المدينة بين العمران والإنسان .. مشاهد من إسطنبول!

471

 

في معنى المدينة

المدينة الكائن المحتضن لضوضاء البشر، مصطلح يصعب تحديده، تتنازعه وما زالت الجغرافيا والسياسة والفلسفة والعمران، مُلغِزة بتناقضاتها، بين الأمان والجريمة، بين الفقر والغنى، بين المساحات الخضراء والإسمنت الجائع الذي يأكلها، لكنها اليوم أوضح بعمرانها، فهي ترسم بناطحات السحاب والعشوائيات وأحياء الصفيح فيها أسلوب إدارة مواردها وأحوال سكانها وتوزيع الثروة والسلطة فيها، وصراع المصالح حول مغنمها والمكائد حول مغرمها.

“وجاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى” استخدم القرآن الكريم لفظ المدينة وجاءت أيضًا في الأثر “أنا مدينة العلم”، كما أطلق المسلمون على يثرب اسم المدينة، ولعل الكلمة عندها كانت ترمز للمكان الذي تحميه حامية أو يحده سور، كما في تعريف ابن منظور في لسان العرب أنها “كل أرض يُبنى بها حصن”، فكأنها في المعنى العربي الأصلي تشير إلى الحضر في مقابل البدو، وهذ ما نجده عند ابن خلدون في حديثه عن البدو والحضر، لكن الأظهر والأوضح أن كلمة مدينة لم تطلق بإسهاب على المدن التي كانت موجودة أو التي أوجدها الصحابة والتابعون، بل كان الاستعمال العربي للتعبير عن المدينة يستخدم كلمات أخرى مثل مصر وأمصار والكُوَر والبلدان.  

وربما كانت الدلالة الإنجليزية لكلمة city مشتقة من الكلمة اللاتينية civis حيث كانوا يطلقون مصطلح civitates في الثقافة اليونانية لأمكنة ودول خاصة تجمع السلطة السياسية والكاتدرائية أي السلطة العلمانية والدينية، ويطلقونه على المكان الذي له قدرة تنظيمية اجتماعية وسياسية، ويُسمى أهله مواطنون citizens. ومع وجود الصناعة والاستعمار منذ القرن التاسع عشر صار لفظ المدينة يطلق بشكل واسع على المستوطنات الحضرية الداخلية والخارجية، ويمكن أن نلاحظ هنا أن الاستعمال الإنجليزي أوضح في دمجه بين معنى الحضارة ومعنى المدينة في لفظ واحد من الاستعمال العربي الذي استعملها في مقابل البداوة فقط أو مقابل المكان الذي لا يحده سور.

وهذا الدمج بين معنى الحضارة والمدينة يقودنا إلى المهارات أو الفضائل التي ينبغي على أهل المدينة أن يتحلوا بها وخصوصًا مع الغرباء فكلمة civility التمدن أو الأسلوب الحضاري في التعامل مع الناس هي مشتقة من civis التي هي المدينة، ولذلك تخيل القديس أوغسطين مدينة الله في مقابل مدن بشرية أرضية، ليدلل على البعد الثقافي والأخلاقي في التعامل مع الناس، كما رسم الفارابي حدود مدينته الفاضلة من خلال آرائه الفلسفية في السعادة والأخلاق والميتافيزيقا.

ومن هنا نرى أيضًا مقابلات أخرى بين المجتمعات الكاملة والمجتمعات الناقصة، بين المدينة الفاسدة ويوتوبيا الريف، أو كما نرى عند ابن خلدون بين البدو وفضائلهم وبين الحضريين وشهواتهم أو تغيّر أخلاقهم.

وكان لأرسطو في فهمه للمدينة معنى متقدم، فرأى فيها من المعاني الاجتماعية والثقافية والسياسية ما يسبق الجغرافيا بل يهمشها، فعرفها بأنها “شراكة كافية للعيش” فلم يعرفها بالجغرافيا ولا بالحامية ولا بالسور، بل عرّفها بوظيفتها، برمزيتها بأنها دستور ينظم الحياة أو يرتقي بالحياة.

ومن هنا نجد أن المدينة والسياسة لا ينفصلان بل إن الأصول الاشتقاقية لكلمة السياسة politics تأتي من كلمة polis اليونانية التي هي بمعنى المدينة، وما حاوله علماء الاجتماع والتخطيط الحضري من أن يحددوا المدينة بتمييزها عن غيرها بالإحالة إلى حجم السكان وكثافتهم أو أنماط التواصل والنقل أو أساليب الحكومة في الإدارة كل هذه المحددات هي في حقيقتها نتاج السياسة التي أرادت ضبط المدينة وتحديد مدلولاتها، ممكناتها ومستحيلاتها، مشكلاتها وخدماتها.

متى وصلنا للمدينة؟

يتحدث عالم الاجتماع والمؤرخ لويس ممفورد في كتابه المهم “المدينة على مرّ العصور” عن نشأة المدينة وتطورها حتى وصلت للشكل الذي هي عليه اليوم، ونلمح في حديثه نفسًا خلدونيًا يحلل التاريخ والاجتماع البشري ويقيم علاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فعلم الآثار برأيه لن يقدم تاريخًا شاملًا لنشأة المدينة وإن لاحظ آثارًا هنا وهناك، فنشأة المدينة هي ميل الإنسان الأول إلى شيئين هما: الحركة والاستقرار، اللذان دفعاه للدخول في الكهف والخيمة ثم بناء القرية والمدينة، فشابه بالحركة عالم الحيوان وبالاستقرار عالم النبات.

في التعبير الخلدوني جاءت كلمتا “التأنس والتوحش” للدلالة ربما على الانتقال الذي يحدث في حياة البدوي من التوحش للتأنس بالمدينة، وإن الاستئناس الأول برأي لويس ممفورد الذي طرأ على الإنسان القديم أي إنسان الصيد كان الاستئناس بالزراعة والري والآلات التي صاحبتهما، فرعاية النبات حولت حياة الإنسان البدائي إلى حياة مستقرة مغذّية ومرتبطة بشيء سينبت في المستقبل، لكنه يحتاج لأجل ذلك إلى الإقامة في مكان ما، كما أن للعبادات والطقوس التي كان يقيمها الأقوام الأولون أثرًا واضحًا في بناء القرية والمدينة إذ لأجلها يتجمع الناس في مكان واحد في فترات موسمية.

لم تكن نشأة المدينة من تضخم عدد سكانها فقط، بل من تضافر مجموعة من الأسباب جعلت قيام المدينة لازمًا لها، فتعدد الحاجة للمهن وللوظائف المختلفة داخل القرية الزراعية والحاجة لسياستها وتنظيم الاجتماع البشري فيها مع المسافات المتباعدة وظهور خصومات مختلفة، كل ذلك أدى لانبثاق المدينة من هذا الاجتماع الحضري الزراعي.

كانت المدينة هي الوعاء الحضري الذي احتوى بأسواره القدرة المتنامية للإنسان الفنية والاجتماعية والسياسية من زراعة الحبوب إلى المحراث إلى السفينة الشراعية إلى صناعة الفخار إلى المنساج اليدوي والتعدين ثم الرياضيات والمشاهدات الفلكية، لكن هذه القدرات البشرية وخصوصًا التكنولوجية لم تستطع المدينة احتواءها اليوم بل هي برأي لويس ممفورد قد اخترقت الأسوار وتناثرت دون خدمة واضحة للإنسان كما كانت من قبل، فشهدنا المدينة الصناعة الحديثة التي حشدت الناس للعمل والضرائب والاستيلاء والمصادرة.

هذه النقلات التي تنقلتها المدينة من الزراعة نحو الصناعة وما صاحبهما من علاقة بالسياسة والعلم والدين، جعل المدينة تجمع بين طبيعتين متناقضتين، فنرى إلى جانب الحرية والتنوع ما تفرضه المدن من نظام قاسٍ يرغم الناس على العمل ويجعلهم متشابهين، ونرى إلى جانب الأمان بالأسوار والحدود قدرة على الحرب والتدمير والتوسع خارجًا، وإلى جانب مراكز العبادات والطقوس التي تكثر في المدن ويعدها الإنسان بوابة راحته نرى استغلالًا اقتصاديًا ونفسيًا للإنسان، فكأن هذه المدن جمعت بين الطبيعة الاستبدادية وبين الجمال والروعة، وكأنها أعطت طبيعتها الثنائية هذه للإنسان المتمدن فاصطبغ الناس بصبغة مدنهم يجمعون تناقضاتها في أقوالهم وأفعالهم.

إسطنبول “المدينة السوق”

يضيء إدريس مقبول في كتابه “الإنسان والعمران واللسان” إضاءات مفيدة حول المدينة بماضيها وحاضرها، فالمدينة في تاريخنا كما يقول جمعت بين ثلاثة عناصر لوجودها، المسجد الجامع والسوق والحمام العام، فتحصل بالمسجد الحاجة الروحية لأهلها وبالسوق الحاجة المادية وتبادل المنافع، وكما تحصل النظافة والطهارة بالحمّامات العامة يحصل أيضًا التآلف الاجتماعي والملتقى الأهليّ، الذي كان من أهم أسباب إنشاء الحمامات العامة ليجتمع فيها الناس في مناسباتهم الخاصة نساء أو رجالًا، وبذلك نلاحظ التقاء الغايات الأرضية بالسماوية في المدينة، ولذا كان الإسلام أينما نزل ودخل مدنيًا حريصًا على بناء المسجد والسوق والحمام، وعلى هذا المعنى قامت الأمصار التي مصّرها المسلمون في بلاد الشام ومصر والعراق ومن ثم في بلاد الأناضول.

ولو تحدثنا عن الأناضول لوجدنا أنها على مر التاريخ كانت مركزًا للهجرات الجماعية  ومركزًا جاذبًا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وموجات الهجرة الجماعية أدت الى تغيير التركيب الاجتماعي العرقي والثقافي أولًا للدولة العثمانية وثانيا للجمهورية التركية، وتعدّ موجة هجرة التتار القرم الى الأراضي العثمانية أول هجرة جماعية من المسلمين بصورة واسعة، حدثت عام 1783 مع احتلال روسيا للقرم، ولحقتها هجرات أيضًا من الجورجيين والشركس، والداغستانيين والشيشان واللاز وأهل القوقاز والعرب والألبان والبوسنويين، وكلها كانت بأعداد كبيرة.

وبعد إعلان الجمهورية التركية استمرت موجات الهجرة نحو الأراضي التركية، وكلها كانت هجرات بأسباب تراجيدية مأساوية نتيجة الحروب أو السياسات القمعية من مقدونيا ويوغسلافيا وبلغاريا وكازاخستان وتركستان والشيشان وأذربيجان وأخيرًا من الدول العربية إبان الربيع العربي وسياسات الاستبداد والقمع والقصف من سورية ومصر وليبيا واليمن..

إسطنبول المدينة البهية يزيد عدد سكانها اليوم على 15 مليونًا في آخر إحصائية تركية، أي أن ربع سكان تركيا تقريبًا يعيشون في اسطنبول، في مساحة إجمالية للمدينة تبلغ 5461 كيلو مترًا مربعًا، نشطت وما زالت في السنوات الأخيرة الهجرة الداخلية التركية نحوها، وتعدادها السنوي بالآلاف، كما نشطت مثلها الهجرة الخارجية وتعدادها بالملايين، فلماذا هذا الزحام على اسطنبول؟

تحولت المدينة عمومًا كما في رأي مانويل كاستلز من مجرد مكان إلى فضاء من التدفقات Space Of Flows فالمدينة تجذب الأطراف كلها نحوها اليوم، تجذب المال والاقتصاد والسلع والأسواق وتجذب العلم والجامعات والثقافة، درس كاستلز ما سماه المدينة التقنية The Informational City التي تقوم على العامل التقني الذي يؤثر على المدن فيجعلها ممتدة أفقيًا وعاموديًا ومرتبطة بشبكات تقنية واسعة تجعلها مركزًا صناعيًا وخدميًا وتعليميًا، وهذا يؤدي إلى أنواع من التدفقات نحو المدينة وهذه التدفقات يمكن أن نجمعها في أربع تدفقات تتميز بها إسطنبول بشكل واضح: تدفق المال، تدفق الأجساد، تدفق الأضواء، التدفق الروحي.

إسطنبول مدينة العلاقات الربحية والاستهلاكية، مدينة الهجرات الداخلية قبل الهجرات الخارجية، فإذا كانت إسطنبول تجذب العرب لأنها تجمع بين أصالة الشرق بمساجدها وعمرانها وتاريخها العثماني وحضارة الغرب بأنفاقها وجسورها ومحطاتها وأبنيتها ووسائل مواصلاتها، فإنها تجذب التركي من مدن أخرى للعمل فيها، ليدور فيها مع حركة المال دوران الصوفي في حلقة الذكر، يتزاحم الناس في شوارعها وأنفاقها وجسورها، تراهم يخرجون من المترو كتلًا بشرية مهولة، ينقمون عند خروجهم على الأجنبي ويرونه سرّ الازدحام وسبب البطالة، فيعلو هنا خطاب العنصرية، وينسى الأتراك أن إسطنبول أصلًا مزدحمة دون الأجنبي، وأنها تشبه فطر سوليس الذي يتكاثر سريعًا على الخشب، وأن التدفق البشري نحو عاصمة تركيا الاقتصادية إسطنبول جعل من المدينة سوقًا كبيرًا يتكدس فيها البشر ويتركون قراهم ومدنهم وضواحيهم.

السؤال عن المكان “من أين أنت” سؤال طبيعي ليفتح السائق أو الموظف حديثًا وديًا يتعرف به على الآخر لكن هذا السؤال في إسطنبول هو مفتاح لإلقاء اللوم على الحكومة والاقتصاد السيء والزحام البشري الذي جاء من الأجانب برأيهم، هو سؤال تفريغ للخصومات لا سؤال تودد أبدًا.

أمراض التمدن.. العنصرية نموذجًا

يعادي نيتشه المدينة ويقول فيها “إن الذي يجري في عروق هذه المدينة دم فاسد فابصق على المدينة الكبرى.. مدينة الوقحين والفجار.. المدينة التي يتكدس فيها من يأكلهم سوس الفساد من أهل الشهوات”. يبدو أن الحمولة الرمزية والسلبية لتآكل الريف واتساع القوارض الحضرية التي تأكل الأرياف، لم تكن فقط بسبب الهجرة نحو المدينة بل بسبب تمدد المدن واتساعها دون رحمة، وهنا تصبح آلام المدينة وفاقتها مصنعًا لإنتاج الأحقاد وسموم الغضب على المهاجرين والوافدين، لتحميلهم كل آلام المدينة وفاقتها، وتسبب جروحًا غائرة للمهاجر الريفي والمهاجر الغريب حول صراع الانتماء والبقاء، وأنهم مهما حازوا شهادات تثبت أنهم من سكان هذا المكان فإن شرايين المدينة تلفظهم وتستثقلهم ولا ترغب بهم، وهنا سيظهر سياسيو المدن يغذون جشع المدن وجهل التاريخ وينسجون هلاك المجتمع يومًا بعد يوم بخطابات عنصرية بغيضة.

يعاني السوريون والعرب عموماً في إسطنبول عمومًا من خطابات عنصرية بعضها شعبي وبعضها سياسي، لا تخمد في قصة حتى تقوم في قصة ثانية، ولكن المتأمل في الواقع التركي يلاحظ خطابات عنصرية غير تصالحية مع أصناف أخرى من الشعب كالمحجبات والأكراد ونزاع مدن الشرق والشمال، كل ذلك تضمه إسطنبول يوميًا في مشاهد لا تنتهي في حافلاتها وأسواقها وحتى في أروقة جامعاتها، حدثتني طالبة تركية مرة أن العنصرية التي يعاني منها الغريب يعاني منها كل تركي بأشكال مختلفة، قالت “نحن عنصريون على بعضنا” وخصوصًا في إسطنبول مدينة الغرباء أتراكًا وعربًا وغير عرب، وكلما زاد الاغتراب زاد سوء التواصل بين الناس.

حَي الفاتح اليوم في إسطنبول يشبه ذاك الحي الصيني في نيويورك، الذي يعد مدينة داخل مدينة، بعض أهله لا يتحدثون الإنجليزية يتعاملون مع حدود منطقتهم بلغتهم، شكلوا عالمهم الموازي مع بنك صيني وطبيب صيني، ومع كل شيء يخصهم مطاعمهم لافتاتهم متاجرهم، كذلك يفعل السوريون اليوم، كثير منهم لا يتحدث التركية ويحاول أن يكفي حاجاته ضمن هذا الحي وأحياء أخرى شبيهة به، وهذا ما يشكل نقمة تركية وبكاء على الأحياء التي يقولون إنهم فقدوها ولم تعد تركية.

مع أن النمط الأصلي للحياة كما يقول الحبابي في كتابه “من المنغلق إلى المنفتح” أن الأصل هو الهجرة والترحال خلافا للسائد في العقول وأن الاستقرار حالة عرضية، النزوح والتنقل والترحل الطويل سمة الناس ينقلون معه أفكارهم وعاداتهم وأعيادهم وأثاثهم وثقافتهم وصناعتهم وطعامهم.

سمعت من الأتراك قولهم لا أحد من إسطنبول إلا قططها، إسطنبول تشبه وصف جمال غيطاني في كتابه عن مدينة نيويورك “مدينة الغرباء” فليس فيها معمّر أصلي، كل الناس غرباء فيها، حتى الذين هم من أهلها الآن أصولهم مدن تركية أخرى، وكل غريب يأتي إليها زائرًا يصبح مقيمًا أو مواطنًا.

في إسطنبول حي Polonezköy  أتراك أصولهم من المهاجرين البولنديين، وفي إسطنبول حي  Yenibosna أتراك أصولهم من البوسنة والهرسك والقوقاز، وفي إسطنبول حي Karaköy أتراك أصولهم من اليونان وجورجيا وإيطاليا وروسيا، وأحياء أخرى كثيرة تأسست من مهاجرين، تضعف الذاكرة في المدن فينسى الإنسان أين ولد كما يقول كونديرا، وهذا ما نراه اليوم في المتصدرين من سياسيي الأتراك ومروجي الخطاب العنصري ينسون أين ولدوا فعلًا عندما يتحدثون عن الغرباء، في المدينة نحن نعلم كل شيء لكن الإنسان نفسه مجهول ومعزول، يقول الشاعر الإنكليزي تشارلز كولتون “إذا أردت أن تُعرف ولا تَعرف عِشْ في القرية وإذا أردت أن تَعرِفَ ولا تُعرَف فعشْ في المدينة”، في القرية الصغيرة يصبح الكل معروفًا لدى الكل ولا أهمية لمعرفة ما يحصل من تفصيلات خارجية في العالم، لكن في المدينة نعرف كل التفصيلات التي تحدث في الخارج المهمة وغير المهمة ويحشد الناس لأجلها لكن الإنسان نفسه معزول وغير معروف، فتصبح الشهرة والحشد والتأليب بين أطياف الناس صناعة كاملة وسط تلك المدينة.

الازدحام هوية المدن الجديدة

المكان مؤسِّس لفهم الإنسان فكرًا وسلوكًا، فلو كنا في قرية سيكون سلوكنا مختلفًا فيما لو كنا في مدينة مركزية، ولو كنا في مكان مزدحم بالسكان سيكون سلوكنا أيضًا مختلفًا عما لو كنا في بيت جبلي منعزل.

المدن الحديثة تعاني من الاجتماع غير المتوازن والمنسجم، وإذا كان ابن خلدون رأى أن الإنسان بين طور التوحش والتأنس، وأن المدينة مدعاة للتأنس، فهذا ما يتلاشى اليوم مع المدن الحديثة، ليظهر الألم في ملامح المدينة ولتظهر أمراضها وقسوتها الكامنة في جمالها.

 تتحول المدن الكبرى إلى حديقة حيوان بشرية كما يقول ديزموند موريس حيث تنبع أمراض الأنانية والنرجسية والأبوية المتسلطة، وكلما زاد تكدس البشر فوق بعضهم تحولت الهوية الإنسانية لهوية متوحشة عمياء.

في علم النفس دراسات تخص الانحطاط السلوكي للكائنات بشكل عام بشرية أو حيوانية، وقد بدأت هذه الدراسات من ملاحظة السلوك الحيواني ومدى ارتباطه بالمكان، وهذا ما أنتج فيما بعد فرعًا من فروع علم النفس وهو علم النفس البيئي، الذي يربط بين السلوك والمكان الذي يعيش فيه الإنسان.

بدأ قياس أثر المكان من محاولة فهم ظاهرة الازدحام والتكدس، وهناك سلسلة تجارب مشهورة على الفئران في هذا، بأن جمعوا 80 فأرًا في مكان يزيد عن القدرة الاستيعابية المناسبة بـ 32 فأرًا، ووجدوا تغيرات كبيرة في سلوك الفئران على الرغم من وجود الطعام الوفير، لكن الفئران بدأت تتعدى على حقوق بعضها، وبدأت الأم تهمل أطفالها وكثرت الفوضى حتى رصد الباحثون شذوذًا وعنفًا في مجتمع الفئران المزدحم.

أما على الجانب البشري فلاحظ الباحثون أن الازدحام في البيئات الشعبية مثلًا مؤثر على معدلات الجريمة والأمراض الجسمية والشذوذ، ولاحظوا أيضًا أن استجابة الناس للازدحام المكاني نسبية، فهناك ازدحامات مقبولة للإنسان مثل الأعراس والحفلات العامة ومشاهدة فيلم في صالة سينما مزدحمة، بل يقولون في فلسفة الضحك إن ضحكة الإنسان تكبر على وجهه مع ازدياد عدد الحاضرين وسعة المكان، لكن بالمقابل هناك ازدحامات غير مقبولة وتقلق راحة الإنسان عمومًا عندما يكون المكان غير مهيأ للعدد الكبير، أو في ازدحام دون جلوس مناسب أو على شباك معاملة حكومية، كما لاحظ النفسيون أن الرجال يستجيبون للزحام بالعدوان والمنافسة والنساء تستجيب له بالتعاون والرضا، ووجود المرأة في الازدحام يقلل عادة من العدوان والتنافس بين الرجال.

جهز باحثان أمريكيان مشهدًا يسقط فيه عجوز في المترو، فوجدا أن الناس تتفاعل بشكل كبير وكانت النتيجة تدعو للأمل أن الناس فيهم خير، لكنهم كرروا التجربة في المطار فانخفضت نسبة الذين قدموا المساعدة إلى أقل من النصف 41% فقط، في البداية ظن الباحثان أن هذا مرتبط بالبيئة الفقيرة أو الغنية  فالفقير يشعر بمعنى الألم والمعاناة بشكل أسرع ويقدم المساعدة فورًا، لكنهم اكتشفوا بعد ذلك ارتباطًا آخر يتعلق بألفة المكان ومعرفته، الناس الذين يركبون المترو يعرفونه ويركبونه بشكل دائم، ويشعرون في ذاك المكان بالاطمئنان ولو كان المكان مزدحمًا، أما الناس في المطارات فهي بالنسبة لهم مكان غير مألوف عادة ويبحثون عن سلامتهم وسلامة حقائبهم وجداول وصولهم ورحيلهم.

هذه التجارب أوصلت الباحثين لمعنى الاغتراب الذي يعيشه الشخص في المدن الكبيرة المزدحمة ويتعامل مع أناس لا تربطهم به صلة وليس له بهم علاقة حميمية، سيدفعه هذا للتوتر وقد يتصرف بشكل عدواني أو يتصرف بشكل لا مبال، سيرى نفسه أنه مجهول في هذه المدينة، وهذا سيشجعه على اللااكتراث ومنطق لا أحد يعرفني، وإذا كثر الغرباء في مدينة صعب التواصل بين أهلها، فكيف بمدينة إسطنبول ملاذ الغرباء تركًا وعربًا..

إسطنبول كما وصف جمال غيطاني تدفق الناس في مدينة نيويورك “تدفق البشر في الشوارع كثيف كلهم مسرعون رغم أنهم جمع لكنهم فرادى” يتذكر غيطاني المثل المصري البركة في اللمة، اللمة في المدن الكبرى موجودة والناس كثر لكن هذه الجموع فردية، الإنسان فيها وحيد، يضع سماعته في المترو وينصرف عما حوله، يعبّر عن هذا إريك فروم بوصفه للإنسان الحديث بالحشد المتوحد، أو بمجتمع الفرجة على حد تعبير غي ديبور.

اختناق الرمز والمعنى في المدن

لكل مقام مقال ولكل أغنية نغم ولكل مدينة مفتاح ولكل منها ملامح مثل البشر، مشي الناس في طريقهم اندفاعهم حديثهم نزهاتهم تعاملهم مع الغريب، كلها مفاتيح لفهم المدينة، وعندما نبني مدينة ما فإننا نبني الشخصية والطباع والفكر والأخلاق، تخطيط المدينة ليس عملًا عشوائيًا هو عمل يحتاج لدراسة المستقبل بشكل جيد كما يقول عبد الهادي تازي، العمران هنا ثقافة تشير للماضي والحاضر والمستقبل.

 لذا كان العمران المستعار الذي تتسابق البلاد العربية لاستعارته من البلاد الغربية يشير إلى تدهور واضح في الذوق والوعي الحضاري للمدن، ويوحي بانهيار العمران الأصيل في القاهرة وبغداد ودمشق، وهذا ما دافع عنه عبد الرؤوف في كتابه “من مكة إلى لاس فيغاس” حيث عدّ الكاتب النمط المعماري القائم في مكة يلغي خصوصية الهوية الدينية والمعمارية للمدينة المقدسة، ويجعلها أقرب لمدن الغرب المادية بناطحات سحابها وبساعتها التي تشبه ساعة بيغ بن التي همّشت مع الأبراج العالية مركزية الكعبة ورحمانية المدينة بعين الفقراء، وحجّمت من جوهرها الروحي، وقطعت ماضيها المتمثل بعمرانها، من خلال الهدم الذي لا يتوقف لبيوت وأسواق الصحابة والتابعين وآثار الدول الإسلامية والخلفاء المتعاقبين فيها.

ما زالت إسطنبول تحاول أن تخفف من الإسمنت الجائع الذي يلتهمها وتحاول أن تبقي على خصائص العمران الإسلامي فيها، في مساجدها وأبنيتها الجديدة التي يحاكي بعضها أنماطًا من المعمار الإسلامي العثماني والسلجوقي.

يتحدث صاحب كتاب Islam and Sustainable Development أن المعمار الإسلامي إنما عبّر عن الكلمة الإلهية في الأرض، عن القرآن والوحي، وأن الدور الذي لعبته العمارة الإسلامية في التعبير عن القيم الإسلامية واضح جدًا، فالرؤية البصرية المعمارية واضحة في إبراز العدالة والإحسان والحياة الطيبة والحد من الأذى والإفساد.

لذا كانت حركة العمران في الماضي تبني للمدن ملامح واضحة، وأهم تلك الملامح للمدن الإسلامية أنها كانت تنتقل في عمرانها من الضيق للواسع، من الأزقة والحارات الضيقة إلى البيوت الواسعة المنفتحة في داخلها، فيعيش التراحم والتعايش والحب والتماسك الاجتماعي مع الجيران في تقارب البيوت ويعيش الجمال وسعته داخل البيوت العربية القديمة، لا تختلف البيوت خارجيًا بل تتشابه، لتزول حظوظ النفس في التباهي والتفاخر وليغيب المظهر الخارجي تقريبًا في مقابل الحفاظ على الجمال الداخلي، وهذا ما يسميه دارسو العمارة مثل هاني قحطاني ورهيف فياض بمبدأ الاحتواء الذي يصبح فيه من الصعوبة تمييز بناء عن بناء لأن الأبنية متشابهة، فالأزقة الضيقة والجدران الخشنة المتشابهة تقود أخيرًا إلى جمال داخلي واسع، فالكلام بآخره كما يقال، والدهشة هنا يولدها الدخول لا الخروج، الداخل لا الخارج، خلافًا للثقافة الغربية التي تعتني بالخارج، والتي صارت المدن الحديثة تتسع خارجًا بشوارعها وطرقها وتضيق ببيوتها، ومن هنا تنشأ الاهتمامات الخارجية والاستعراضات الجمالية بالجسد والسيارة والعطور وتضعف القيم الداخلية، وهذا من تجانس المعنى والمبنى وتكاملهما في ثقافتنا العربية والإسلامية.

تضيق البيوت وتتسع الشوارع في المدن الحديثة، يزاحم الجمال الخارجي للأماكن والشوارع والعمارات جمال البيوت والنفوس في داخلها، وتتأرجح هوية المدن بين الشرقي والغربي، كما تتأرجح إسطنبول وسائر المدن العربية والإسلامية، ويبدو أن  المدن اليوم كلها باتت مدن الملح كما سماها عبد الرحمن منيف تنازع هويتها، أو أنها تعبر عن أجيالها كما عبّر خالد زيادة في “مدينة على المتوسط” مدن بلا قلب واحد بلا هوية واحدة بلا تعيين، تشبه الجيل الحديث، لا هو من الشرق ولا هو من الغرب، متلون متدحرج، ثوري متحرر، ومحافظ صلب، صعب الملامح والتكوين.

من اللطيف في لغتنا أن الاشتقاق يجمع بين ألفاظ عربية كثيرة، فيتلاقى هنا لفظ دائن ومَدين ودَيْن مع لفظ المدينة في الجذر وربما في المعنى، إسطنبول مَدينة بأرضها وجمالها وحضارتها ومساجدها وقصورها وقلاعها، مَدينة لحضارات كثيرة تعاقبت عليها، مَدينة لتاريخ عثماني وروماني جعلها قلبًا حضاريًا مقصودًا، لكنها اليوم دائنة عملاقة تلاحق الناس بماديتها وقسوة الحياة فيها، وتنزع عنهم وعنها روح الجمال بمسننات مصانعها وقطاراتها، وتزيل بحزن وأسى نظرة الزائرين الرومانسية نحوها الذين رأوا فيها وطنًا بديلًا عن شقاء بلدانهم، تتكثف مشاعر الغبن والحظ العاثر أو الحظ الرائق التي يحملها المقيم عن إسطنبول “مدينة السوق” على زجاج حافلاتها وسياراتها ونوافذ بيوتها وفي وجوه الراكضين في محطاتها.

تزدحم الأفكار حول المدينة ازدحام المدينة نفسها، ويصعب التطويل والتفصيل فيها هنا، وهي تستحق منا التأمل والتفكر والعناية لما تفتحه لنا من أبواب بحثية حول الهوية والانتماء والغربة والاغتراب والعمارة في أصالتها وحداثتها والعلاقات بين أهلها، ولما نرجوه من تغيّر أفضل في المدينة يسعنا ويسع الجمال والعدل الذي نطلبه.

@@@@@@

المراجع

1- المدينة على مر العصور، لويس ممفورد، المركز القومي للترجمة.

2- الإنسان والعمران واللسان، إدريس مقبول، المركز العربي للأبحاث.

3- معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، طوني بينيت، ترجمة سعيد الغانمي، مركز دراسات الوحدة العربية.

4- مدينة الغرباء مطالع نيويوركية، جمال الغيطاني، دار نهضة مصر.

5- لسان العرب، ابن منظور الإفريقي، دار صادر.

6- ظاهرة الهجرة في الدولة العثمانية والجمهورية التركية وعواقبها، سالم كسغين، مجلة رؤية التركية.

7- من مكة إلى لاس فيغاس، علي عبد الرؤوف، مدارات للأبحاث والنشر.

8- من العمارة إلى المدينة، رهيف فياض، الفارابي.

9- الإنسان وعلم النفس، عبد الستار إبراهيم، عالم المعرفة.

10- The Informational City, Manuel Castells, Blackwell.

11- Islam and Sustainable Development, Odeh AlJayyousi , Gower.

12- Mastering the World of Psychology, Wood, Samuel E., et al.