ثورة الأمل

251

اسم الكتاب: ثورة الأمل

اسم المؤلف: إريك فروم

دار النشر: مكتبة دار الحكمة

بلد الناشر: القاهرة

سنة النشر: ٢٠١٠

عدد الصفحات: ٢٦١

نعيش اليوم في عالم محكوم بالسرعة والتقدم، فما يشهده العالم من تقدم تكنولوجي يشي بتغيرات هائلة تمس الواقع، لا الواقع المادي فحسب، بل الواقع الإنساني وطبيعة الإنسان ذاتها، خاصة مع نتائج هذا التقدم التكنولوجي وآثاره المتعددة على الإنسان والمجتمع.

لذا فنحن في حاجة إلى تشكيل رؤية نقدية لهذا التغير، واستحضار نماذج من هذا النقد كي تكون مرشداً لنا في طريق الإصلاح، ولعل أحد أهم نماذج هذا النقد هو ما قدمه إريك فروم في كتبه وطروحاته، والتي خصص منها كتاب “ثورة الأمل” لنقد المجتمع التكنولوجي ونتائجه.

يشخص فروم ابتداءً الواقع بالحديث عن اتجاهين في التعامل مع الواقع التكنولوجي القائم؛ ففي خضم موجات التطور التكنولوجي، يَعتبر فروم أن الإنسانية تقف أمام اتجاهين يشكلان استقطاباً في ما يخص العلاقة مع التكنولوجيا، بين أولئك الذي انجذبوا لقوة القانون والنظام والوسائل البيروقراطية وللنظام التكنولوجي، حيث يعتبرهم فروم منجذبين نحو اللاحياة، وبين أولئك الذين لديهم اشتياق عميق للحياة، لوجهات النظر الجديدة في ما يخص الخطط والتصاميم المبرمجة والجاهزة، وهم يشكلون حركة تعبر عن رغبة في إحداث تغيرات عميقة في الممارسات الاقتصادية والاجتماعية مع التغيرات في تعاملنا النفسي والروحي مع الحياة، بمعنى أن هدفها هو فاعلية الفرد، واستعادة سيطرة الإنسان على النظام الاجتماعي، أي “أنسنة التكنولوجيا”.

وبالتواصل مع هذا الاتجاه، أي اتجاه أنسنة التكنولوجيا وتأسيس نمط من التفاعل الإيجابي معها، يأتي كتاب ثورة الأمل لإيريك فروم لبناء تصور عن إمكانية إنشاء هكذا توجه، مؤسساً ذلك على الأمل، باعتبار الأمل ليس شيئاً إلا السعي نحو حياة أكثر امتلاء وحالة حيوية أكبر وحالة من التحرر الناضج؛ إنه ليس حالة لقلب الظروف رأساً على عقب وانتظار اللحظة المواتية لذلك، وإنما فهم شروط الظروف المحيطة والتفكير من خلالها عن حلول وآفاق.

مبادئ المجتمع التكنولوجي

تتبرمج مبادئ المجتمع التكنولوجي على مبدأين يوجهان جهود وأفكار من يعمل فيه، الأول هو أن هناك شيئاً ينبغي أن يُنجز لأنه ممكن من الناحية التقنية، مثل إنجاز الأسلحة النووية، هو أمر يجب أن يتم بغض النظر عن مآلاته، بمعنى التركيز على الجانب الأداتي مقابل الغائي، وبالتالي نفي البعد القيمي والأخلاقي عن الجانب التكنولوجي.

والمبدأ الثاني هو مبدأ الكفاءة والإنتاج بأكبر قدر ممكن، ومبدأ الكفاءة هو الذي ينتج الآلة البيروقراطية المطلوبة لإدارة الكفاءة، من إدارة الأفراد وتوزيع الأدوار ضمن نظام صارم بغية تحقيق الكفاءة، وهو ما يمكن أن يعمي عن أمور ذات أولوية بالنسبة لحياة الإنسان على حساب منطق الكفاءة.

كما أن التركيز على تضخيم وزيادة الإنتاج يمكن أن يلغي الجوانب الغائية المرتبطة بالحياة، والسير على مبدأ “كلما كان أكثر كان هذا أفضل”.

إن لهذه المبادئ التي تطبع المجتمع التكنولوجي آثاراً وخيمة على الإنسان، فهي تحوله إلى مجرد ترس في يد الآلة، حيث يجري التحكم فيه بحسب إيقاعها ومطالبه الخاصة، ويحوله أيضاً إلى الإنسان المستهلك، الذي يملك هدفاً وحيداً هو التملك أكثر واستخدام الأشياء أكثر. هذا الإنسان لا يتم تبديه من الخارج فقط، وإنما يتم تبديده باطنياً عن طريق فصله عن القيم الأخلاقية والروحية المميزة له.

مما يعزز ويوسع من رقعة المجتمع التكنولوجي هو الإيمان المطلق بقيمة التقدم التقني كقيمة عليا، هذا الإيمان يرتبط بجاذبية انفعالية عميقة لما هو ميكانيكي، لما هو غير حي، وبالتالي ينتج الخواء والتكرار، كما يقول الكاتب.

نحو أنسنة المجتمع التكنولوجي

بشكل عام، تتجه استراتيجية أنسنة المجتمع التكنولوجي نحو فك هيمنة البيروقراطية على حياة الفرد، والتي تجعله مغترباً عن ذاته، عن طريق إعادة استحضار القيمة والغاية، كما تتخذ من نقد نمط الحياة الاستهلاكي توجهاً لها، لا عن طريق نقض فكرة الاستهلاك في ذاتها، وإنما محاولة إعادة صياغة علاقة الإنسان الحديث معها، أي أن ينصرف عن تعريف نفسه من خلال السلعة، وأن لا ينحصر في اتجاه تملك الأشياء، وبالتالي أن يعيد الاعتبار إلى كينونته بما هي فاعلية ونشاط داخلي يفضي إلى عمل إنساني في الخارج.

ولذلك يركز فروم على مسألة التجديد النفسي والروحي للإنسان، ولكن كيف يمكن ذلك في ظل تقليل مساحة تأثير الدين في حياة الأفراد في المجتمع الغربي تحديداً، وذلك على أثر التحولات الفكرية التي مر بها؟

ما يقترحه إريك فروم في هذا الكتاب –  وفي كتبه الأخرى كذلك – هو قيام نزعة إنسانية جديدة، تركز على القيم الإنسانية الكلية والشاملة التي تحيي الإنسان من الداخل، وترفض مختلف أشكال الصنمية التي تقوم في المجتمع، سواء تجسدت في منظومة تكنولوجية معينة، أو في سلطة اقتصادية أو سياسية، أو في أي كيان ينزع عن الإنسان خصائصه الروحية الداخلية القائمة على الحرية.

كما تقوم هذه النزعة على مبدأ تضامن الناس جميعاً والولاء للحياة وللإنسانية والذي يجب أن تكون له أولوية دائمة على الولاء لأي جماعة محددة.

ما يطرحه فروم لا يحارب الدين – كما يصرح في هذا الكتاب – ولكن يمكن أن تتفاعل معه الأديان لتنضوي تحت هذه النزعة.

وبغض النظر عن المضامين التي يتحدث عنها فروم، فإننا لا بد من أن نتناولها داخل السياق الذي يعيشه العالم الغربي، من تضعضع موقع الدين فيه على حساب أنماط ونماذج أخرى، لذلك لا يمكن أن يتم تطبيق هذا الأمر على مجتمعات أخرى – كالمجتمعات الإسلامية – بحكم اختلاف الصيرورة المجتمعية التي مرت بها.

ولكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، وذلك لسبب وجيه، هو أن المشكلات التي يعيشها العالم اليوم هي مشكلات معولمة؛ بمعنى أنه لم تعد محصورة برقعة معينة أو مجتمع بعينه، فالتغيرات التي أصابت نمط الحياة من سيادة التكنولوجيا وهيمنة نمط الحياة الاستهلاكي هي أمور غزت العالم بأكمله وأصبحت تشكل تهديداً للإنسان بغض النظر عن المجتمع الذي يعيش فيه.

كما أن الأمر لا يتوقف فقط عند ما شخصه إريك فروم، خاصة لقدم الكتاب الذي بث فيه أفكاره، فالكاتب لم يعش اللحظة التي نعيشها اليوم، لحظة هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي التي حملت في داخلها تأثيرات سلبية وإيجابية على السواء.

ومن الكتَّاب الذي تحدثوا عن هذه الموضوع ميشيل دي سار في كتابه “الأصبع الصغيرة”، والذي بيّن فيه آثار مواقع التواصل الاجتماعي على عدة مستويات، مثل التصور عن الذات وعلاقتها بالعالم، على اعتبار أن مواقع التواصل الاجتماعي تعيد صياغة العالم على نحو تجعله متمحوراً حول الذات على نحو كبير؛ فأنت تملك صفحتك الخاصة، تصوغ بها عالم ما تريد أن تشاهده وما تريد أن تحجبه، علاقاتك الاجتماعية التي تريد، وتتحكم بما تريد أن تعرضه على المجتمع والآخرين، أي أن تصوغ هويتك الخاصة بحرية أكبر مما هي عليه في الواقع.

والذات التي تجسدها الإصبع الصغيرة – كما يسميه دي سار نسبة إلى مركزية الأصبع في تصفح الإنترنت – توجد بوصفها فرداً، وهو ابن هوية مجهولة، لا ينتمي إلى هوية ما سابقة عليه، وهو أكثر تجليات الفردانية تطرفاً، وتشير أيضاً إلى حالة السيولة التي تعرض لها باومان في المراجعة التي كتبناها عنه في المقال السابق.

أحببت الإشارة إلى هذا الكتاب لبيان اتساع موضوع آثار التكنولوجية وراهنية التفكير بها والحاجة الملحة التي تقتضي منا معالجة آثارها.

وعودة على ما ذكرته حول المشكلات المعولمة، يقتضي هذا الكلام أن على كل منظومة فكرية قائمة في سياق اجتماعي محدد أن تقدم رؤيتها الخاصة والملائمة لحل المشكلات المعولمة هذه، وأيضاً الاستفادة من النقود الموجهة إلى مثل هذه المشكلات – كما عمل فروم في هذا الكتاب- ومن ثم صياغة رؤيتها ونماذجها الخاصة.

وهنا يصبح السؤال: أي إسهام للأمة الإسلامية في هذه المشكلات المعولمة التي نعيشها، وكيف تساهم المنظومة الفكرية والاخلاقية في التجديد الروحي والأخلاقي للإنسان المعاصر، الذي نهشته مبادئ المجتمع التكنولوجي ونمط الحياة الاستهلاكي والجفاف الروحي اليوم؟

قد يكون هذا السؤال أحد محددات مسارات الإصلاح التي يمكن أن تصب فيها جهود المسلمين اليوم، ولم تخلو الساحة الفكرية من مداولة هذا الموضوع، فقد قدم الدكتور طه عبد الرحمن مقاربات عديدة في هذه المسائل، خاصة في كتابيه “سؤال الأخلاق وسؤال العمل”، كما أسهم إريك يونس جوفورا في تقديم مقاربات في هذا الجانب، وهو باحث فرنسي أسلم بعد تبحره في التصوف الإسلامي، وقدم في كتاب “المستقبل الروحاني للإسلام” مقاربات لطيفة في هذه الموضوعات.