الفيلسوف والمتدين-2

130

ليس التسليم كميزة للإيمان في تقرير معارفه سوى نظرية في المعرفة تقتضيه محدوديةٌ للعقل خارج مجالاته المخصّص بنيوياً لها، ولا يمكنه بهذه البنية أن يعقل الهداية من ذاته العقلية كما يعقل الحقائق الموضوعية في الوجود. فالإيمان كما ذكرنا شرطُه العقل لدينا، فيكون بهذا الشرط عقل يَعقِل ما لا يمكن للعقل أن يعقله في ذاته بواسطة ذاته. فالتسليم هو معرفة بالحدود والإمكان وهذا شرط العقل.

لكن هذه المعرفة والتسليم بالمحدودية لا يستلزم الإلغاء الكلّي حتى فيما تكفل الإيمان بتقرير جوابه، فلا يصح أن يتضمن الإيمان محال عقلي، وهذا تحديد من خارجه كذلك، لأن العقل قيد على صحته بنفي المحال العقلي عنه، وإن كان قد يعرف ما يحار فيه العقل. فمحارات العقول ليست محالات عقلية لتجعل التسليم يبدو من جنس يفارق الجناس العقلي، وبالتالي يكون موضوعه مما يحكم عليه العقل بالخرافة والأسطرة. فنفي المحال عقلياً، ضرورة لا فكاك منها للعقل، للتسليم بصحة النتيجة التي لا يملك القدرة على فحصها كما هي في وجودها الغيبي.

أكثر الشبهات تقوم على الخلط بين المحارات والمحالات العقلية، وهذا من اللاعقل في عمل في العقل. إضافة إلى أن أغلب أصحاب أسلوب النقاش في تحصيل الحقيقة، كمنهج فلسفي يراد به عدم التسليم دون برهان، أو تقديم الشك كقاعدة عمل على أي بديهية أخري، يزعمون أنهم على حالة البراءة الأصلية في منهج البحث والنقاش، وأنهم يلتزمون بالنتيجة التي تترتب عن النقاش والبحث كيفما كانت، لأن العقل يقبل بها اقتناعا وليس تسليما أولياً. أي أنه يجب أن يستسلم لا أن يسلم حتى يكون عقلاً! وهذا نادر في تاريخ النقاش بما يجعله قاعدة ثابتة، فلم نألف في سياق الثابت تاريخيا أن القناعات نتاج الحالة العقلية الصرفة، فهذه مثالية جميلة لا مصداق لها في الواقع المعاش.

التسليم الإيماني ليس مرده القبول من جهة العلم والعقل وحدهما، فهذا شقها النظري، أما شقها العملي فمرده لجهة الإرادة المحركة للعمل، على منوال أحكام النظر، أو بخلاف ما يقرره.

وعليه تجد في واقع العمل أن هناك من تتحصل لديه القناعة العقلية ومع هذا لا يترتب عليها متابعة عملية لها في الواقع، لأن نزوع الإرادة للعمل ودافعيتها المحركة له تضعف إلى درجة العدم تحت تأثير عاملي الهوى والشهوة وهما ما يقابلان المعرفة.

لا يفهم من هذا أن الهوى والشهوة وهما من مجالات الوجدان والأحاسيس معزولتان عن آليات عمل العقل النظري، بل إنني أزعم أنهما يتواجدان في العقل كذلك على هيئة قضايا معرفية مصاغة بصياغة علمية، في حين يخرجان للعمل على شكل انفعالات وجدانية.

لا وجود لعقل كلّي متعالٍ في بنيته على بنية ظرفه الذاتي في سياق تاريخ تشكله وعمله، ليتجاوز بهذه البنية محددات الزمانية والمكانية ومسلماته المعرفية المنطوية تحت سقف المعرفة لكل مجتمع من المجتمعات، وهذا خلاف النص الديني في أصل تنزيله، فقضايا الدين الكبرى متجاوزة بحكم مصدرها إحداثيات تمظهرها التاريخي في السياق الإنساني، لكنها تضطر للعودة إلى حدود ظرفها الاجتماعي في السياق الزمنى كلما أرادت تعيين المتعالي واقعيا، ففي نطاق العمل كتدين معبر عن الدين في وعي صاحبه، والذى هو ممارسة وتطبيق، تتمثل الكليات الكبرى في المنظومة الدينية التصورية في أعيان متوضعة تاريخيا، وفى أحداث وممارسات تنضبط في واقعها على منوال سقف الإدراك المفاهيمي والعقلي لحظتها .

ينتهي في التطبيق والممارسة للدين الفارق الذي يميز العقل عن الدين في التعريف النظري في بعده المتعلق بالتعالي على ظرفه الوجودي في أصل تنزيله و التاريخية للنص في حقيقة تجسيده.

لننظر لهذا الالتقاء في العمل للعقل والدين من زاوية العقل ذاته، فلقد ذكرت بأنه لا عقلانية مطلقة في ذاتها، بل عقلانية تاريخية، تتحدد طبيعتها بمقاييس ظرفية وموضوعية في نطاقها التاريخي كوعاء لظهورها الوجودي، فالعقلانية المطلقة أو بتعبير بعضهم المجردة هي تموضع ذهني نظري.

وبكونها تاريخية، فإن هذا يستلزم كونها محكومة لسقف مجتمعها المعرفي ولنمط ثقافته المهيمنة، ففي سياق المجتمعات الدينية ذات التقاليد شديدة التعلق وجدانيا وعقليا بالكتب السماوية، أين يفرض النص هيمنته وقدسيته المطلقة على المناخ والتفكير الإنساني، يكون العقل عندها، سواء عقل فيلسوف أو عقل رياضي مجرد مضطرا للعيش داخل هذه الثقافة، فهو عقل كل ثقافة في شكلها الاجتماعي، ولهذا تجد أن العقل العربي خاصة والإسلامي عموما لم يغادر طبيعة النص قط، فهو (عقل لاهوتي )، لأنه يناقش ويستدل ويعارض ويخالف من داخل ووفق بنية ومسلمات النص الحاكم . في حين أن لا نص حاكم بقدسيته على العقل اليوناني والإغريقي فكانت العقول نتاج بنيتها الاجتماعية، في وثنيتها العقدية، و بمنطوق لغتها المستعملة في النقاش.

تاريخية العقل تجعله في المجتمعات ذات النمط الديني يعيش أجواء هذه الثقافة الدينية، في لغتها وفى طبيعة إشكالاتها وتطلعاتها، طالما أن النص لا يزال يحظى بقاعدة صلبة تعاند شقوق الزمن والتطور في فعاليته الميدانية، كما في بنيته العقدية والنصية.

لا يملك العقل إذا أراد المفارقة والاستقلال عن هيمنة الدين في سعيه لتقرير واقعية الافتراق في الحقائق أن يتوسل منطق للخطاب غير أداة اللغة أو أن يفجر بنيتها من الداخل، فالمجاز واللغة البلاغية في مدرسة العرفان مطاطية لدرجة أن التطور الإنساني هو رجع الصدى للمنطلق الإنساني الأول، فالباطن يؤول دوما على ضوء الحاضر، فيكون التأويل معاصرا ثابتا للحاضر في نتائجه ومحصلاته المعرفية.

ومن هنا دخل العلم لينازع الفلسفة احتكارها للعقلانية وليمارس مع الفلسفة نفس المنطق الذى مارسته مع الدين، فلغة الكون مكتوبة بلغة رياضية عنده، وهذه رموز شكلية، تملك الإشارة إلى مضامين دلالية في غيرها من جهة أصل الوجود ، فالاكتفاء بحرفيتها يجعل المعنى هو ذاته سطح الظهور، فالمقصد ليس إلا عمل آلة القانون العلمي، فلا دلالة ولا غاية من الوجود إلا التواجد بالذات وهو ليس إلا الظهور عند كشف القانون، مما يسلب اللغة الرياضية أهليتها لتدلنا على المعاني عند حصرها في النمط الآلي، تغدو بلا دلالة إلا ما يدل على تواجدها وحضورها .

العقل الفلسفي قديما كان يبحث إشكالياته على ضوء المشكلات الميتافيزيقية لثقافة مجتمعه الدينية، لكن العقل العلمي فارق العقل الفلسفي في بحثه عن جواب إشكالياته الجديدة، فلم يموضعها في أفق المشكلات الغيبية التي يثيرها النص والذي سعى لإزاحة هيمنته وخطابه لأنه ينتج قضايا زائفة علمياً. كذلك يسعى العلم لإزاحة الفلسفة عن القول الفصل، لاحتكاره ألية العقلانية في مناهجه التجريبية بما ينفى إمكان تواجدها خارج هذا المنهج أصلا كما يزعم الفلاسفة.

نزاع الفلسفة للدين، في شكل مقابلة العقل والنص، وفى البعد الذي يخصنا هنا، يمكن رؤيته كنزاع حول ماهية العقل، وبالتالي هو خلاف حول طبيعة الإنسان. لكن نزاع العلم والفلسفة أشمل، فهو يتمحور حول ماهية الوجود الذي به نعرف طبيعتنا، فالإنسان قطعة مادية في الوجود تحكمها قوانين الحركة التي تشكل غايته لا أكثر من ذلك.

لن يعترف العلم التجريبي، بالتأويلات العرفانية والعقلية، فهي عنده ألعاب لغوية، كما أن المشكلات الميتافيزيقية القديمة تكون نابعة من مشكلات اللغة ذاتها في التعبير. ما يوحده العلم بقوانينه عند دراسة الوجود، يجعله الدين مراتب داخل هذه السنن الكونية، فوحدة القانون الوجودي – أي حاكمية العلم على مجرى الحركة – هو دليله إلى واضع القانون، مما يمكن الدين من جعل العلم جزء من بنيته، باعتبار أن التمرد حاجة للكشف عن حقيقة الخضوع عند العجز، واليقين ثابت على حتمية العجز لمحدودية القدرة.

يستفيد الدين الحق كنص محكم، من حالات التمرد هذه، فبها يؤكد نفسه بأثر رجعي على مستوى المعاني إذا لم يستطع مجانسة ظاهره الخطابي إلى نتائج التمرد المعرفية. فما يخرجه الدين في نزاعه من بابه الرئيسي، يدخله من حديقته الخلفية كجمال يكمل تمام البيت طالما هو جميل في حقائقه، كما خبرنا في تكييف الدين عموما مع متغيرات الزمن عبر حقب زمنية عديدة، وغالبا ما يكون هذا بفعل آلية التأويل التي تكاد تكون مضطردة في كل جوانب الوجود الإنساني، حتى في العلم نفسه، له تأويله الحاكم له داخل قوانين الحركة.

التأويل ينقلنا من الموضوع إلى الذات، ذات العالم أو الفيلسوف أو المتدين، وقد كانت نقلة ديكارت تتمثل في أنه نقل كينونة العقل من الكونية الطبيعية إلى الذاتية، ليكون جوهرا بذاته وبنية فطرية، تملك استقلالها وحقائقها بمعزل عن التجربة، فلم يعد يتموضع في مستوى الميتافيزيقا بل في الخطوات الإجرائية، فالموجودات في الوجود ما هي إلا آلات وليست كائنات عاقلة كما كان قديما في الثقافة الإغريقية بل أن العلاقات البينية بينها هي ما التي تكون علاقات عقلانية.

هنا تصبح المقابلة بين العقل والطبيعة كنص كوني هي من يحدد طبيعة وتعريف العقل وهذا ما أشرت له مرار أعلاه حول أن التعريف مشتق من المقابلة، ومنطق الخصومة هو ما به يتم انتزاع الصفة المحددة للجوهر.

العلاقة النزاعية بين العقل والطبيعة في إنتاج العلم تنتج مردود يعيد تكوين دلالات الدين النصية نفسها بتوسط تلك المعارف، فسياقات الحركة في بلوغ الغايات تكون لحظتها علمية كتكيّف من الدين هو في حقيقته سمو عن تعييناته التاريخية العرضية بالنسبة لجوهره الخالد.

07-10-1437 هـ

12-07-2016 م