حوار في المقاصد

873

من أين تنبثق ضرورة الدعوة إلى فقه جديد معاصر؟ ولماذا الإلحاح في كثير من المواقع على مصطلحات الاجتهاد والتجديد ؟ هذه أسئلة حساسة لا يمكن الإجابة عليها دون معرفة عميقة بأبعاد التحدي الذي تفرضه طبيعة الإسلام (وهو الرسالة العالمية الخاتمة) ، من حيث تأكيد صلاحيته وخلوده وقدرته على توليد إجابات أصيلة لأسئلة العصر وحوادثه وأقضيته المتجددة . وتأتي إشكالية القصور والاختزال الذي تؤول إليه المحاولات التقليدية المتكررة لشد ومد التراث الفقهي والفكري لعلمائنا الأعلام ، في محاولة لسحبه على واقع أمتنا والواقع العالمي المعاصر بحيث يجيب على جميع أسئلته ويعالج جميع مستجداته ، تأتي تلك الإشكالية لتكون سببا إضافيا في تلك الدعوات إلى فقه معاصر ، وإلى ضرورة التجديد والاجتهاد ، وذلك من منطلق خصوصية السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي لعطاء أولئك الأئمة الأعلام السابقين ، وذهول أصحاب محاولات الشد والمد أو غفلتهم عن تلك الخصوصية ، وعن ضرورة استصحاب خصوصية هذا الزمان وسياقه – بالمقابل – في الأحكام والفتاوى المتعلقة بأقضيته وحوادثه .

إن من الممكن عند متابعة واستقراء تلك الدعوات التي تصدر عن مواقع متعددة في الأمة إلى ضرورة الاجتهاد والتجديد ، رؤية خط ناظم يجمع بين مختلف وجهات النظر يتمثل في الاهتمام بمقاصد الشريعة ، وبالدراسات والمصنفات التي تهتم بتنزيل فقه الأحكام ، واعتبار الواقع والعرف ومآل التصرفات . فلا تكاد تجد بحثا فكرياً أو محاولة فقهية إلا ويتضمن الاستفادة أو الإشارة أو الإحالة إلى ماكتبه الشاطبي في الموافقات ، مؤصلا فيه هذا العلم ، أو إلى ماكتبه ابن القيم في “إعلام الموقعين” ، أو إلى مفاهيم المصلحة والمنفعة والاستصلاح والتعليل بشكل عام .

ولا أدل على هذا الاهتمام من أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي أصدر ثلاثة دراسات رائدة في موضوع المقاصد ، إضافة إلى دراسات رائدة أخرى نخص بالذكر منها على سبيل المثال دراسة نشأة علم المقاصد للأستاذ عبد المجيد الصغير . وإذا كانت هذه الدراسات الرائدة لموضوع المقاصد قد فتحت هذا الملف الخطير ، وكانت مؤشرا على أن الاهتمام بقضية الاجتهاد والتجديد في الأمة انتقل من مرحلة طرح الفكرة والدعوة إليها ، إلى ممارسة البحث فيها ، فإن من المناسب في هذه الفترة الانتقالية توسيع دائرة الحوار والبحث لكي يشمل تحرير المقاصد نفسها ، أو على وجه أدق ، تحرير آفاق المقاصد.

إن من الملفت للنظر في جميع الدراسات المقاصدية المعاصرة ، اقتصار النظر والبحث على أهمية المقاصد وتاريخ النظر إلى هذه القضية . ولكن المطلوب بإلحاح في هذه المرحلة إنما يتمثل في تحديد حقيقة معنى المقاصد الشرعية من حيث تعريفها وآفاقها ، بما يساعد الدارس على رسم إطار إسلامي للقضايا والمشكلات المعاصرة التي يعالجها . وهو مايكاد يكون هامشيا أو في المساحة الظليلية من تلك الأبحاث .

وحتى يتضح مرادنا من الكلام ، فإن المقاصد الشرعية بتقسيمها الخماسي ، والمتمثلة في حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، وإن مراتب المقاصد الشرعية بتقسيمها الثلاثي المتمثل بالضروريات والحاجيات والتحسينيات ، استمرت على ماهي عليه كما وضعها رائد علم المقاصد الإمام الجويني ، وتابعه عليها الإمام الغزالي ، وأخيرا كما أصَّلها وصاغها شيخ المقاصد الإمام الشاطبي . بينما كان إسهام الدراسات المقاصدية المعاصرة في تقديم إضافاتٍ نوعية قليلاً نسبياً في هذا المجال ، من مثل انتاج الإمام ابن عاشور الذي بدأ بما يمكن أن نسميه (توسيع آفاق المقاصد) عند مناقشته لقضية الحرية ومفهوم الفطرة ، أو ماطرحه الدكتور حامد العالم من كون التعلم مثالا على حفظ العقل ..

ولابد من التأكيد – رغم ذلك – إلى أننا لانقصد بهذا الكلام نفي وجود كثيرٍ من الإشارات والأفكار المضيئة ، والمنبثقة عن فهم متجدد للمقاصد ، في بعض الكتابات الفكرية أو الفقهية المعاصرة ، من مثل أعمال الشيخين الفاضلين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي ، وبعض الدراسات أو الرسائل الجامعية . وإنما نريد بهذا التحليل التنبيه على غياب المحاولات العلمية والأصولية المتكاملة في هذا المجال والمخصصة له .

إن التعامل مع موضوع المقاصد بشكل يبث روح الحياة فيه ، ويمتد بتأثيراته الخطيرة ، و يوسع آفاقه بحيث تحيط بدوائر أوسع من فعاليات النشاط البشري ، يتطلب إعادة النظر في صياغة المقاصد الشرعية على أنها تنحصر في مجرد “حفظ” الكليات الخمسة المعروفة . فإذا كانت هذه الكليات الخمسة قد استنبطت من الاستقراء لنصوص الشريعة وأحكامها ، فإن استعمال مصطلح (الحفظ) للدلالة على معنى إقامة هذه الكليات ورعايتها وتأصيلها ، بل وتأسيسها لتكون حاكمة على حياة الناس وتصرفاتهم ، وتزكية حياتهم بها ، قد يشوبه بعض القصور الذي يستدعي إعادة النظر والتحليل . ذلك أن من الواضح أن (الحفظ) يستدعي معنىً سكونياً لا أثر فيه للحركة والتزكية والحيوية والنماء .

  1. فحفظ (الدين) يُختَزَلُ إلى حفظ النص المكتوب وبالتالي حفظ الأشكال والرسوم والحدود ، ولايتجاوز إلى الإشارة إلى ضرورة حفظ المضامين والأهداف والمقاصد والغايات . والفرق أن الفهم الأول سيُنْتِجُ رؤيةً عامةً لدور (الدين) في حياة الإنسان ، ولوسائل القياس والاستنباط ، ثم للفتاوى والأحكام المنبثقة عنها ، أكثر محدودية وأضيق مساحة وأقل آفاقا من الفهم الثاني ، الذي يمتلك القدرة الحيوية المطلوبة على الامتداد ، و على تغطية مساحات واسعة من فعاليات الحياة الإنسانية ، و على التعامل معها بشكل يبث فيها روح الحياة ، و يُطلق فيها معاني الحركة و النماء و التزكية .

  2. وحفظ (النفس) يُختَزَلُ إلى حفظ أصل الحياة فقط ، وتضمر فيه العلاقة بقيم الحرية والكرامة والعزة ، التي لامعنى للحياة الإنسانية بدونها . ويتأكد اختزال المعنى وضموره البالغ عندما نرى إفراد حرمة القتل فقط على أنها المثال على هذه الكلية الشرعية ، بينما تخرج عناصر الحياة الأخرى من دائرة الاهتمام ، فلا يرد ذكر انتهاك الكرامة والحرية الإنسانية ، في الأدبيات الفقهية على سبيل المثال ، على أنه خرق أساسي وتجاوز خطير لمعنى حفظ (النفس) ، رغم كل النصوص الثابتة والمتواترة التي تؤكد على ارتباط هذه المعاني العميق بأصل وجود تلك (النفس) ، وعلى قيمتها الرمزية البالغة المنبثقة من كونها منحةً وهبةً من الخالق الكريم . فضلا عن الأمر الخطير المتمثل في تأكيد نصوص القرآن والسنة بشكل متكرر على اعتبار تلك المعاني علامة التميز عن باقي المخلوقات ، وكونها مناط التكليف أصلا وقبل كل شيء آخر .

  3. وحفظ (النسل) يُختَزَلُ إلى مستوى حفظ النطفة في الرحم ، ولا تتم الإشارة إلى أي معنى وراء هذا الأفق الفيزيائي البحت . ثم يتأكد هذا الاختزال عندما نرى إفرادَ حرمة الزنا كمثال على هذه الكلية الشرعية . بينما تغيب كل المعاني الأصيلة الكامنة وراء وجود الأسرة كوحدة أساسية للوجود الحضاري البشري على هذه الأرض ، وللآفاق الواسعة لعلاقة الرجل بالمرأة في الحياة ، فيما وراء الاتصال الجسدي المباشر ، ولأدوار ومهمات كل منهما لتحقيق ذلك الوجود . وتغيب الإشارة – أخيرا – إلى دور المعاني الكامنة في كلية (حفظ النسل) في توفير وتأصيل وتزكية الشروط والعوامل التي تساعد على حفظ تلك الوحدة ، وتنظيم تلك العلاقة ، وتأدية تلك الأدوار والواجبات .

  4. وحفظ (العقل) يُختَزَلُ إلى مجرد حفظ الوعي والإدراك الحسي الخارجي الظاهر ، وتُغفل فيه الإشارة إلى ماينبغي أن ينتج عن وجود ذلك (العقل) أو الإدراك الخارجي الظاهر ، بحيث لا يقف الأمر عند مجرد (وجوده) ، بل تتم الدعوة إلى تأسيس وتأصيل و تزكية المعاني و الممارسات التي تعطي العقل دوره ليؤدي وظيفته في حياة الفرد والأمة. وإن مما يؤكد ذلك الاختزال إفرادُ حرمة شرب الخمر كمثالٍ على هذه الكلية في مجمل كتب الأصول . لتكون النتيجة في هذا الزمان واقعاً يجمع للأسف بين إنسانٍ يجتنب الخمر (في مُمارسةٍ هي في حقيقتها التزامٌ بمعنى حفظ العقل في حدها الأدنى) ، ولكنه – في الوقت نفسه – غيرُ قادرٍ على التفكير والاستفادة من مصادر المعرفة والتعامل مع الكون بمنطق الأسباب ، ليكون قادرا على تأمين الكفاية والمَنَعة . بينما ينطلق إنسانٌ آخر في مواقعَ أُخرى – وهولايلتزم باجتناب الخمر ، ويخرق معنى حفظ العقل بكل وضوح – لِيجُوبَ آفاق الكون ، ويكتشف سنن الحياة ، ويتعامل بمنطق الأسباب ، ويتحكم في مصائر البلاد والعباد ، في مُقابلةٍ مأساويةٍ وظالمةٍ لانود الدخول في تفاصيلها ، لكي لا (يكتشف) بعض (الأذكياء) في كلامنا إباحةً لِمُحَرَّمٍ ، أو ربما دعوةً إلى شرب الخمر على أنها سبيل البناء والتغيير …

  5. وأما حفظ (المال) فإنه يقتصر في أغلب الأحيان على الحفظ المادي البحت ، ولاتوجد الإشارة فيه إلى مجمل معاني السعي في الأرض والتنمية والعمل والبناء ، ولايوحي بالآفاق والأبعاد الاجتماعية والجماعية لوجود المال وحركته في الحياة بين الناس . ويتأكد هذا الاختزال بإفراد حرمة السرقة وحد القطع للدلالة على هذه الكلية الشرعية . أما إهدار المال الخاص والعام ، و تحكم العقلية الاستهلاكية، والفارق بين توظيف المال في المشاريع الانتاجية والاستهلاكية ، وأثر ذلك كله في تحقيق المقاصد الكبرى للشريعة على مستوى الجماعة البشرية ، أو حتى على مصير أفراد الأمة في الدنيا والآخرة ، أما كل ذلك فنادرا ما تتم الإشارة إليه على مستوى كتب الفقه والأصول .

وهكذا يمكننا أن نرى ملامح الاختزال في مجمل الطروحات الأصولية الفقهية التي تتناول تلك الكليات الشرعية من منطلق “الحفظ” السكوني البعيد عن التنمية والتزكية والارتقاء ، إلى درجة تفقد معها عملية الفهم المقاصدي للشريعة كل الحيوية والطاقة الكامنة فيها . وتفقد مبرر وجودها والحديث فيها . وبهذا تضيع أيضا المعالم المميزة للدور الخطير الذي ينتظر علم المقاصد ، والمتمثل في ردم الفجوة بين هدي القرآن والسنة من جهة ، وواقع الناس في قضاياهم ومعايشهم من جهة ثانية .

من هنا ، فإننا نرى أن إبقاء المقاصد على صورتها التاريخية وأمثلتها التاريخية ، وعلى أطرها وآفاقها المحددة ، سيجهض الدور الذي ينتظر هذا العلم ، مالم ينتهض لهذه المهمة الدارسون والباحثون لتأصيل المقاصد وتوسيع آفاقها ومعانيها ، بما يجعلها وسيلة الربط الفعالة بين واقع شارد يمثل حال أمتنا وحال البشرية اليوم ، وقمة الهدي الإلهي الخالد الذي قررته الرسالة الخاتمة.

 

1996 / 1416