العالم اليوم وعدالة القلق

2٬700

أصبحت العدالة «أيقونة» العصر الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، والنفسية خاصة، فلا تجد كاتبًا أو مثقفًا أو سياسيًّا، أو بورجوازياً أو فقيراً حتى لو كان في غاية الرفاه أو في غاية الخصاصة في حياته وسبل عيشه، إلا ويطلبها كحق وتفرض عليه منحها كواجب. لكن العدالة اليوم وكأنها تحولت إلى مصير وحتمية تنزل تنزيلاً من السماء قادرة على فعل الأعاجيب، قادرة على انتشال جذريّ للأنظمة السياسية والمجتمعات، من كابوس الاستبداد إلى الاستسلام للحاضر المُقلق والمصير المشترك. ولم تعد العدالة تحضر في مفهومها الكلاسيكي كالحق في الحرية والكرامة وحقوق الإنسان؛ هي حقوق وحريات محمودة يطالب بها الفرد إلى أن ينتهي أجله ومدة صلاحيته كإنسان وإلا سيتحول إلى لا إنسان، هي عدالة يطلبها البشر في فترة حياتهم. لكن هناك عدالة ينبذها الإنسان لأنّها تتجاوز مطلبه في الفترة التي يعيشها من هذا الزمان.

 “وما نيل المطالب بالتمني” هكذا كتب أحمد شوقي لكن المفهوم الحصري للعدالة اليوم ليس مطلباً ولا تمني لأمر متروك، وليس مطلوباً مذموماً ولا محموداً.

والعدالة التي ينبذها البشر اليوم بضرب من النية الأنانية هي العدالةُ في القلق بالمعنى النفسي المُتحدث عنه. والقلق بما هو حالة نفسية فسيولوجية، هو مرضٌ وهو حالةٌ تتسمُ بالحيرة والاضطراب والارتباك إزاء ما يحدث، وهي حالةٌ تخلق شعوراً غير سار عادة ما يرتبط بغياب الارتياح، الرعب، والخوف. وقد يكون القلق فردياً ذاتياً وقد يكون عاماً والقلق المعمم اليوم هو الذي يحكم العالم؛ في المجال السياسي، بوصفه قلق الكل من أجل الكل وبسبب الكل، بمعنى أن عدالة الحيرة والقلق هذه لا تستثني فرداً أو جماعةً أو حزباً أو دولةً أو إقليماً أو حضارةً أو اتحاداً، الاتحاد هنا هو اتحادٌ نفسيٌّ جماعيّ، والعدالة بهذا الصدد قد تكون نتيجة فساد يحوم حول العقل البشري (حروب، صراعات، إرهاب، اقتتال، فتن) وقد تكون ناتجةً عن صفةٍ إلهية، صفة العدل؛ العدلُ في الضراء والبؤس والقلق والألم ما ينتج عنها عدالة في الألم النفسي ليكون المصاب كلياً جامعاً.

ولكن العدالة بهذا المعنى أَضحتْ الحق المنبوذ، فلا تكتمل العدالة الإلهية إلا في الحالة هذه، فلم تعد مجرد قيمة نسبية بل تحولت إلى نظامٍ يحكم الكون، ولم تعد قاصرة على مطالب اجتماعية وسياسية وحسب، بل أصبحت مرتبطة بجوانب نفسية تخلو منها الطمأنينة.

أما البؤس الذي أصاب البشرية اليوم، هو فرعٌ أو جزءٌ من الأزمة النفسية، هي ببساطة مجموعة الآلام والانتكاسات التي تشهدها مجتمعات اليوم.

تتحدد طبيعة الذات البشرية وبنيتها في أي مجتمع بالانفعال، مثل انفعال الخوف ثم القلق. وتأتي عدالة القلق عندما يُدرِك العقل الجمعي طبيعة ما يحدث وما هي الانفعالات المهيمنة على المجتمعات، والمشاعر التي تقيدها. إن استمرارية أي حربٍ سواء أكانت بيولوجية أم سياسية أم اجتماعية، مرهونة بطبيعة الذات البشرية والعلاقة بين الإنسان والنظام الكوني، والثقافة الروحية، فالسلطة المهيمنة هنا هي سلطة القلق المدعمة لوجودها في الإدراك العقلي والنفسي.

إن البيولوجيا والتركيبة السيكولوجية للإنسان لا تعترفان باللا-عدالة، فالعدالة معممة هنا ولا يمكن أن تنجح وتستمر في بلد دون آخر.  الشعوب اليوم كلها متساوية في المعاناة والآلام إما لأسباب داخلية أو خارجية.

يقول ابن خلدون إن العدل أساس العمران فلئن اتفق ابن خلدون مع الإغريق قديماً في ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، فإن العدالة المنبوذة اليوم لا يمكن أن تكون مبدأ اتفاق بين البشر من جهة أنها لن تكون مطلباً وحقاً، فكل ضروب المساواة منشودة إلا أن نتساوى في القلق والبؤس. ما نعيشه اليوم من أزمات سيكولوجية هو نتيجة حاسمة لما يحدث وما هو كائن من حروب، صراعات، نزاعات، فتن، وأمراض… هي عللٌ وأسبابٌ تمخضت عنها عدالة منبوذة متروكة ألا وهي العدالة في التعاسة؛ كل البشر تعساء وبؤساء.

ربما المشاركة والاشتراك في القلق يخفف من حدة البؤس، وهو أمرٌ جوهريٌ بالنسبة للبشر، فمفهوم مثل «القلق»، وهو مفهوم علمي نفسي، له وجود في القاموس السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، والثقافي بل وربما يتموضع ضمن حقل دلالي مخصوص مثل: الحيرة، البؤس، التعاسة، التوتر، التأزم، الخوف، الهلع، الفزع، الرعب، الكارثة، الحزن، الارتباك وغيرها الكثير من المفاهيم التي لا تقل أهمية عن مفهوم القلق.

 الأرض برمتها قائمة اليوم على «القلق» بمعنى أن القيم الإنسانية اندثرت ولم يبق سوى آثار للقيم اللا-إنسانية، مثل قيم القبح والفظاعة…. تلك القيم المسؤولة عن واقع حال الكرة الأرضية بعد القدر، المسؤول الأول. ومن البدهي أن يشعر الإنسان بالقلق أو بالفزع اليوم في هذه الوضعية خاصة فيما يتعلق منها بالسياسية والصحية والاقتصادية.

خلاصة الأمر، غيّر القلق الذي يشهده عالم اليوم خريطة الصحة النفسية. وأية محاولة لمعالجة هذه الحالة المرضية في المجتمعات تُعد محاولة فاشلة، فالإنسان مقدرٌ له أن يعيش تعِساً شقياً إن جاز لنا أن نسميه “الشقاء الأبدي”، مادام ثمة كبت في الحضارة. وهي حقيقةٌ لا شكّ فيها، لأنّ السعادة الأبدية للبشر ليست موجودة ولم توجد ولن توجد أبداً، هي مطلبٌ ميتافيزيقي منشود قبل أن يكون مطلوباً.

يمكن القول، إنّ القلق كداء العصر مما اتفق حوله علماء النفس والاجتماع، فالإنسان المعاصر بات في حال يحتاج فيه إلى الهدوء والوقت حتى يستطيع استيعاب ما يحدث من حوله ومعه.

لكن ليس كل قلق مقلق، تقول بعض الدراسات إن ضروباً من القلق قد تكون مبدعة خلاقة لأسس فكرية جديدة، فشدة القلق في أغلب الأحيان تؤدي إلى أفعال إيجابية محفزة على التفكير والاكتشاف والتخطيط، لتكون النتائج أنبل وأعظم.

حتى نوجز ما هو موجز، البشرية اليوم في حاجة إلى دروس نفسية روحية، بل وقيمية وتتمثل أولى الحلول في الثورة على أنفسنا وفي إصلاح ما هدمته الأزمات الواقعية في أحاسيس البشر ومشاعرهم، بالتالي ما خلفته في انفعالاتهم لأنّ القلق يبقى انفعالاً والانفعالات متغيرة وفق ما يحدث وما يشعر به الإنسان، خاصة وأن الهاجس الذي يلازمه هو هاجس الكينونة والوجود، أيّ تلك الكيفية التي يكون فيها الإنسان إنساناً بالمعنى الحقيقي.