصل محمد إلى موقع لا يستطيعه أعلى الملائكة.     

ومن هنا يقدم القرآن النبوة كمشروع يكتمل فهمه واستشراف آفاقه مع الزمن ويطلب القرآن من المسلم الإيمان الأنبياء والرسل بلا استثناء وبهذا ينظر للنبوة كامتداد إنساني يتحقق مع محمد في المستوى الفردي ليبدأ رحلة تحقق جديدة يكون فيها التحقق الفردي أسوة هادية للتحقق الاجتماعي. أي أن اكتمال الوحي كمرجع دائم للوجهة يجعلنا نعيش تحدي إخراج الأمة الرسول وقد تحقق الفرد الرسول. فهي أمة مدعوة لتحقيق مستوى الشهادة كما حقق الرسول ذلك وبتعبير القرآن: …{لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}.  فهي دعوة لتحقق السجود في المستوى الاجتماعي بعد علم تحققه في المستوى الفردي عبر رحلة النبوة كإمداد زمني للفرد الرسول الذي تطلب تحققه آلاف السنين مع أعلى مستوى للخلافة حيث تواصل التصديق والهيمنة حتى الاكتمال.

ومن هنا كان محمد r خاتماً للنبوة وتحققاً للإنسان الكامل قاب قوسين أو أدنى في أعلى مكان في سدرة المنتهى فهو بهذا يمثل نهاية في مستوى التحقق الفردي وبداية لتحقق المشروع في المستوى الاجتماعي ويعيش النبي الكريم لتحقيق معنى النبوة وتحويلها من بشر رسول إلى أمة تبليغ ودعوة. وقد اعتمد تحرير خط النبوة كفرد لتحقق الإنسان الساجد لله على الخلافة لتحقيق ذلك ويذكر القرآن: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهدى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب }.[5] فالنبوة هي أعلى مستويات اتقان الخلافة لتحقيق مشروعها ولذلك كانت النبوة سباقة في تحقيق الخلافة وشاهدة على إمكانية تحقيقها. فإذا نظرنا إلى حياة الرسول r وتتبعناها بمكة والمدينة عرفنا كيف جعل الأمة تقوم بتلك المهمة.

نحن هنا أمام ولادة أمة والفرق شاسع بين إدارة أمة وتوليدها. فالولادة تعكسها الأرض بشكل دائم التي إذا أنزل الله عليها الماء وهي هامدة اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. وأما إدارتها فهي تعكس مستوى آخر من التدخل لجعل ذلك النبات أكثر ابتهاجاً إلا أنها تبقى لاحقة للولادة وغير محدثة لها. لقد كانت تلك الروح، روح الله أكبر التي تمكن محمد من تمكين اجتماعه منها هي ذلك الماء الذي اهتزت له أكثر الأراضي جدباً وأقلها عطاءً إلى أن أصبحت قبلة تتجلى فيها عظمة الولادة وعظمة الإنجاب حيث حولها فن الإدارة إلى خير أمة أخرجت للناس. ومن هنا لم يكن غريباً عليها أن تختار الخلافة كاسم يعرف بدورها الذي بدأ مع تحقق الإنسان الكامل مع محمد أسوتها. فهي لم تختر ذلك لتكون خليفة عن الله الذي نهى عن ذلك أبو بكر كما ذكر ابن خلدون[6] هو يقول لست خليفة لله ولكني خليفة رسول الله. وهو الذي أكد أن محمداً دال وداعية إلى الله وسبيل السير إليه وليس منهياً لذلك عبر قولته الشهيرة: “من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”. هي تسمية لا تقل وعياً عن الحدث الذي سوف تختاره تلك الأمة لتبدأ تاريخها. فهي أمة تعي الهجرة على أنها لحظة ولادتها، لحظة هي صاحبتها ولحظة تعريفها عبر تلك الروح، روح إبراهيم المكتملة مع محمد: الله أكبر.

روح تعي السجود كمشروع تعمل جاهدة لتحققه، تسمي معابدها مساجد حيث يعلم الإنسان فن السير في رحلة السجود وحيث ينظر إلى الأرض كمكان لتحقق ذلك السجود حيث العمل الجاد لتكون مسجداً وطهوراً. وكما رأينا عندما توفي النبي r وهو إمام وهو مذكر وليس مسيطر نجد هذه الأمة بعد وفاته r تختار اسم قائد لها وهو خليفة ولم تختر سلطان أو إمبراطور، وتسمي ذلك المنصب الإمامة العظمى كذلك فهو يعكس روح هذه الأمة التي وعت أنها صاحبة مشروع لم ينته بوفاته r، وإنما عليها أن تجعله ممكناً عبر التأسي به ومواصلة مشروعه ليتحقق في مستوى الإنسانية ككل فاختيار الخلافة إذن يعكس المسير المشترك نحو تحقق الأمة الكاملة الأمة الرسول.

فكما رأينا أن الإنسان غير معرف وهو صاحب تعريف نفسه رأت هذه الأمة أن لحظة تعريفها تبتدئ مع لحظة هجرتها أي ولادتها. إذاً نحن أمام أمة على درجة كبيرة من الوعي تجعل ميلادها مختلفاً عن الولادة البيولوجية فهو ميلاد يرتبط مع بداية دورها في هذا الوجود. ومن ناحية أخرى هي أمة تخضع مصطلحاتها لرؤيتها المعرفية للوجود ككل. فهي عبر اتخاذها يوم الجمعة عيداً لها تؤكد أن الخلاص لا يمر عبر خزائن الأرض وإنما عبر قدرة الإنسان على محافظته على إنسانيته وقد أحاطت به الأشياء من كل جانب.

وبطبيعة الأمور فمن السهل أن نلاحظ أن يوم الجمعة بالمدينة هو يوم سوقها الأسبوعي حيث لا عمل يوم السبت في المدينة فهو يوم سيادة السوق وسيطرة روح التجارة على الموقف. يأتي الإسلام فيضيف للتجارة الوجهة ويخضعها لروحه الجديدة لينادى الله أكبر محيياً على الصلاح والفلاح مناد للصلاة معطياً لها إسماً خاصاً: صلاة الجمعة. فهي صلاة لا تثق بالسوق ليحدد مصير الإنسان ولا تجعل منه إلهاً على الإنسان الخضوع لقوانينه وإنما ترى منه تهديداً لإنسانية الإنسان إذا لم يخضع لمرجع الوجهة المطلق ويعمر بإنسان مسيطراً على مصيره عارفاً بموقعه كسيد في هذا الوجود واع بخطورة خضوعه لغير الله. فهي الصلاة الوحيدة التي يجهر بكل ما فيها في قارعة النهار وتتطلب من يخطب في الناس لمقاومة الحرب التي أعلنها السوق. ليس ذلك من أجل أن تدير ظهرها للعالم ولكن من أجل عودة إلى سوق من نوع آخر، سوق هي صاحبته خاضع لوجهة حركتها نحو الله حيث يؤمر بالانتشار في الأرض وقد صار السوق ملكاً لها وليس ملكاً عليها. وهي تلك الروح والفكرة التي سوف يعتمدها علم العمارة الإسلامي لاحقاً حيث يخضع السوق وبشكل دائم للمجسد الذي يتوسطه.

 ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام أمة جديدة قادرة على إنتاج بدائلها ولغتها ومصطلحاتها لتعكس بشكل فني راق رؤيتها وروحها الكادحة إلى الأعلى، الأعز، الأقوى، الأقدر، الأكبر، الأعلم، الأرحم… وكل ما تذكر به الله التي تدعوه عبر أسماءه. الاختيار نوعي ويعكس رؤية شاملة ويمكن رؤية ذلك وبسهولة في مواقف هذه الأمة الجديدة المخرجة للناس. فعلى سبيل المثال لا تتحدد آيات كتابها بالترتيب الزمني وإنما يحدد موضعها البناء الكلي له، فهو بناء خاضع لعلم ورؤية كما يخضع الكون المقابل له وبتعبير القرآن نفسه لا يقل موقع آياته من بعضها علماً عن مواقع النجوم من بعضها لتجعل من الكون إبداعاً متماسك كما تجعل الآيات من القرآن إبداعاً متماسكاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن هنا ارتبط فهمه باتباع بنائه: {إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فإتبع قرآنه}. حيث يضمن ذلك المنهج بيانه: ثم إن علينا بيانه. مثل ذلك كمثل الحجارة المستعملة في بناء بيت حيث لا يهتم البناء بتاريخ وصول كل منها وإنما ينصب تركيزه على موقعها من البناء. ونفس تلك الروح والرؤية التي ترى النبي r وهو آخر الأنبياء إماماً لجميع الأنبياء يجسد ذلك وهو يؤمهم في احتفال الإسراء.

الخلافة- الإمامة: الصلاة نموذجاً

تشكل العبادات كما يعكس اسمها داخل منظومة ما رؤيتها إلى الوجود وتطلع روحها إلى الخلاص من العوائق المحيطة والمعترضة لذلك التطلع. فالعبادات تشكل الطريق المعبد الموصل لذلك. فبوذا، مثلاً، المختنق بسجن القصر يرى خلاصه في الخروج الاقتداري من العالم المؤدي للتخلص من آلامه عبر معانقة النرفانا. حيث تعكس القمة من حيث تمارس العبادة رغبة الخروج من هذا العالم والهروب منه. كما تعكس الصلاة عند موسى وعي الاستقامة كضرورة من أجل التخلص من سجن الاستعباد غير واعية بخطورة سجن خزائن الأرض الذي من المحتمل أن يكون وراء ذلك الاستعباد نفسه حيث تقوم أقلية وبشكل دائم بالهيمنة على اقتصاد إمبراطورية ما في لحظة مرورها بمرحلة الحضارة[7] حيث السوق والتجارة واللذة والقوة هي الآلهة الجديدة التي تحاصر الإنسان وتخنقه إلى حد الموت. وعند عيسى يمكن رؤية كيف يبحث السجود من سجن الحضارة وطغيان عالم أشياءها وتركز العبادة على أهمية التخلص من ذلك حيث يجسد عيسى نفسه عبر ولادته مقاومة لطغيان المادية الذي لا تحتاج أمه مريم لرجل من أجل جعل ولادته ممكنة. وبتعبير القرآن: {روح منه... }.  فعيسى نفى الإيمان به مع الإبقاء على الخضوع للمادية حيث تعجز عن فهم مولده كما يعجز معتقدو الخلاص في خزائن الأرض عن رؤية الخلاص مع عيسى حيث يحرمون الجنة.

إن بإمكاننا عبر دراسة العبادة عند أمة ما أن نتعرف على روحها التي أخرجتها إلى الوجود كما يمكن أن يساعد ذلك من معرفة الرؤية التي تتحرك من خلالها وكذلك مشروعها وكيفية تصورها للخلاص… وإذا تعاملنا مع النبوة كخط ومسيرة واعية ملتزمة بمشروع الإنسان وكماله عبر رحلة الكدح الطويلة إلى الله. وتعاملنا مع الختم كاكتمال للوحي وليس انقطاعاً له، وكاكتمال لمشروع إخراج الإنسان الكامل الفرد الأسوة ورأينا من خلال ذلك اكتمال العبادة باكتمال الروح التجربة النبوية يمكننا أن نرى النبوة ومشروعها من خلال دراسة العبادة بمرحلة محمد. سوف نعرف إلى أي مدى أننا أصحاب دين عظيم ولكن العادة وعدم التفكر تحول بيننا وبين معرفته واكتشاف عظمته وإمكانية انعكاس ذلك في حياتنا.

سوف أكتفي هنا بالنظر إلى عبادة الصلاة بما يهم موضوعنا حيث قامت النبوة بهندسة رؤية التوحيد للحياة عبر تجربتها الطويلة لتقدمها لنا متينة العرى وثيقة البنى عبر العبادات مع محمد r. والسؤال الذي أريد أن أطرحه هنا ونحن نتحدث عن مفهوم الإمام هو أي دور في حياتنا يمكن أن يصل إلينا من الرسم الذي قدمته النبوة عبر عبادة الصلاة؟ ربما لم نتساءل قط حول ذلك من قبل ولكن حان الوقت لنتساءل ونقاوم سجن العادة الذي أحاط بنا من كل جانب من أجل أن تعود إلينا إنسانيتنا ومسؤولية الشهادة المناطة بعهدتنا.

وكما رأينا أو يمكن أن نرى في أسماء الله الحسنى أن الإنسان يعرف عن الله أثناء رحلة “دعوته بها” أي باتباع منهج جديد ورؤية جديدة للحياة التي تبدو كرحلة والإنسان كمسافر في رحيل دائم مقترباً من الحقيقة أو مبتعداً عنها. داخل هذه الرؤية تدفع الصلاة بشكل دائم المسلم للاهتمام بالسير وتعلق روحه بالصراط المستقيم حيث لا تصح صلاة بدون تجديد الاهتمام بذلك: {اهدنا الصراط المستقيم}. ذلك هو دعاء الإمام والمصلين سواء كانت صلاتهم سراً أو جهراً. أي أن الإسلام يعطي هنا أولية للسير المشترك لتحديد العلاقة بين أفراده. إذاً ليست القرابة ولا الجاه ولا المنصب ولا المصلحة هي التي لا تصح الصلاة بدونها وإنما عهد السير المشترك إلى الله عهد التسامي والاقتراب المستمر من الحق. فالصيرورة باتجاه الكمالات المطلقة والمسير باتجاه القيم المتعالية وتوحيد القبلة لتكون بيت الله التي هي بيت الناس كذلك هي التي توحد بين جماعة المصلين. وفي كل صلاة جماعية يقول لنا الدين عندكم أيها الناس القدرة الكافية على إخراج إمام منكم أنى كانت الجماعة. أي ينظر هنا إلى الأمة كقدرة دائمة لتوليد إمام يأمها لها حق وواجب دائم لمراقبته وتعديله بشكل مستمر. الإمام هنا تعرفه القبلة فهو إمام لأنه أقرب من القبلة أي له دور هداية الاقتراب من القبلة وتحرير الجموع من سجن الموقع الذي هم فيه مهما بدا قريباً من القبلة حيث يجسد الإمام مكاناً أقرب منه. ومن هنا كان الدعاء {واجعلنا للمتقين إماماً}. ويعلن محمد من بعد: “إنما بعثت لأتتم مكارم الأخلاق”. أي تحدي الموقع مهما بدا متعالياً كما يرمز لذلك نداء الصلاة: الله أكبر من على أعلى قمة متاحة للنداء.

إنه لا يوجد دين في العالم يثق بالناس بهذا الشكل. فالصلاة مع محمد r تبحث لتمكين الإنسان وإرجاع الثقة به ليؤدي دوره. والإمام كذلك ليس مهيمناً وليس مسيطراً ولكنه يدل على اقتراب القبلة. كذلك الاستواء في صفوف المصلين ليس استواءً خطياً وإنما هو دائري. أي كما حددت القبلة معنى الإمام حددت معنى الاستواء. ومرة أخرى نرى إلى أي مدى تخضع مفاهيم الإسلام إلى رؤيته المعرفية الكونية. فالاستواء ليس تباعدياً ولكنه يعكس التساوي ويبحث عن الاقتراب فلو تحركنا معه لوجدناه استواء طواف إذن فهو استواء يبحث عن كل التجارب البشرية ليأخذ منها ويستفيد. استواء يجعل من تعدد الوجهات وقد وحدتها القبلة مساعداً على معرفة سبيل الحق واتباعه. والطواف هو في اتجاه تصاعدي يبحث عن القمة عبر تعارف لا متناهي للوجهات. يأخذ ذلك الطواف الناس في مشروع تعارف إلى القمة حيث ترمز قمة عرفة لذلك. تلك القمة التي يليها رمي الجمرات الذي يخضع ومرة أخرى لرؤية الإسلام الكونية حيث يجسد رجم الشيطان وقد وصل الإنسان إلى القمة هزيمة الشيطان كتعهد دائم لإعاقة الإنسان ومنعه من الوصول والتحقق.

يتطلب الالتزام بالقبلة علم المرجع. فمن ناحية تعكس الصلاة الالتزام بالكون كمرجع للحركة يحدد الموقع من القبلة ويخضع الوجهات على تعددها إليها. كما تذكر القبلة التي هي بيت الله أنها أول بيت وضع للناس يعكس التزام النبوة وعملها لأن يكون للناس بيت.  ومن ناحية أخرى تذكر الصلاة بضرورة الالتزام بمرجع الوجهة حيث يلتزم الإمام والمصلين معه بالوحي المكتمل من أجل هداية الإنسان للاقتراب الدائم من القبلة عبر مسيرة اقتراب دائم يقدم الله فيها على أنه أقرب إلى الإنسان وهو يدعوه من حبل الوريد. تربط الصلاة مع محمد الحاضر بالماضي والقبلة بالموقع والوجهة بالقبلة ومرجع الحركة بمرجع الهداية على أساس علمي ملتزم بكلا المرجعين مهتم وسائل الهداية إلى الصراط المستقيم متطلعاً إلى مستقبل أكثر إشراقاً وإلى رحلة تكون سلاماً هي حتى مطلع الفجر. ويدل الإمام فيها إلى موقع أقرب من القبلة يمكن للناس الوصول إليه حيث يخضع الإمام كذلك لفلسفة الخلافة كلما استحال عليه القيام بدوره حيث يزود الناس المسيرة وبشكل دائم بمن يتحدى سجن الموقع ويدل على إمكانية اقتراب أعلى من الحق.

الخلاصة

ليس غريباً إذاً أن تختار تلك الأمة التي بناها محمداً، الخلافة أو الإمامة كمصطلح يدلل على وعيها بدورها. فهي أمة صنعت ولادتها وعرفت موقعها على خريطة الوجود الكبرى. فالختم عندها هو تحقق فردي يدلل على نقطة وجودها والله أكبر هي الروح الذي تذكر بعنوان حركة مجموعها. تعي الشهادة تعمل على تحمل أعبائها. تحول يثرب إلى “المدينة” مخضعة إياها هي الأخرى إلى رؤيتها الكونية التي تجعل من الاستقرار المساعد على البناء أمراً لا يقل قيمة من الاستعداد الدائم للرحيل. فلله عندها في الدنيا وجود يساوي وجوده في الآخرة. تفسر عندها الله كل ظاهرة من مادة كما تفسره ظاهرة من غيب. فهي أمة يعكس التزامها بمرجع الحركة والفعل التزامها بمرجع الوجهة التي تتطلبها كل حركة ويحتاجها كل فعل من أجل أن تشرق البسمة على شفتي الفجر الذي تبدأ منها رحلة سلام هي حتى مطلع الفجر. روحها الله أكبر حيث يتجلى التمرد والثورة على كل أقزام الآلهة وحيث التطلع الدائم إلى العلى، إلى قيم متعالية وولادة مجتمع جديد حيث تتجلى فيها إرادة الله الذي قرر أن يجعل في الأرض خليفة وأن الأرض يرثها عباده الصالحون. هي أمة تهب لعلمائها المسؤولية، كما تهب العلم للمجاهدين والحياة للأموات والنور للأحياء واليقظة للغافلين والإرادة للمستيقظين والقوة للضعفاء والجرأة للخائفين، تخضع إنتاجها وعملها لمشروعها الملتزم بالناس، همها التصميم والاستعداد للفداء من أجل التحرر ومعانقة سدرة المنتهى. ومن هنا يبدو لنا كم هو سخيف ذلك الرأي الذي يخلط بين علم إدارة أمة وفن توليدها. ويبدو أكثر سخفاً منه ذلك الرأي الذي يخلط بين صنع أمة حية لمصطلحاتها وأسمائها وبين قدرة تلك الأسماء لوحدها على صناعة تلك الأمة.

10-1423 هـ / 12-2002 م


[1] بن عاشور، التحرير والتنوير.

[2] سورة البقرة آية 29

[3] سورة البقرة آية 30

[4] انظر سورة البقرة الآية 31.

[5] سورة ص آية 26.

[6] مقدمة ابن خلدون المكتبة العصرية، بيروت الطبعة الثانية 1420 هـ- 2000م. الفصل السادس والعشرون: في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه: ص178.

[7] الحضارة هنا تفهم داخل الرؤية الخلدونية كمرحلة طغيان لعالم الأشياء نتج عن رحلة طويلة جعلت من ملذوذ العالم وترفه غاية لها أدت في النهاية إلى خروج العمران إلى الفساد حيث يفسد الأنسان في قدرته ثم في أخلاقه ودينه. أنظر على سبيل المثال المقدمة، المرجع السابق، ص 344 الفصل الثامن عشر: في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده.