الفنّ والإنسان، الضحك والسخرية نموذج واقعي
أظنّ أنّ من المفاهيم التي حملت دلالات مشوّهة أو سلوكيات غير حميدة عند كثير من المسلمين ثلاثة مفاهيم الفلسفة والتصوّف والفنّ، أما الفلسفة فتمّ تجييرها إلى مساحات ضيقة وهي أوسع من ذلك، فأصبحت مرادفة للزندقة والإلحاد والشكّ لأجل الشكّ، وهذا فعلاً ما قد توصل له الفلسفة لكن ضمن سؤال الإله، إلا أنّ الفلسفة في عمومها وفي حقيقتها نظرة متفحّصة للحياة على اختلاف مناحيها، وللعلوم على اختلاف أقسامها، بل لعلّ علم أصول الفقه من أوائل العلوم الشرعية التي تدلّل على النظرة المتفحّصة للأحكام الشرعية ودلالتها، ولا يمكن أن أقرأ التاريخ مثلا دون فلسفة ما، بل لا يمكنني أن أختار بين نظام السامسونج ونظام الآيفون دون القيام بعمل فلسفي وإن بدا هامشياً، باختصار كلنا يمارس الفلسفة، وكلنا فيلسوف إنْ بالصدفة أو بالفعل.
أما التصوّف فتمّ تشويهه من أصحابه أنفسهم إنْ كان بمواقفهم السياسية أو بالسلبية وانسحابهم من الواقع وممارسة سلوكيات غريبة عن الدين أو عن الإسلام، إلا أنّ التصوّف في حقيقته مرادف لمعنى التزكية الذي جاءت به النصوص القرآنية والنبوية، التزكية بمعنى إزعاج النفس ومواجهتها بعيوبها وإرشادها لطريق التخلص من هذه العيوب لينضج فعلها في الحياة ويستقيم، وقد قلّ الخطاب التزكوي في مقابل ازدياد الخطاب الوعظي وانتشاره، وفرق كبير بينهما.
أمّا الفنّ الذي هو موضوع مقالتنا فقد بات رديف اللاأخلاقي أو المنكر في أذهان شريحة من المسلمين، وإذا قيلت كلمة فنان تبادر للذهن الرقص والغناء وأماكن اللهو، وهذا وإن كان جزءاً حاضراً من صورة الفن التي لا يمكن إنكارها لكنها لا يمكن أن تكون جوهره وفلسفته. وهنا أرغب أن أسجل بعض الملاحظات عن الفنّ عموماً وارتباطه بالدين واختلافه عن العلم:
– إن العالم الآخر الموجود إلى جانب عالم الطبيعة، هو المصدر الأساس لأي فنّ أو دين، وبرأي يبيجوفيتش لو لم يكن هناك إلا عالم واحد لكان الفنّ مستحيلاً. فنحن عندما نقرأ قصيدة جميلة أو نسمع لحناً عذباً أو نرى لوحة فنية أو معماراً مميزاً فنحن نواجه سراً بالمعنى الميتافيزيقي، هناك لمسة خاصة لا يمكن قياسها ولا تحديدها، فالمسجد ذو البناء الجميل لا يمكن أن يكون مجموع الحجارة فقط، والقصيدة لا يمكن الوصول لسرها من خلال تحليل لغتها فقط، اللوحة والمسجد والقصيدة ليست كمية ومادة فقط هي مثل الإنسان، أكبر من جميع ما تقول عنه العلوم مجتمعة.
– هناك فروق كثيرة بين العلم والفنّ، بين أينشتاين ودوستويفسكي، العلم يعطينا صورة فوتغرافية دقيقة عن العالم لكنه في نفس الوقت يجعل الحياة خالية من الحياة ويجعل الإنسان خالياً من الإنسانية، العلم يرينا الإنسان قد تطوّر تدريجياً داخل الطبيعة وكأنه نتاج لها، أما الفنّ فإنه يرينا الإنسان في صور غامضة كأنه قادم من عالم مجهول، العلم لا يفسّر لنا أسباب التضحية الأخلاقية التي يقوم بها الإنسان من أجل غيره “إن مبدأ وجود الحيوان هو المنفعة والكفاءة وليس هذا هو حال الإنسان” ولا يفسّر لنا امتلاء حياة الإنسان بالعبادات والمحظورات والمقدسات والنجاسات التي أوجدها الإنسان الأول لنفسه. إننا لا نستطيع أن نصل إلى جوهر الإنسان بمعرفة مجموع الوظائف البيولوجية المختلفة له أو بأصله التاريخي، كما أنه لا يمكننا أن نحسّ بالصورة الفنية من كمية الألوان أو نصل إلى سرّ القصيدة بالألفاظ التي تكونها فقط!
– إن من أهمّ ما يميز الفن أنه مأخوذ بمشكلة الشخصية، ودوستويفسكي كان مكثراً من الشخصيات وكأنه يقول للقارئ إنني كما يرسم الفنان الوجه والرأس أرسم هيئات الشخصيات وكلانا يريد ما وراء الوجه، كلانا يريد النفس، وهنا لا تصبح جودة الرواية من مهارتها في صناعة الأحداث فقط بل من مهارتها في رسم شخصيات متعددة تعكس نظراتنا المختلفة للعالم المحيط بنا، فرواية تولستوي مثلا “الحرب والسلام” قد وصلت إلى خمسمائة شخصية. وهنا يقول يوجين أونيل “لا حاجة بنا للأحداث فإن الشخصيات كافية”، إن الفن ‑برأي بيجوفيتش‑ يبحث عن النفس خلف كلّ شخصية من الشخصيات، ليسجّلَ بكلّ واحدة منها نوعاً من أنواع صراع الإنسان مع العالم. الفنّ يميل للشخصي والفردي أما العلم فيميل لكشف التجانس وبناء مشتركات عامة. ولعلّ الفنّ ليس إبداعاً للجميل الذي هو نقيض القبيح، لكن الجميل الذي هو نقيض الزيف، بمعنى أن الفن يبحث عن الصدق في رسم شخصية الإنسان عن الحقيقة الموجودة في العالم الآخر.
ولعلّ عجز الأدباء الإسلاميين ‑إن صحت التسمية‑ عن صناعة رواية إلى الآن بجودة عالية؛ يبدأ من تأثير مثاليتهم التي ينشدونها في هذا العالم، فيسلبون بها من شخصيات الرواية شخصياتها الحقيقية إلى شخصيات “مفلترة” نقيّة، وهذا قلب لمعيار الفنّ والدين، لأنهما ينطلقان من النفس الإنسانية في صراعاتها وتناقضاتها وهفواتها وسقطاتها وسفاهتها {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}.
لا قيمة للمبادئ والمثل العليا التي نُلبسها لشخصيات الرواية إنْ لم تقابلها عشرات الشخصيات المتمرّدة والخارجة عن المثل العليا، وهذا فيه تعزيز للدين نفسه، لأن مجرّد حضور النفس في الرواية على كافة أشكالها هو حضور للمسؤولية التي بها يكون الإنسان إنساناً مكلفاً، أما الشخصية المصفاة والنقية التي نكتفي بها فإنها ستكون أقرب إلى الآلات التي نوظّفها في خدمة مثاليتنا منها إلى جدلية الصراع الحقيقي الذي تعيشه نفوسنا في هذا العالم، وهذا يفقد الرواية حضورها فينا.
– إن كلاً من الدين والفنّ يسعى نحو العالم الآخر، نحو شيء غير مرئي، يصعب الإمساك به، يسعيان نحو السرّ، لذلك قال أحد الفلاسفة الفنّ هو ابن الدين، ومن الصلات الغريبة والملاحظة بين الفن والدين هو قلة الاهتمام بالمظاهر الخارجية وتعمّد ذلك عند بعض الفنانين، وهذا قريب من فكرة الاتساخ المقدس الموجودة عند الهندوسية والمسيحية، حيث تجد بعض الفنانين لا يهتمون بالشعر أو بالنظافة ويهملون الخارج والظاهر كما تفعل بعض الديانات.
ما زلنا نصنّف الجماليات والفنون كلها تحت رتبة التحسينيات والكماليات، وأنها شيء فرديّ نخبويّ، وهناك من يرفضها جملة، وواقع العصر يقول إنها مصنع الأفكار العامة وأداة تسويقها، ومكوّن من مكونات الشخصية الذاتية في رؤيتها وعاطفتها. قد نبالغ في قولنا “إنْ كان الطعام والشراب في رتبة الضروريات لبناء الإنسان، فالفنون والجماليات باتت في رتبتها واقعاً”، لكنّ هذا فيه كثيرٌ من الصدق الواقعيّ.
ومن الفنون التي تأخذ مكاناً كبيراً من حياتنا وانتشرت في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ فن السخرية والضحك، إن كان بالرسم الكاريكتوري أو على شكل ستاندب كوميدي أو على شكل برامج التوك شو، وأخذت في الانتشار أكثر بعد موجة الربيع العربي، وأحبّ أن أقدّم بعض الملاحظات عن هذه الطريقة في التعبير أو النظر إلى الحياة:
– من الكتب المهمة التي تحدثت عن الضحك كتاب هنري برغسون (فلسفة الضحك) ويمكن أن نلاحظ ثلاثة أشياء تميّز الضحك عموماً:
1- لا شيء هزلي ومضحك خارج ما هو بشري، فإذا ضحكنا من حيوان فلأننا قد عثرنا عليه في موقف كموقف الإنسان.
2- اللاإحساس واللامبالاة هي بيئة الهزل الطبيعية، والضحك ليس له عدو أكثر من الانفعال، فالمآسي تتحول لكوميديا بتحييد الانفعال، إذا صرنا متفرجين لا مباليين، لذلك يكفي أن تسد أذنيك عن الموسيقى في حفلة راقصة حتى يصبح الراقصون سخفاء.
3- الضحك يحتاج لصدى، إن شعرنا أننا وحدنا فلن نتذوق النكتة، فضحكتنا دوماً هي ضحكة المجموعة، وهو يحتاج لفكرة خلفية تفاهمية وتواطئية مع الضاحكين فنكات الجاحظ وأبو دلامة التاريخية قد لا تثير الضحك المتوقع لاختلاف الثقافة المعاصرة، ولذلك تكون ضحكة المشاهد أعلى كلما كانت الصالة ممتلئة أكثر بالناس، ولذلك أيضاً كانت الآثار المضحكة غير قابلة للترجمة.
-ولعل من أهم أدوار الكوميديا الساخرة أو السوداء كما تسمى:
1- الدور السياسي الناقد: لأنها تحرض الجماهير وهم يضحكون، فهي لا تلقي خطباً في انتهاك السلطة والحقوق، لأن ذلك سيكون مدعاة للأخذ والرد والصواب والحق، لكنها تبثها في النكتة الساخرة، وهذا أسهل في التلقي والاقتناع، وفي الحجاج الحديث يتحدثون عن السخرية كأداة حديثة في الإقناع. كما أنّ النكتة عند فرويد هي نتيجة للعقبات التي تحول بيننا وبين التصريح، وبذلك تلقى أذناً صاغية.
لكن هناك نوع آخر من الضحك تمارسه السلطة وتفعله لتمتص به غضب الناس، وتذيب به أي جمود في المجتمع تجاه سياسات الدولة، لأن الجمود يقلق الدولة ويهددها والضحك يقوم بإرجاع الشخص للمجتمع والذوبان فيه مرة أخرى وهناك حلقة من مسلسل مرايا تجسد هذه الفكرة تماماً (من حكايا الوالي سكجك2).
2– الدور الاجتماعي الناقد: يزعم فلاسفة الضحك أن هناك غاية أخلاقية للنكات وهي إصلاح شرور العالم، وقديماً استخدمها الأدباء ككتاب الجاحظ “البخلاء” مثلاً، فالضحك والسخرية يعزز من مفهوم العيب ويحرج الناس من أن يمارسوا سلوكاً سيئاً أو غير مقبول، ويسلط الضوء على أماكن ضعفنا ويكشف المستور.
ومن الملاحظات الغريبة على الكوميديا أنها تستقي أعمالها من الجوانب المؤسفة في حياتنا، مثل التراجيديا تماماً، ومن الغريب فعلاً أن يصبح هدف الكوميديا في النهاية تقليل عدد الأمور التي تثير ضحكنا.
– إلى جانب هذا تظهر أمامنا مشكلات كثيرة للكوميديا:
– أن الكوميديا لا حدود لها، وأكثر الكوميديين يصلون لأبواب السخرية من الدين والذات الإلهية، فالكوميديا في النهاية يصبح همها كسر الحدود.
– أنها قد تصبح أسلوباً لبناء متراس في النقاش، فأسلوب السخرية سيمنع أي إنسان عنده احتراماً لنفسه أن يدخل نقاشاً مع إنسان ساخر، فكما يقال “حتى الذي لا يخاف يخاف من السخرية”، لأن الدخول في نقاش مع أحد ساخر سيجعل المثقف عرضة للسخرية، ويمكن أن نسجل هنا أن السخرية كانت أسلوب خصوم دعاة الرسل {ولقد استهزئ برسل من قبلك}.
أخيرا أودّ أن أختم برواية لطيفة اسمها “فرانكشتاين” للكاتبة البريطانية ماري شيلي، وهي رواية قديمة جداً صدرت في عام 1818م، تتحدث الرواية عن شابّ اسمه فرانكشتاين استطاع أنْ يصنع كائناً حيّاً، لكنه اكتشف أنّ هذا الكائن صار وحشاً شريراً يقتل الأبرياء، وهذا ما جعل فرانكشتاين يستاء منه ويحاول القضاء عليه، لكنّ هذا الوحش يقتل زوجة فرانكشتاين وصديقه، ثم في النهاية يقتل صانعه.
هذا الوحش الذي قتل صاحبه يذكّرنا بكثير من الأفكار التي نفرح بها ونعمل على نشرها ثم نحترق بها آخراً، لأننا لم ندرك مآلاتها أو لأننا لم ندرك السياق المناسب لنشرها، أو لأننا لم نعمل على ضبط بوصلتها بشكل دقيق، وكذلك قد يفعل بنا فن السخرية والضحك، وقد تفعل بنا فنون كثيرة إذا لم نحسن استخدامها ونحدّ من أضرارها.